في معنى أزمة الثقافة ووجوهها وحصائلها
ياسين الحاج صالح
في النقاش حول شؤوننا العامة وفي التفكير بها والكتابة عنها نصدر عن افتراض قابليتها لشرح عقلاني، ونؤسس على ذلك إمكانية اقتراح إجراءات عملية لإصلاحها أو تغييرها. قد نختلف ونتخاصم حول جذور مشكلاتنا، وقد تتباين منطلقاتنا في تناولها، وقد تتعارض مناهجنا في مقاربتها، لكن لا أحد منا يشكك في إمكانية تقديم شرح شاف لها، وفي قابليتها المبدئية للإصلاح.
والحال أن هذا الافتراض مسلّمة تعرف المثقف في العالم المعاصر وليس قضية يبرهن عليها. شفافية العالم الممكنة أمام «إعمال العقل»، وقابليته المبدئية للتحسين، هي من أصول عالم دنيوي حديث، يجسد المثقفون وعيه الذاتي أو ضمان مطابقته لنفسه. وهو ما يعني أن التشكّك في إمكانية شرح العالم وإصلاحه لا ينفصل عن التساؤل أيضاً عن دور المثقفين، ومن ورائهما عن النظام الثقافي القائم.
وكلا هذين، التشكك بإمكانية الشرح والإصلاح كما التساؤل عن دور المثقفين، يفرضان نفسهما على نطاق واسع في المحيط الثقافي العربي اليوم. يُحفزِّهما سبب عملي: إمعان أوضاع بلداننا في تدهور متعدد المستويات، سياسيٍ واقتصادي وديني واجتماعي وثقافي واستراتيجي، وتعذر نسبة مغزى تاريخي لهذا التدهور يعود عليه بشيء من المعقولية. وكذلك انقطاع تأثير الثقافة عن شروط الحياة العامة، وما يبدو من عجزها عن تقديم شرح شامل لهذه الأوضاع المتعثرة.
ما نظن أنه يمكن استخلاصه من التقاء التدهور العملي المتمادي مع العسر الفكري المطرد بدوره هو أننا نعيش أزمة ثقافية أساسية، أزمة في نظامنا الثقافي. وتتجاوز هذه التعطّل أو الاضطراب العميق في البُنى والأدوار الاجتماعية، بحيث يختلط السياسي بالاجتماعي بالديني والقانوني والثقافي… لتشمل تداخل الحاضر والماضي، والداخل والخارج، واختلاط الخاص والعام، مما يمكن رصد مظاهره في كل مجتمعاتنا المعاصرة.
الأزمة الثقافية حالةٌ من اللاتمايز المنتشر، نفتقد فيها جملة النواظم والقواعد التي يتشكّل بها العالم من حولنا، والمجتمع الذي نعيش فيه، وعوالمنا النفسية ذاتها. وفي هذا العالم المتفلِّت تَعمُّ الحيرة، وتتشوش المدارك، وتحتدم الانفعالات، وتشيع المبالغات، وتضيع معايير التمييز بين الأشياء والأفكار والأشخاص، وينتشر العنف. إنه «عالم بلا خرائط»، يفقد الناس فيه حس الموقع والاتجاه والتناسب، فيسود الشعور بالضياع والتيه، ولا يتفاهم الناس إلا في دوائر ضيقة، ما يتسبب في تجزؤ اجتماعي معمم.
ومع اختلال نظام الواقع على هذا النحو يختل نظام التوقع أيضاً، فيمتنع التقدير الرشيد ونخسر القدرة على التخطيط لحياتنا والتحسب للغد. أو أننا لا نستطيع القيام بذلك إلا في نطاقات تزداد ضيقاً.
ويبدو لنا أن هذه سمات محققة في واقع العرب المعاصرين. نتكلم على أزمة ثقافية لنقول إن الأمر يتجاوز أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية لا ريب فيها، ليطل على بنية وجودنا في العالم وعلاقتنا به وقدرتنا على التعرف إليه والتوجه السديد فيه. الأزمة الثقافية بهذا المعنى زلزلة عميقة للأمن الوجودي.
