الجفاف حول أهل الجزيرة الى مهاجرين يفرشون الأرض ويلتحفون السماء
كمال شيخو
الحياة وقفة عز
كان العام 2001 عاما مأساويا لأهالي الجزيرة, ففي ذلك العام جف نهر الخابور الذي كان يطلق عليه بعض الأهالي( نهر الخير والعطاء) كونه مصدر العيش ألأساسي لأغلب سكان تلك المناطق. وكانت تقدر الأراضي التي تستفاد منه حوالي(31933) هكتارا.
ولقلة هطول الأمطار الموسمية؛ اجتاحت موجة جفاف المنطقة الشمالية الشرقية, خلال السنوات الخمس المتتالية الأخيرة. نتج عنها نقص كبير في الموارد المائية, وجفت اغلب الينابيع التي كان الخابور يتغذى منها, رافقه انخفاض حاد في المحاصيل الزراعية – قمح وقطن وبقوليات ومواد أخرى- التي تشكل مصدر الرزق الأساسي لمعظم أهالي المنطقة, هذا الجفاف دفع بسكان القرى والقصبات التي كانت منتشرة على ضفاف حوض ووادي نهر الخابور, الى الهجرة منها. فالأراضي التي كانت تسقى وتستفاد من مائه, أصبحت الآن بور. وبعض الأهالي ممن كانوا يعتمدون على تربية المواشي, التي كانت مرتبطة بتدفق جريان النهر, لوفرة المراعي وحاجتها للماء, باعوها بنصف ثمنها كونها تحتاج الى علف وماء بشكل مستمر. الجفاف تسبب في هجرة آلاف الآسر الى مناطق مختلفة ومصير مجهول, وتقدر بعض التقارير الحكومية ان قرابة 250 ألف نسمة هاجرت من محافظة الحسكة وحدها. تاركين خلفهم الفقر والجوع والحاجة, قصدوا مناطق أخرى أصبحوا فيها لاجئين يعملون في أراضيها, بعد ان كانوا ملاكين ومربي أغنام وماعز وبقر.
مناطق انتشار متضرري الجفاف:
تنتشر تجمعات خيم الفارين من الجفاف؛ في ريف دمشق, وفي درعا, وطرطوس, وحمص. كما هاجر بعضهم الى دول مجاورة منها لبنان والأردن. ففي ريف دمشق؛ ينتشرون أينما وجدت أراضي زراعية, يسكنون بالقرب من الطرق العامة لسهولة تنقلهم الى أماكن العمل والترحال. ففي ريف دمشق ينتشر تواجدهم في حرستا – دوما – عذرا – النشابية – جديدة عرطوز – السيدة زينب – الضمير – خان الشيح – عرطوز وجديدة عرطوز. ومن هذه التجمعات: تجمع خربة الورد حوالي 80 خيمة, وتجمع حرستا حوالي 50 خيمة, وتجمع الشوفينيه حوالي 40 خيمة, وتجمع دوار الأشعري حوالي 70 خيمة, وتجمع دير العصافير حوالي 60 خيمة, وتجمع زبدين وجسرين يقطنها حوالي 120 خيمة, وتجمع المصلخ في دوما حوالي 50 خيمة, وكما لوحظ ان اغلب التجمعات يتراوح عدد خيمها بين 50 الى 100 خيمة. واكبر تجمع خيم, هو تجمع اوتايا, يوجد فيه قرابة 200 خيمة, وتعداد سكانه حوالي 2000 نسمة.
ابو أنور احد وجهاء تجمع خيم اوتايا, له مكانة اجتماعية خاصة لدى الأهالي, ويحظى باحترامهم, يحل خلافاتهم ويحاول ان يؤمن حاجاتهم. يسرد تاريخ المخيم بالقول: عمر هذا المخيم حوالي 10 اعوام. فبعد جفاف نهر الخابور نزح اغلب سكان القرى التي كانت تستفيد من جريانه, في سقاية الأرض وتربية المواشي. ولكن بعد الجفاف اضطر اغلب العاملين في الزراعة الى الهجرة. اما الى المحافظة وكانت نسبتهم قليلة جدا لفقرها ولعدم وجود مصانع او معامل تستوعب الآلاف ممن أصبحوا عاطلين عن العمل. او هاجروا خارج المحافظة وقصدوا العاصمة دمشق وكانت نسبتهم عالية مقارنة مع من هاجر الى المحافظة.
