المشروع المتوسطي وملء الفراغ
جمال باروت
أرغمت المفوضية الأوروبية -بتأثير الموقف الألماني- فرنسا على تحويل مشروع «الاتحاد المتوسطي» إلى «الاتحاد من أجل المتوسط»، ومن مشروع تعيد فيه فرنسا بناء نفوذها كقوة متوسطية عظمى ،،
في إطار رؤيتها المتوسطية لموقع أوروبا بين القارة الأميركية وآسيا إلى مجرد بعد جنوبي من أبعاد الاتحاد الأوروبي على غرار بعده الشمالي المتمثل بتكتل دول البلطيق واسكندنافيا وأيسلندا، ومن بديل فعلي عن مسار عملية برشلونة إلى مجرد دينامية جديدة من دينامياته.
ورغم محاولة هذا الاحتواء للتطلعات الجيو-بوليتيكية الفرنسية فإن الصيغة الفرنسية الساركوزية لمشروع «الاتحاد المتوسطي» سلطت الضوء المبهر على أربع مسائل حيوية من مسائل الأمن الأوروبي هي:
الأولى: إخفاق مسار عملية برشلونة في إحراز أي تقدم حقيقي ملموس على محاور الأمن والسلام والتنمية والهجرة، منحصرا في حدود وآفاق منطقة التجارة الحرة الأورو-متوسطية التي تعني حرية التجارة وليس التنمية بالضرورة، مما يعني استمرار مشكلة الهجرة، واستمرار تحول إفريقيا إلى بوابة عبور للهجرة الإفريقية.
الثانية: مأزق المسارين اللذين طرحهما الاتحاد الأوروبي من جانب واحد على دول المنطقة عموما لتوسيع الأبعاد الجيو-بوليتيكية لمسار الشراكة الأورو-متوسطية (عملية برشلونة)، وهما سياسة الجوار وسياسة الشراكة الاستراتيجية مع البحر المتوسط والشرق الأوسط ومحيطه التي تشمل دول جنوبي المتوسط الداخلة في الشراكة مع الدول الواقعة «شرق الأردن» من خارج مسار برشلونة، واللتين بلورهما الاتحاد الأوروبي في إطار مرحلة الوفاق عبر الأطلسي بعد احتلال العراق، والتكيف الأوروبي مع مشروع الشرق الأوسط الكبير في شكل شراكة أوروبية-أميركية دعاها البعض شراكة في القيادة، ودعاها بعض آخر شراكة في توزيع الأدوار.
الثالثة: إخفاق أفكار إنعاش الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء، في إطار قيام حلف أوروبي-إفريقي لدعم التنمية في القارة السوداء، وتسريع وتائرها للحد من سيل الهجرة غير الشرعية التي تمثل منطقة شمال إفريقيا العربية وتحديدا المغرب أهم بواباتها من جهة، وقضم النفوذ الآسيوي المتنامي للمصالح الفرنسية-الإفريقية خصوصا، وبروز التحدي الآسيوي التنافسي في المتوسط.
لقد تضافر هذا الإخفاق والتعثر مع حدوث «فراغ» استراتيجي في المتوسط نتج عن تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، وإخفاقه في عملية إعادة هيكلة المنطقة في نظام جديد، وتحول الولايات المتحدة إلى استراتيجية «اللااستراتيجيا»، أي إلى الإدارة اليومية المخفقة والمتقلبة للمشكلات الكبرى التي تخبطت فيها، وهو ما أبرزه تقدم حركة الأحداث والتغيرات. ويعني هذا الفراغ الذي تتقدم فيه التنافسية الآسيوية بوتيرة سريعة وقوية كما تحاول فيه إسبانيا وإيطاليا مد نفوذهما- أن الاحتواء الألماني (المفوضية الأوروبية) للمشروع الفرنسي لن يكون نهاية المطاف، بل حلقة من حلقات التسويات التي اعتاد عليها مسار الاتحاد الأوروبي.
ويحتمل ذلك أن فرنسا ستعاود في إطار رحى التجاذب والتنافس حول ملء «الفراغ» الحاصل في المتوسط نتيجة تراجع الدور الأميركي المرشح إلى مزيد من التردي، وتعثر وإخفاق مسارات الشراكة الأورو-متوسطية، ومسارات سياسة الجوار والشراكة الاستراتيجية، والحلف الإفريقي-الأوروبي، تكييف «مشروع الاتحاد من أجل المتوسط» مع تصوراتها الأساسية لمشروع «الاتحاد المتوسطي». إذ تنظر فرنسا إلى مشروع الاتحاد المتوسطي كأساس لانطلاق استراتيجية أوروبية-أميركية يكون المتوسط مركزها بتعابير الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ويجيب عن حاجة أوروبا الجيو-بوليتيكية وسط أميركا وآسيا.
وفي الآن الذي ما زال فيه كثير من أبعاد الاتحاد الجديد غامضا وملتبسا، فإن الواضح فيه هو المنهج، والذي يمكن تكثيفه في المنهج الوظيفي للتكامل الاقتصادي الذي يفصل بين الاقتصادي والسياسي، ويراهن على تحقيق التكامل من خلال مشروعات تنموية ملموسة ذات بعد إقليمي يمكن قياس نتائجها. وهو نفس المنهج الذي سارت عليه عملية بناء الاتحاد الأوروبي، لكنه يتم هنا في شروط مغايرة: فهو يستبعد تركيا من الاتحاد الأوروبي، ويضعها في «منازله» أي في الاتحاد الجديد، وقد يعيد إنتاج مأزق قمم شمال إفريقيا والشرق الأوسط، والمفاوضات متعددة الأطراف التي تصورت واهمة إمكانية التطبيع في المنطقة قبل إحلال سلام حقيقي شامل فيها. ويعني ذلك أن التحديات التي تواجهه هي أكثر من كبيرة، إنها على وجه الضبط ضخمة ومعقدة، ولا تتعلق بجنوب المتوسط فحسب، بل وبمستقبل النفوذ الجيو-بوليتيكي الفرنسي والأوروبي في السياسات الأوروبية المتوسطية والإفريقية في عالم يتحول.
جريدة العرب القطرية