سوريا واستراتيجية الحزام
سليمان تقي الدين
يفترض ان يبحث رئيس الحكومة في زيارته الثانية لدمشق، التي لا بد ان تكون قريبة، وسابقة على زيارة واشنطن، العديد من الموضوعات التي أثير حولها الكثير من اللغط. في ظاهر الحال كأن الأمور تجري بين البلدين على سجيتها او طبيعتها ولا تحتاج الى تنظيم.
لا شيء يستعجل لدى الطرفين تكثيف اللقاءات «عبر المؤسسات الرسمية».
لا نعتقد ان هناك سوء تقدير للدور المحوري السوري على المستوى السياسي ولا الدور الاقتصادي. تستقطب سوريا الاهتمام من دول كبرى وتتركز عليها السياسات الدولية سلباً وإيجاباً. فتحت سوريا آفاقاً واسعة للتعاون مع دول المنطقة ومحيطها القريب، من روسيا والصين وإسبانيا الى إيران وتركيا وبين تلك الدول في ما يشبه نواة سوق اقتصادي معزّز بالتفاهم السياسي، إنها استراتيجية توسيع الحزام الدولي.
من المبكر القول إن ما يجري يعيد التوازن مع النفوذ او الدور الأميركي المتجذّر في معظم دول المنطقة. لكن من سوء التقدير عدم معرفة تنامي الدور الاقتصادي والسياسي التركي، او المصالح الروسية والصينية التي تتقدم بعد طول انكفاء. مع الفشل
العسكري الأميركي والأزمة المالية العالمية بأثرهما السلبي على أميركا وأوروبا، هناك وقائع جديدة لصياغة علاقات دولية فيها اعتراف بمصالح دول وأدوارها اقتصادياً وأمنياً. فقد صار مفهوماً اليوم ان تستعيد روسيا دورها في الرباعية الدولية التي رعت مفاوضات مدريد وأن تدعو لاستضافة مؤتمر دولي حول مشكلات المنطقة بعد استفراد أميركا بهذا الملف خلال عقدين.
ومن المفهوم أكثر ان تضيق دول مهمة ذرعاً بسياسات الغطرسة الإسرائيلية والاستهتار بالأمن في المنطقة والسلم الدولي جراء الطموح الى لعب دور إقليمي في مواجهة دول لها وزنها وأهميتها. ان تحذير روسيا وتركيا من مخاطر المغامرات العسكرية الإسرائيلية والسعي الى كبحها بالوسائل الدبلوماسية او بالمساعدة على بناء توازن عسكري في المنطقة بات سياسة ثابتة.
الجهود التي تبذلها دول كروسيا وتركيا والصين لاستبعاد الحرب ولبناء علاقات قائمة على احترام حقوق دول المنطقة وأمنها وتقدمها العلمي وتوازن المصالح ترسم حدوداً للعدوانية الإسرائيلية وللهيمنة الأميركية.
ما يحصل هو اتجاه قد لا يسمح في المدى المنظور بالحسم امام الأهداف الإسرائيلية لكنه في كل حال يبدأ في محاصرة الحريق الهائل الذي باتت تعنيه اية عملية عسكرية. على هذا الأساس يبدو لبنان الرسمي متفقداً للرؤية والمبادرة، وفي حال من الارتباك كمعظم النظام الرسمي العربي، ولا يملك الحوافز الجدية للتعامل مع المعطيات المستجدة.
في واقع الأمر لا شيء يمنع الحرب الإسرائيلية إلا هذا التعاون الواسع بين الجهات التي تقف في وجهها عسكرياً وسياسياً. كي نستبعد الحرب يجب ان نجعلها مكلفة على العدو وعاجزة عن الاستثمار السياسي او عن تحقيق أهدافها السياسية. هذا المناخ السياسي الدولي الذي تساهم فيه تركيا وروسيا ودول اخرى لتحريك التفاوض السياسي يؤكد عدم التسليم لإسرائيل بقدرتها على إلغاء او شطب القضية الفلسطينية والحقوق العربية الأخرى.