ويتابع ابو أنور كلامه: انا جئت الى المخيم بعد ان ضاقت العيشة بي في قريتي فانا من قرية المرقدة التابعة لناحية الشدادي في الحسكة. التي كان يعتمد اغلب سكانها على الزراعة وكانت تروى أراضينا من نهر الخابور, وبعد جفافه؛ هاجرا معظم أهالي القرية, ولم يبقى فيها الا الشيوخ والعجز, واغلبهم هاجر منها نهائيا. وباتت قرية خالية من السكان وانعدمت فيها كل مصادر الرزق. وفي العام 2001, أنا وعائلتي قصدنا هذا المخيم كان تعداده لا يتعدى أصابع اليد. وعام بعد عام كان يزداد عددنا, ولكن في الأعوام 2007-2008, وصل عدد الخيم الى حوالي 100 خيمة, وتضاعف العدد ليصل الآن الى حوالي 200 خيمة, ويقدر عدد سكانه حوالي( 2000) نسمة, لان المعدل الوسطي لكل أسرة 10 أفراد, فالمهاجر اصطحب كل عائلته معه.
من جانبها ترى الأخصائية الاجتماعية رولى حنا: ان من أهم أسباب الهجرة هو العامل الاقتصادي, حيث ترتفع معدلات حركة السكان بالتنقل من مكان الى آخر, ولاسيما الحركة الداخلية منها, وتعتبر من أهم الأسباب الرئيسية لهجرة السكان من الريف الى المدينة, ومنها الى مناطق داخل البلد نفسه. وتختلف عوامل الجذب والطرد للمهاجرين تبعا للمنطقة حسب وفرة فرص العمل وتامين دخل مالي جيد, بالإضافة الى عوامل لا تقل أهمية عن ما سبقها, كالخدمات من مسكن ومواصلات, وهذه الأسباب تلعب الدور الرئيس في هجرة تيارات جماعية, كهجرة عوائل كاملة من الحسكة الى العاصمة دمشق.
الخيمة التي يقطنها المهاجر:
خيمة عرضها 4 أمتار وطولها من 6 – 8 متر, بنيت من مخلفات بيوت الشعر التي اصطحبوها معهم, وبطانيات قديمة وحصر. يتوسطها قوس حديد على شكل مربع كداعم للخيمة, اشتروه من عند الحداد بمبلغ 8000 ليرة لبناء 6 أمتار. وتغطى الخيمة بطبقتين الاولى بطانيات قاموا بصنعها على يدهم, والثانية شادر او اكياس خيش, يفصل بينها عازل نايلون للحماية من أمطار الشتاء. ويبلغ مساحة الخيمة الواحدة حوالي 50 متر, قسموها الى غرفة استقبال ومطبخ صغير وغرفة ثانية وضعوا فيها ما اصطحبوه معهم من أدوات كهربائية ولباس. اما النوم فينقسمون الى مجموعتين: الرجال ينامون في غرفة, والنساء في الغرفة الثانية. يدفع الأهالي مبلغ 2000 ليرة على مساحة الأرض التي بنو الخيمة عليها, هذا المبلغ يتضمن أجار الخيمة وبدل الكهرباء وماء الغسيل. اما ماء الشرب يشترونها كل 40 لتر 35 ليرة.
تقسيم تجمع الخيم أشبه بتقسيم أي شارع, يتوسط المخيم شارع رئيسي ويتفرع منه شوارع صغيرة عديدة, وبنيت الخيم بجانب بعضها البعض للاستفادة من كل متر من تلك الأرض, لان المستأجرين استفادوا كثيرا من تأجير أراضيهم لهؤلاء النازحين.
ابو يوسف يسكن في مخيم على طريق دوما- عذرا. يقول: يطلب منا صاحب الأرض عندما يؤجرها لنا لبناء الخيمة, بالا نقول لأحد ان هذه الأرض مستأجرة, لأنه لا يعلم احد من هو صاحبها الحقيقي, نسمع انها ملاك لوزارة الدفاع, وهناك مستثمرين يقومون باستئجارها واستثماراها, لان تأجير الأرض تفيد أفضل من زراعتها, لان مساحة دونم واحد فقط, تؤجر لقرابة عشر عوائل, أي ان مستثمر الأرض يستنفع ب20000 ليرة شهريا, وهي أفضل من أي موسم يزرعه.
