صفحات العالم

الأغذية الفاسدة تجارة فاضحة بالبشر

خالد غزال *
كشف النقاب في لبنان مؤخراً عن شحنات من الأطعمة الفاسدة تناولت شحنات قمح وسمسم ولحوم، انتهت صلاحيتها ولم تعد صالحة للاستهلاك، بل صارت عنصراً يهدد الصحة العامة وتتسبب بأمراض خطيرة. قبل هذا «الكشف» أثيرت في برامج تلفزيونية قضية الطعام الذي يتناوله اللبنانيون، استناداً الى تحليل هذه الأطعمة وسلامتها الغذائية ونسبة التلوث الذي تحمله، وقدمت في هذه البرامج شهادات عينية من أطباء ومن مواطنين لمسوا ما تحويه بعض الأطعمة من مواد تضر بالصحة. ما أثير في الإعلام، وما جرى كشف النقاب عنه لم يكن سوى «غيض من فيض» عن حجم المخالفات المرتكبة في هذا المجال، وعن الجرائم المباشرة وغير المباشرة التي تصيب المواطن اللبناني.
لا ينفرد لبنان في تزوير الطعام وتقديم ما انتهت صلاحيته، فالعالم العربي يضج بما هو أكثر بكثير من الحالة اللبنانية، بحيث تصل المخالفات والتجاوزات الى حدود قصوى، وتتحدث وسائل إعلام عربية دائماً، وبمقدار ما يجري السماح لها بذلك، عن مخالفات ضخمة ترتكبها مافيات الأغذية، ويجري الحديث فيها عن إتلاف مئات الأطنان من اللحوم والقمح والحليب والألبان، ناهيك عما يجري الكشف عنه من تقديم لحوم الكلاب والحمير والقطط الى المواطن على انها لحوم الأبقار والأغنام. وتمتد الظاهرة الى المدى العالمي فتتحدث منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» عن ملايين الأشخاص في العالم يعانون أمراضاً ناجمة عن تناول أطعمة فاسدة وما تتسبب به من مشكلات على الصحة العامة.
تندرج الأغذية الفاسدة في سياق المعضلات شبه المستعصية التي يعاني منها المواطن العربي في سبيل حياة تحمل الحد الأدنى من الأمان والاستقرار. وهي تلتصق وثيقاً بمعضلات الفقر والأمية والبطالة وتردي الصحة العامة… لتزيد من بؤس المواطن وعجزه عن المقاومة لما بات يشيعه أرباب السلطات الاستبدادية ومؤدلجيها من «القدر المقدر والمكتوب» على الإنسان العربي، الذي لا مفر من الهروب منه أو رده. لا تنفصل التجارة بالأغذية الفاسدة عن كونها تجارة فاضحة بامتياز بالبشر.
تقدم التقارير الطبية شروحات وفيرة عن مخاطر استهلاك أطعمة منتهية صلاحيتها وعن اثرها المباشر أو غير المباشر على صحة الإنسان. منها ما يتسبب بتلوث الأطعمة، ومنها ما يؤثر في التغيير الجيني وما ينجم عنه لاحقاً من تشوه الأجيال القادمة، وما تؤدي إليه به من أمراض سرطانية، ومنها التسمم المباشر الذي قد يودي بحياة الإنسان على الفور أو في علل تعمل في شكل بطيء على إنهاء حياته، أو ما تتسبب به من إعاقات عقلية وجسدية… وغيرها مما تحفل به التصريحات الصادرة عن مصادر طبية أو دراسات علمية، وكلها تتقاطع عند نتيجة واحدة تتصل بالمخاطر على حياة الإنسان وتطوره الصحي.
لم تكن تجارة المواد الغذائية الفاسدة يوماً عملاً فردياً في أي بلد من البلدان العربية، بل هي دوماً جزء من مافيا تضم تجاراً وأركاناً في السلطة والأجهزة الأمنية والقضائية أحياناً، بحيث نكون أمام شبكة من المتنفذين تستطيع أن تغطي المخالفات المرتكبة، أو التغطية على أقطاب في السلطة وتحميل المسؤولية الى «صغار» في هذه المافيا. وبالنظر الى حال الفساد التي تضج به الإدارات العربية والأجهزة، فانه نادراً ما يتم الكشف أو ضبط المخالفات، بحيث لا نرى منها سوى الجزء اليسير مما يجري على الأرض. ويصل الفساد الى درجة تواطؤ أجهزة طبية في هذه المخالفات، بما يقدم التغطية لعمليات السماح للأطعمة الفاسدة وتقديم الشهادات الصحية على سلامتها، أو التواطؤ في تغيير تاريخ صلاحية الكثير من الأطعمة وإعطائها تواريخ جديدة حديثة يطمئن المواطن الى شرائها عند قراءة تاريخ انتهاء استخدامها.
كما جرت الإشارة، يجري التواطؤ بين مافيا مكونة من رجال يقبعون في سدة الحكم العليا وسائر الأجهزة الإدارية والأمنية، بما يسمح في حماية المستوردين أو المزورين. تستخدم أسلحة متعددة في حماية أعمال هذه المافيا، من استخدام سلاح الرشوة المالية، أو التهديد المادي لمن يمكن له أن يفشي الأسرار، وعدم التورع عن اللجوء الى التصفية الجسدية، وصولاً الى سن تشريعات تجعل الحديث عن هذه الأمور من القضايا التي تمس الأمن القومي والسلامة العامة أو تتسبب بالفوضى، بما يسمح باستخدام القوانين لمصلحة المتاجرين، وبما يؤمن الحماية بل الرعاية لأعمالهم.
ساهم الإعلام المفتوح وضعف الرقابة عليه بسبب ما توفره ثورة الاتصالات من تواصل وتقديم معلومات خارج الصحف ووسائل الإعلام الرسمية، ساهمت في الكشف عن الكثير من الفضائح، لكن ما كانت تشير إليه يبقى الجزء القليل من كثير تضج به مجمل الأقطار العربية. لم تقدم لنا المحاكمات القضائية في معظم الأقطار العربية من أحكام تتناسب مع حجم الجريمة المرتكبة بحق المواطن والمخاطر التي نجمت عن تناوله أطعمة فاسدة. فمثلث السلطة والمال والقانون تتكفل بجعل هذه الجرائم مصنفة في باب الأحداث الجزائية العارضة.
تسلط مسألة التجارة بالأطعمة الفاسدة الضوء على واقع المجتمعات العربية وغياب المجتمع المدني والمؤسسات التابعة له في تأمين حد من الرقابة على ما يجري في المجتمع. تعزز السلطات القائمة من هذا الحجر، وتتشدد في منع هذه المؤسسات، إذا ما وجدت وبحدها الأدنى، وتسعى الى حجب المعلومات عنها، أو ترمي في وجهها قوانين تمنعها من ممارسة دور منوط بالأصل بالسلطات الإدارية والقضائية. لا نرى هذه المشاهد، بالحدة العربية السائدة بوقاحة، والفضائح المنتشرة في مجتمعاتنا، لا نرى مثيلها في المجتمعات المتقدمة، حيث تتعاطى السلطات مع هذه المسائل في وصفها جرائم حقيقية بكل معنى الكلمة، فتطبق على مرتكبيها أقصى العقوبات. مرة أخرى نحن هنا أمام تخلف مجتمعي شامل الوجوه، لا يوحي حتى اليوم بوضع حد للتجارة بالإنسان العربي.

* كاتب لبناني.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى