حركة حماس: التسلل إلى السياسة من الأبواب الخلفية
بكر صدقي
لم يشعر قادة حماس يوماً بحاجة إلى استفتاء الشعب الفلسطيني أو استشارته حين كان الأمر يتعلق بإطلاق «صواريخهم» على المستوطنات الإسرائيلية. ونادراً ما كانت تلك الصواريخ تصيب هدفاً، لكنها دائماً، في المقابل، جرّت الويلات على الشعب الذي تريد حركة حماس اليوم استشارته قبل الموافقة على تسوية سلمية مع إسرائيل. كذلك لم يستشيروه حين قرروا تقسيمه بين سلطتين حتى قبل قيام دولة ذات سيادة على أرض تحررت من الاحتلال بحدود معترف بها.
لا يمكن تفسير الموقف الجديد لحركة حماس من مفهوم التسوية السلمية إلا بالشطارة والفهلوة. فأن تشترط قبولها لهذا المفهوم باستفتاء الشعب الفلسطيني، ليس أكثر من محاولة مكشوفة للتنصل من المسؤولية ولسان حالها يقول إن قرارها جاء نزولاً عند «إرادة الشعب»! أما المقاومة المسلحة فهي «شرف» يخصها! ولا يفيد حركة حماس قياس موقفها بموقف عدد من القادة الإسرائيليين الذين ربطوا، في عدد من المناسبات، موافقتهم على «تنازلات مؤلمة» بموافقة أكثرية الإسرائيليين عبر استفتاء، لأن الجانب الإسرائيلي الذي يشعر بالتفوق المطلق على الفلسطينيين والعرب مجتمعين، يجد صعوبة فعلية في تجرع مرارة أي تنازل، وعنيت المجتمع الإسرائيلي، أكثر مما عنيت الحكومات المنبثقة من إرادته الحرة عبر نظام يتيح تداولاً سلمياً للسلطة. ومنذ بداية الألفية الجديدة مال المزاج العام في المجتمع المذكور نحو مزيد من التطرف، وبات أقل قبولاً لتسوية سياسية مع الفلسطينيين والعرب، ويمكن القول إن الحكومات الإسرائيلية، بما فيها تلك الأشد تطرفاً (حكومة شارون مثلاً) كانت دائماً أكثر مرونة في موضوع التسوية السلمية، من المزاج الغالب في المجتمع (في سنوات الألفية الجديدة دائماً).
ولا يمكن مقارنة ذلك بالفوز الانتخابي لحركة حماس الذي منحها غالبية كبيرة في البرلمان الفلسطيني قبل عامين. فالتصويت لحركة مسلحة ترفض التسوية السلمية جملةً وتفصيلاً، هو تصويت أيضاً على إقحامها في العمل السياسي، تفويض شعبي لها بقيادة العمل السياسي الذي تتصدر أولوياته بالنسبة للفلسطينيين عملية التسوية، مع فرضية ضمنية أن أحداً من الفلسطينيين، بمن فيهم حركتا حماس والجهاد الإسلامي، لا يؤمن بإمكانية إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة بالوسائل العسكرية.
على أي حال، يمكن العودة بهذا الصدد إلى الملابسات التي أحاطت بقرار حركة حماس المشاركة في الانتخابات التشريعية، فهذا القرار بحد ذاته كان موضع خلاف داخلي في الحركة، وعنى للكثيرين بداية تحولها من العدمية السياسية إلى العمل السياسي، ولا يمكن إغفال مسؤولية المجتمع الدولي، والولايات المتحدة خاصةً، عن خسارة فرصة التحول المذكور، بسبب انحيازهما الأعمى لإسرائيل من جهة أولى، وموقفهما المسبق والعدائي من الإسلام السياسي، من جهة ثانية. ذلك أنه لا معنى للحديث عن عملية سلمية من غير ضغط دولي على إسرائيل يرغمها على دفع الثمن المطلوب منها للسلام، وبالمقابل تعني محاصرة حركة حماس التي انتصرت في الانتخابات وشكلت حكومة، نبذاً لها من العملية السياسية ودفعاً لها نحو التطرف والعمل المسلح اليائس.
أن يكون «المؤتمن» على هذا الإعلان الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي لا يحمل صفة رسمية في الإدارة الأميركية الحالية، يوحي بعدم الجدية من الطرفين الأميركي والفلسطيني معاً، ويترك الباب موارباً أمام تنصلهما من أي التزامات، ويساعد حركة حماس، من جهة أخرى، على الاحتفاظ بالنبرة الممانعة.
يدفعنا القرار الجديد لحركة حماس إلى استعادة كامل مسار المقاومة الفلسطينية في نوسانها بين الخيار العسكري والخيار السلمي، وأبرز ملامحه القبول المتأخر بتنازلات لم تعد مقبولة من الأطراف الأخرى، وما ينتج عن ذلك من عودة إلى التطرف في المطالب ثم القبول مجدداً بشروط أقل عدلاً، تكون الأطراف الأخرى قد تجاوزتها إلى شروط أكثر إجحافاً للشعب الفلسطيني بالقياس إلى حقوقه المقرة من قبل الأمم المتحدة، وهكذا.. في مسار انحداري يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني وحده.
هل يحل التحوّل الحمساوي الأخير كل المشكلات؟ قطعاً لا. فالمشكلة الأساس إنما تكمن في عدم جاهزية إسرائيل والإسرائيليين للانخراط في عملية سلمية حقيقية، وما دام المجتمع الدولي يتهرب من مسؤولياته في إرغام إسرائيل على ذلك، سوف يزداد التطرف الفلسطيني، وسيوجد دائماً من يحل محل حماس أو غيرها، حتى إذا أبرمت اتفاقيات سلام مهينة وقائمة على الاستسلام الكامل للجانب الفلسطيني، وهذا ما يبدو أن الأميركيين والإسرائيليين لا يقبلون بأقل منه.
كاتب سوري
الحياة – 02/06/08