الاتحاد المتوسطي، ورقة نعوة الوحدة العربية؟
برهان غليون
في سعيه إلى إبراز تفرده في تجديد السياسات الفرنسية الداخلية والخارجية، أعلن الرئيس نيكولا سركوزي أثناء حملته الانتخابية عن عزم فرنسا إنشاء اتحاد متوسطي يضم بلدان الضفتين المتجاورتين، ويسمح لتركيا أن تجد إطارها الإقليمي الطبيعي بدل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومن أجل الحفاظ على هذا المشروع، الذي أصبح منذ ذلك الوقت محور رئيسي في سياسة باريس، قبلت فرنسا تنازلات جوهرية لإرضاء حلفائها في الاتحاد الاوربي، منها تغيير اسم الاتحاد من اتحاد البلدان المتوسطية إلى الاتحاد من أجل المتوسط، حتى يمكن ضم جميع البلدان الأوروبية، ومنها أيضا القبول بوضع المشروع في سياق الاتفاقات الأورومتوسطية التي شكلت منذ 1995 الإطار السياسي والقانوني الرئيسي للتعاون بين الضفتين، فأصبح بطلق على المشروع الجديد : عملية برشلونة-الاتحاد من أجل المتوسط.
وفي إطار السعي إلى بلورة موقف عربي مشترك من هذه الفكرة، اجتمع ممثلو تسع دول عربية محيطة بالمتوسط في القاهرة في 25 من هذا الشهر (مايو أيار)، وأقروا تكليف مصر، بصفتها منسقة مواقف البلدان العربية في المشروع الفرنسي المقترح، بإعداد الورقة العربية التحضيرية للاجتماع العربي الأوروبي المقرر عقده يومي 9 و10 حزيران المقبل في سلوفينيا للإعلان الرسمي عن ولادة الاتحاد الذي رشح حسني مبارك ليكون رئيسه الجنوبي.
يقول الأوروبيون أن الاتحاد الجديد يهدف إلى رأب الصدع المتفاقم بين ضفتي المتوسط، سواء أكان ذلك على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي. وإن الاتحاد سوف يعمل من خلال تركيزه على مشاريع ملموسة تمس ميادين التعاون الاقتصادي والبيئة والهجرة والأمن والحوار الثقافي، إلى تجاوز الأسباب التي أدت إلى فشل عملية برشلونة والعمل يمنهج أفضل يساعد على تقريب الأمم بعضها من بعض. ويعني هذا المنهج التعاون في ما يمكن أن يحصل من حوله اتفاق وترك شؤون النزاع السياسي العربي الاسرائيلي والقضايا الشائكة الأخرى من ديمقراطية وحقوق إنسان وغيرها إلى مرحلة لاحقة. وهذا مايوصي به أيضا وزير الخارجية الفرنسية الأسبق رولان دوما في مقال له نشر في صحيفة لومند الفرنسية (24 مايو). لكن من وراء هذه الأهداف المعلنة والمتعلقة بتجسير الفجوة بين الضفتين، تسعى الدبلوماسية الفرنسية إلى تحقيق غاية رئيسية هي استعادة باريس مكانتها في منطقة تكاد تخرج من تحت نفوذها، خاصة في المغرب العربي الذي يعنيها مباشرة بسبب موقعه الاستراتيجي الحساس بالنسبة لها، وحجم الاستثمارات الاقتصادية والثقافية واللغوية فيه، وتنامي وزن القوى الاسلامية المتطرفة، وما يمكن أن يقود إليه من زعزعة الاستقرار في أكثر من دولة شمال أفريقية، بما في ذلك مصر، وتأثير كل ذلك على أمن فرنسا واستقرارها، وهي التي تضم أكبر جالية أوروبية من أصول عربية وإسلامية لم تنجح بعد في استيعابها أو صهرها.
ولاستعادة هذا النفوذ وتأكيد الحضور الاقتصادي والسياسي والثقافي، وتعزيزه في إطار التنافس مع النفوذ الامريكي المتنامي في المنطقة بأكملها، تعتقد الدبلوماسية الفرنسية أن من الضروري خلق روابط لا تقتصر على لغة الاستثمارات والأرباح، وإنما تستخدم أيضا لغة العواطف والذاكرة والتاريخ والمستقبل. من هنا الحديث عن هوية متوسطية تجمع الأطراف، وتسعى إلى التعويض عن ضعف هذه الاستثمارات المادية والاستراتيجية أو عدم تلبيتها الحاجات المطلوبة، تماما كما سعت واشنطن إلى ربط مشروع الشرق الاوسط الكبير المتهاوي بمشاريع الدمقرطة العربية . وتأمل فرنسا أن تدفع أيضا، من خلال التركيز على هذه الروابط الثقافية والحضارية التاريخية، إلى تجاوز عقبة النزاع العربي الاسرائيلي أو تهميشها. وهذا ما ينسجم مع سياسة تل أبيب وواشنطن التي تريد أن تجمع العرب والاسرائيليين في مواجهة القوة الايرانية الصاعدة.