وليست «أزمة الهوية» غير أحد وجوه أزمة الثقافة. ومن أزمة الهوية أننا نفتقر إلى عناوين جامعة توحِّد مجتمعاتنا وتضمن تماسكها السياسي والثقافي والنفسي. تبدو مدركات العروبة والإسلام بؤر تخاصم ومنازعة تستثير اليوم أشد الانفعالات. بينما تبدو أوطاننا المعاصرة عناوين جغرافية، اختلافات سلبية لا مضمون إيجابياً لها. وتأخذ أزمة الهوية مظهراً دينامياً يتمثل في تنشيط تماهيات متعارضة ومتبادلة الإلغاء، تتوسع نحو أية معان وقيم ونظم فكرية قديمة أو حديثة لجعلها عناوين اختلاف وتمايز. وبقدر توسِّلها رموز تمايز وهوية، تكفُّ المفاهيم والمعاني والإيديولوجيات عن مطابقة ذاتها، أي تفقد هي ذاتها هوياتها أو دلالاتها الأصلية. فلا الإسلام إسلام، ولا العلمانية علمانية، ولا الوطنية وطنية، ولا اليسارية يسارية. كل هذه المدارك تُوظّف لتصليب تمايزات اجتماعية، مُكتَسبة أو معادٌ اكتسابها. يكاد التمايز الهوياتي يكون الشكل الوحيد للثقافة كنظام تمايزات واختلافات وفروق، أو لعله شكل الاحتماء الأنجع مما تنطوي عليه الأزمة الثقافية من تعرية جائرة للعالم والمجتمع والنفس.
وفي بيئة كهذه تتوسع «السياسة» لتشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية، وتتكشف عن قسرٍ شبه عار، هو ما يُقصد عادة عندما نتكلم على طغيان الأجهزة الأمنية. «الأمن السياسي» بالطبع ليس علاجاً صالحاً لاختلالات الأمن الوجودي. كذلك يتوسع الدين ليغطي الحياة كلها، ويتواتر القول إن «الإسلام عقيدة وشريعة، ودين ودولة، وعبادة وقيادة، وصلاة وجهاد»، وكذلك «مصحف وسيف» (الشيخ يوسف القرضاوي)، ما يعني في الواقع أن «الإسلام» عنوان للاتمايز.
نريد القول إن الظاهرة الإسلامية التي تربك المثقفين في عالمنا منذ عقود، وتقض مضاجع الحكومات، وتقلق الغرب، نتاج للأزمة الثقافية ومظهر لها في آن. بفعل «الحداثة»، انفصل الإسلام – الدين عن «النظام الإسلامي» بعدما كان هذا سنداً لذاك منذ زمن. هذا تحول تاريخي كبير، لا يبدو أننا عرفنا كيف نستوعبه ثقافياً ومؤسسياً وسياسياً، فإذ بنا نواجهه على شكل حلم هاذٍ بشمولية لا تغفل شيئاً، لم تتحقق في أي يوم من تاريخ الإسلام الفعلي.
في كتابه «العنف والمقدس» فسّر رينيه جيرار القربان أو الذبيحة، وكذلك الدين والطقوس بعامة، بالحاجة إلى تقييد العنف الذي يتولد عن الأزمة الثقافية بما هي أزمة لا تمايز عامة (للمراتب والأدوار والسلطات…). ولذلك سماها أيضاً أزمة قربانية، يتأسس على حلها نظام اجتماعي وثقافي جديد.
أزمتنا تؤشر إلى حاجة كهذه من أجل قطع الطريق على مسلسل تضحوي مستمر منذ عقود. يرهن بعضنا «الخلاص» العام بالتخلص من هذا الطرف أو ذاك (وحده التعريف الثقافي صالح للأطراف التي ينبغي التخلص منها) ويُعوِّل بعضنا على «انقراض» هو بمثابة شهوة ذبحية مكشوفة. وتنمو الروح العدمية عند الجميع، آخذة شكلاً عنفياً إرهابياً عند إسلاميين، وشكل تشاؤم وعنف لفظي حاد عند علمانيين. على أن نتذكر مجدداً أن لا شيء يطابق نفسه هنا، لا الإسلام إسلام ولا العلمانية علمانية. ما تلزم إضافته الآن أن سبب ذلك ليس مخاتلة واعية أو نصف واعية من جانب مستثمري العناوين المشار إليها. المشكلة هي اختلاط الكائن وليس عسر شرحه.
إذا كنا نجد عسراً هائلاً في شرح العالم، فلأن هذا العالم غير قابل للشرح. قلما تترابط فيه الأسباب والنتائج على نحو نسقي، ويشيع أن تنفصل الجهود فيه عن الثمرات، والأعمال عن القيم، والأسماء عن المسميات، فلا «قانون» يضبط معقوليتها. أزمة المثقفين جانب فحسب من أزمة الثقافة، الأشمل والأعمق.
خاص – صفحات سورية –