القومية تنتقم من أوروبا والعولمة
سعد محيو
أزمة اليونان لن تنتهي وإن هدأت، على رغم “التسونامي المالي” الذي وفّرته لها ألمانيا وصندوق النقد الدولي، لأنها في الواقع تعبير عن أزمة أعمق في أوروبا نفسها كما في العولمة .
وهذا على أي حال، ما أكدته قبل أيام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حين قالت “ أقول ببساطة، أصبح مستقبل أوروبا نفسه على المحك”، وحين قالت “الغارديان” البريطانية إن المرض الاقتصادي اليوناني “كان في الواقع بروفة حول الطريقة التي قد ينتحر فيها اليورو ومعه منطقته برمتها” .
والحال أن آلهة الأغريق الغاضبة هذه الأيام، كانت نذير شؤم مثلث الأضلاع بالنسبة إلى أوروبا والعولمة:
في الضلع الأول، هناك احتمال أن تلتهب الصراعات الطبقية مجدداً في القارة العجوز انطلاقاً من الشرارة اليونانية؛ فالأوروبيون، وعلى عكس الأمريكيين، لم يتكيّفوا مع الرأسمالية إلا بصعوبة، وإلا بعد أن أجبروها على تقديم تنازلات اجتماعية وصحية وتعليمية كبرى . واليوم، تأتي هذه الرأسمالية لتبلغهم بأن عليهم التنازل عن هذه المكتسبات (تحت شعار التقشف) . فهل سيقبلون أم يتمردون؟ التاريخ الأوروبي يعج بمئات التمردات والثورات .
الضلع الثاني للنذير هو ماتسبّبت به الأزمة اليونانية من انشطار عميق بين أوروبا المتوسطية “الفقيرة”، وبين أوروبا الشمالية الغنية . فقد شعر اليونانيون، ومعهم الأسبان والبرتغاليون والكثير من الفرنسيين، أن الألمان لم يعاملوهم كإخوة أوروببين يلم شملهم اتحاد واحد، بل كأجانب لاعلاقة لهم بأزماتهم وكبواتهم .
وهكذا، وبين ليلة وضحاها، كان يتبيّن أن الأوروبيين لم يتحوّلوا في الواقع إلى أوروبيين، بل مازالوا ألمان وإنجليز وإيطاليين . . إلخ، متعصبين لأمتهم القومية وأبعد ما يكونون عن بلورة هوية قومية أوروبية مشتركة . وهذا ليس على الصعيد الفكري والسياسي وحسب، بل حتى أيضاً على الصعيد الاقتصادي الذي كان في أسّ كل مشروع الاتحاد الأوروبي .
فالألمان لم يتحركوا لقذف طوق النجاة إلى اليونانيين، إلا بعد أن شعروا بأن الإفلاس المحتمل لأثينا قد يوجّه ضربات مؤلمة إلى المصارف الألمانية نفسها التي تعتبر الدائن الأكبر لليونان .
ثم هناك ،أخيراً، الضلع الثالث: الهزّة الكبرى التي تعرّضت لها العولمة من جرّاء هذه التطورات، وهي في الواقع هزة مفهومة . إذ بدأ الاتحاد الأوروبي الذي يُعتبر أعظم إنجازات العولمة، بالترنّح على وقع الشرخ بين أوروبا المتوسطية وأوروبا الشمالية، وقد لايطول الوقت قبل أن يتمدد هذا الترنّح إلى مناطق متعولمة أخرى (النافتا، آسيان، وغيرهما)، وقبل أن تنتهي “نهاية التاريخ” .
كيف؟ عبر انتصار الدول – الأمم على عولمة القرن الحادي والعشرين التي تقودها حالياً أمريكا، كما انتصرت على عولمة القرن التاسع عشر التي قادتها آنذاك بريطانيا، حين فجّرت هذه الأمم الحرب العالمية الأولى ثم الثانية .
لكن، مهلاً، هل الأمور وصلت حقاً إلى هذه المستويات الكبرى الخطيرة ؟ ألا يُحتمل أن يؤدي هدوء اليونان بعد هذه الحُقن الضخمة من القروض إلى تهدئة الوضع الأوروبي برمته، وإلى “تطييب خاطر” العولمة؟
ربما . لكن حتى لو حدث ذلك، على الأقل خلال السنوات الثلاث المقبلة، فهذا لن يشفي أوروبا الموحّدة من الجروح القومية التي منيت بها خلال هذه الأزمة، ولن ينجح في تلميع ولو جزء بسيط من الحلم الأوروبي . وقل الأمر نفسه عن العولمة .
الخليج