لم تكن بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى، وفي مقدمها ألمانيا، مستعدة للقبول بهذا النزوع الفرنسي لاحتكار المتوسطية والاستفادة منها على حسابها، فعملت بسرعة على تعديل فكرة الاتحاد الجديد بما يضمن مشاركتها جميعا فيه. أما الدول العربية التسع المرشحة لعضوية الاتحاد فليس لديها من القوة والوزن ما يجعلها تفرض مثل هذا التعديل على السياسة الأوروبية تجاهها. وهي سائرة بحماس، بالرغم من امتعاض البعض وشكوك البعض الآخر، نحو الانضمام إلى الاتحاد المتوسطي المقترح. فبإخفاقها هي نفسها في بناء اتحاد يجمع بين شعوبها، خسرت الدول العربية معاركها جميعا: معركة الإقلاع الاقتصادي ومعركة الأمن القومي ومعركة بناء الحياة السياسية الشرعية الضامنة للاستقرار والسلام الأهلي. ولم يعد أمامها خيار آخر سوى الالتحاق بالتكتلات الدولية الأخرى لتامين ما تحتاج إليه من شروط الاستقرار الأدنى والبقاء. وفي سبيل حفظ ماء وجه المتخوفين من التطبيع المجاني مع إسرائيل أعلن المسؤولون الفرنسيون أن الاتحاد سيتبع سياسة براغماتية. وكما سيكون هناك مشاريع يشارك فيها العرب مع إسرائيل، سيكون هناك مشاريع تعاون ترضي معارضي التطبيع لا تشارك فيها إسرائيل.
يأمل العرب من خلال الاتحاد مع أوروبا في الحصول على الدعم الاقتصادي لمواجهة العجز المزمن في ميزانياتهم واستثماراتهم، بل في وقف تدهور شروط الحياة الإنسانية الدنيا في بلدانهم، وفي تأمين الدعم السياسي للمواجهات الشاملة التي يعدون لها مع شعوبهم، وفي ضمان شراء صمت الدول الغربية وقبولها التغطية على الفساد وسوء الإدارة وهدر الموارد البشرية والمادية الذي يميز سياساتهم. ولا يهمهم كثيرا، بعد أن فقدوا رهان التعاون العربي والإقليمي، أن يكون الاتحاد المتوسطي ورقة نعي الجامعة العربية وأداة تقسيمهم بين من هو عضو في المتوسطية ومن هو خارجها، وبين العضو القابل للعمل مع إسرائيل وذاك الرافض له داخل الاتحاد العتيد ذاته. وفي تنافسهم في التنازل لنيل الحظوة الأوروبية لم يعد يعنيهم حتى حفظ ماء الوجه والتمسك بمشاركة جميع أعضاء الجامعة العربية، أسوة بمشاركة أعضاء الاتحاد الأوروبي جميعا في اتحاد أصبح اسمه رسميا الاتحاد من أجل المتوسط، وليس اتحاد دول المتوسط. فلماذا لا يمكن أن تكون اليمن أو العراق أو المملكة العربية السعودية أو السودان عضوا في الاتحاد من أجل المتوسط بينما تستطيع ذلك فيلندا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وغيرها.
ليس هناك عتب على الفرنسيين أو الأوروبيين. فهم يسعون وراء مصالحهم ويفكرون في المشاريع التي تستطيع أن تساعدهم على تحقيقها وتعظيمها. العتب على العرب الذين قبلوا بأن يكون اجتماعهم عبر المظلة الأجنبية ومن خلالها، وبالعمل على أجندة التنافس بين التكتلات الدولية التي تتنازع وتتقاسم السيطرة عليهم، وتبدد أملهم بالتحول إلى فاعل دولي. ويكفي أن نذكر أنه في الوقت الذي كان ممثلو الدول العربية السعيدة يتداولون في شان الدعوة الفرنسية للانخراط في اتحاد يلحقهم بأوروبة ويقطع عليهم طريق اتحادهم واندماجهم الحقيقي وفرص تنميتهم الفعلية، كان زعماء 12 دولة في أمريكا الجنوبية بقيت لقرنين في قبضة واشنطن القوية (الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وشيلي وكولومبيا والإكوادور وجويانا وباراجواي وبيرو وسورينام وأوروجواي وفنزويلا)، يوقعون في 24 من مايو الجاري اتفاقية في البرازيل لإنشاء اتحاد إقليمي أطلق عليه اسم اتحاد أمم أمريكا الجنوبية (أوناسور) يهدف، كما صرح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا داسيلفا، إلى تعزيز استقلال أمريكا الجنوبية وتحويلها إلى فاعل دولي، على غرار الاتحاد الاوروبي.
بئسا لهذا الاتحاد الالتحاق، وبئسا للعرب الذين قبلوا أن يحولوا بلدانهم، بعد قرون من الجعجعة القومية والتمسك المرضي بالسيادة والهوية، إلى حزام أمن للامبرطورية الاوروبية. فهل نحتاج بعد إلى دليل آقوى على تهافت السياسة العربية.
الحوار المتمدن