لبنان المستهدف حتماً من أي عدوان يحمي نفسه بثلاثة شروط: القدرة على الدفاع، وحدة موقفه السياسي، وتعاونه الجدي والفعال مع القوى والدول الرافضة للإملاءات الإسرائيلية. لا يملك لبنان قرار الحرب، ولا يستطيع واقعياً ان ينأى بنفسه عنها، له فقط ان يكون جزءاً متماسكاً من معادلة المواجهة، وان يتصرف بوعي لا بارتجال ولا بتردد.
ولبنان جزء من هذه الجبهة المحيطة بسوريا، وأولويته بناء علاقات سليمة وصحية في مختلف المجالات. أما السلبية التي تظهر من خلال هذا التأجيل لتنقية العلاقات، سياسياً واقتصادياً، فلا يمكن فهمها إلا في سياق المواقف المسبقة التي تضمر، كما في مراحل التوتر، احتمالات فصل المسارات او عزل المشكلات التي هي غير قابلة للفصل والعزل على صعيد الواقع. على عكس ما يتوخى البعض، فإن ترك الأمور خارج الوضوح وخارج التقنين وخارج بناء الثقة هو مصدر لخلل يحتل فيه الطرف الأقوى الأرجحية في تحديد طبيعتها.
تبدو سوريا من جهتها غير مهتمة ببعض اللبنان الرسمي وغير مبالية بمراجعة العلاقات والاتفاقات. يوفر لبنان مناخاً اقتصادياً مريحاً لسوريا فليس فيه قيود ولا تعقيدات، وليس هو السوق الواسع لمنتجاتها على عكس احتمالات تنشيط الدور الاقتصادي اللبناني في سوريا. كما يوفر لبنان مناخاً أمنياً وسياسياً ترتاح له سوريا نتيجة القدرات العسكرية للمقاومة وتعاون الجيش معها.
أما السياسة فقد استعادت توازنها برجحان لأصدقائها، وبانكفاء لخصومها. لبنان لا يثقل على سوريا بشراكته الفعالة كدولة في الحوار على الاستراتيجيات التي يجب اعتمادها بين الأطراف. يذهب بعض المسؤولين في زيارات خارجية الى دول باتت تنظر الى لبنان مجدداً من محيطه لا من داخله.
لم تعد العلاقات الأميركية او الفرنسية او حتى العربية قادرة على استخدام أطراف لبنانية في مشروع فعّال لاستهداف سوريا بصورة علنية. جل ما في الأمر هناك تشجيع لهذه الأطراف في لبنان او العراق او فلسطين على تأجيل الحلول السياسية النهائية التي تكرس التوازنات الوطنية وتنزع فتائل التوتر اللاحقة. تضغط أميركا في العراق بتقاطع مع إيران لاستبعاد المصالحة الشاملة والمشاركة، وتضغط في فلسطين لتعزيز سلطة «أوسلو» ونزع بعض المبررات من «حماس»، وتضغط في لبنان لعدم تكريس التوجه السياسي الاضطراري الذي تم في «الدوحة».
يقال إن كل هذا توازن قلق، وليس هناك أي تسليم بانحسار الدور الأميركي. لكن في هذه السياسة يدفع الثمن العراقيون من أمنهم، والفلسطينيون من مقومات وجودهم، واللبنانيون من فرص توحيد إرادتهم لحل مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية ومن استقرارهم السياسي. ستظل الطريق الوعرة الى دمشق أقرب وأسهل وأجدى من التحليق فوق المحيطات بحثاً عن خيار لبناني وهمي لم يصمد مرة واحدة في اكثر من تجربة.
عودة التوتر السياسي، سباق التسلح، تجميع القوى والأوراق والمواقع، يضع المنطقة على مفترق لاستيلاد تسوية او تفجير حرب. هذه لحظة دولية ملائمة لترويض الجموح الإسرائيلي الذي بدأ يواجه تحديات البقاء، بتوسيع استراتيجية الحزام.
السفير