ام عبد امرأة في العقد الخامس من عمرها, من منطقة الهول التابعة للحسكة, لديها خمس شباب وثلاث بنات, هجرها زوجها بعد ان تزوج عليها وتركها هي وأولادها, تسكن في أحدى المخيمات على طرق دوما – عذرا( 24 كلم عن دمشق), تصف حالتها بأنها مأساة حقيقة فتقول:
أصبح لي في هذا المخيم قرابة خمسة أعوام, أعاني من آلام شديدة من كثرة التفكير بهذا الوضع, أفكر بمستقبل هذه العائلة التي هي شبه مشردة, فبعد ان هجرني زوجي وحملني مسؤولية هي اكبر من طاقتي, لم يتبقى لي الا العيش هنا, لأننا لا نستطيع العودة الى قريتنا لأنه لم يعد فيها أي مصدر للرزق والعيش, وهنا حالتنا تسوء عام بعد آخر, لأنه كل ما نقوم بجنيه من عملنا لا يكفي الا لأكلنا وما يتبقى ندفع أجار هذه الخيمة, وفي الكثير من الأحيان نعجز حتى عن دفع أجارها, وحالتنا تزداد فقرا وأصبحنا نفكر فقط كيف نؤمن لقمة العيش.
وعن مفهوم الفقر تضيف المختصة الاجتماعية رولى حنا: مفهوم الفقر هو مفهوم نسبي, فليس لدخل الآسرة موضوعا كميا فحسب, فقد يحقق دخل الأسرة وتامين مطالبها المادية وبالتالي احتياجاتها الأساسية من مأكل وملبس, ولكنه في الوقت نفسه لا يحقق لها الشعور بالآمن او إشباع رغباتها الاجتماعية, حيث تكمن الكثير من المشكلات التي يتعرض لها الإنسان والآسرة مرجعا السبب الرئيسي العامل الاقتصادي والحرمان المادي. لذلك يطلق مصطلح الفقر على هذه الحالة التي يعيشها الإنسان.
حوادث مأساوية:
احترقت أحدى الخيم العام الماضي في تجمع قريب من اوتايا حوالي 4 كلم عن دوما. الحريق كان نتيجة ماس كهربائي في أحدى الخيم, تسبب في إحراق قرابة خمسة وعشرين خيمة مجاورة لها, الحدث المأسوي الذي خلفه الحادث؛ احتراق طفلة صغيرة تحت لهيب النيران, كان عمرها حوالي ثلاث سنوات, ولم يستطع احد من أهلها او من الموجودين مساعدتها لشدة النيران المشتعلة. ولم تكن هناك أطفائيات قريبة منهم, ولا أي أداة تساعدهم على إطفاء تلك النيران التي سرعان ما امتدت لتحرق ما حولها. هذه الخيم هي كالوقود سريعة الاشتعال؛ لأنها مصنوعة من بطانيات قديمة, وصوف الأغنام ومخلفات القش. كما احترقت اغلب الوثائق التي كان يصطحبها معهم سكان الخيم – هوية شخصية ودفتر العائلة – ولم يتبقى منها الا رماد الحريق. وحسب الأهالي, قامت المحافظة بتعويض أسرة الطفلة التي احترقت بمبلغ 25000 ليرة فقط, ووعدتهم بأنها ستقوم بتعويض كل أسرة احترقت خيمتها, الا انه والى الآن لم يتم تعويض أي احد.
وفي حادث مأسوي آخر, هبت عاصفة رياح قوية في نهاية شهر آذار العام الماضي2009, أدت الى سقوط خيمة بكاملها في تجمع خيم خربة الورد التابعة للسيدة زينب( ). كانت مصنوعة من ألواح وصفائح التوتياء. سقوط الخيمة تسبب بوفاة أربع أفراد من عائلة واحدة. كلهم كانوا صغار السن تراوحت أعمارهم بين 4 و 9 سنوات.
يعلق ابو انور على هذه الحوادث: بعد سماعنا بالحريق في الشيخ فضيل وسقوط خيمة على رؤوس أصحابها في خربة الورد. قمنا باتخاذ بعض الإجراءات الوقائية, منها شراء منظم كهربائي للحماية, كما منع التدخين لمن يكون واقفا داخل الخيمة, ويشترط ان يكون جالسا وأمامه منفضة. كما قمنا بأجراء بعض الإصلاحات في خيمنا وقمنا بدعمها ببواري من حديث لتمكين سقف الخيمة, وحفر ما يدور الخيمة وتنصيب أعواد وحمالات خشبية, تسندها كي تقوى من أمطار الشتاء وعواصف الرياح.
ويضيف ابو انور: اذا احترقت خيمة واحدة تشتعل كل الخيم المجاورة لها. وهمنا الآن هو ان تحمينا هذه الخيم من أي حادث او مكروه لأنها ملاذنا الوحيد, لا نستطيع ان نستأجر بيتا, ولا نستطيع العودة الو موطننا, فالحال صعبة ونحن واقعون بين ناريين أحلاهما مر لنا, فما جرى مع غيرنا أعطانا درسا يجب ان يستفاد منها الجميع.
الفاو تحذر من كارثة إنسانية:
منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو), بدورها سارعت للوقوف على نتائج الجفاف وأضراره في المناطق الشرقية, ولاسيما في محافظة الحسكة, أكثر المناطق تضررا, قامت بين 17 حزيران و13 تموز في العام 2009، تشكيل بعثة مشتركة تضم مختصين من عدة منظمات دولية, بالتعاون مع وزارة الزراعة. لتقييم أثر الجفاف في الأعوام 2008/2009 على الموارد المختلفة، وزارت البعثة المحافظات الشرقية (الرقة- دير الزور- الحسكة)، وأجرت مسح شامل يرصد واقع الجفاف في المنطقة، للوقوف عند أضراره, وحذرت المنظمة من كارثة إنسانية ما لم يتم معالجة نتائج هذا الجفاف. فقد ذكر التقرير الصادر عن هذه البعثة:
” تأثّر مستوى المعيشة الضعيف للناس المصابين بالجفاف بشكل سلبي، بنقصِ إنتاج القمح والشعير في الأراضي البعلية، وكذلك بالنقص الجوهري في الدخل من تربية الحيوانات، حيث أثّرت سنتان (أو ثلاث سنوات في بعض المناطق) من الجفاف المدمّر، بشكل سلبي، في مصادر الدخل للمزارعين ومربّي الحيوانات والمجتمعات الريفية المصابة بالجفاف، وبالتالي في دخولهم، وأدّى هذا إلى زيادة الفقر؛ ما أجبرهم على المعيشة تحت خطّ الفقر الشديد (أي أقلّ من دولار في اليوم)، وفي ظروف شديدة الحساسية ”
ويضيف التقرير ان الجفاف المتتالي في المناطق الشرقية, اثر سلبا على جميع قطاعات الحياة فيها, حيث تضررت الزراعة والثروة الحيوانية, كما أشار التقرير ان جفاف نهر الخابور كان مفصليا في زيادة معاناة تلك المنطقة. نهر الخابور طوله حوالي 320 كم. ينبع من جنوب شرق تركيا ثم يندمج بنهر جغجق, ويصبا في نهر الفرات قرب مدينة الميادين التابعة لمحافظة دير الزور. ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي؛ بدأ يتناقص منسوب ماء نهر الخابور نتيجة جفاف بعض ينابيعه، فالخابور يتغذى عدا الينابيع في تركيا؛ من عدة ينابيع محلية في منطقة رأس العين، أهمها نبع عين كبريت، ونبع عين الحصان، ونبع عين الزرقاء الشمالية، وعين الزرقاء الجنوبية, وعين المالحة وعين الفوارة. فبعد جفاف هذه الينابيع جف نهر الخابور نهائيا.
وينوه التقرير ان الجفاف اثر على مربي الماشية, كما أدى الى بؤس سكان تلك المنطقة: ” أثّر الجفاف بشكل كبير على 38685 مربِّياً صغيراً للحيوانات في البادية- في المنطقة الشرقية (الحسكة- دير الزور- الرقة)، والمنطقة الوسطى الشرقية (حماة- حمص)، والجنوبية (ريف دمشق)- وهم الأكثر حساسية، باعتبار أنّهم فقدوا جميع أغنامهم.. ومن بين هؤلاء هناك 32 % في حماة، و30 % في الرقة، و28 % في الحسكة، و6 % في حمص، و0.3 % في دير الزور, فإنَّ المزارعين الصغار في منطقة الاستقرار الرابعة، (وبعضهم في المنطقة الثالثة في الحسكة)، والمربِّين في المنطقة الخامسة، (وبعضهم في المنطقة الرابعة)، يعدَّان المجموعتين الأكثر بؤساً وحساسية من بين السكان الريفيين المصابين بالجفاف، حيث يعيشون في الأوضاع الأشدّ صعوبة، وتحت خط الفقر.. هذه الصعوبة المستمرّة، أجبرتهم على الهجرة خارج قراهم وأماكن استيطانهم، إلى مناطق أخرى في القطر، أو إلى الخارج، بحثاً عن عمل يسدّ الحاجات الغذائية الأساسية لعائلاتهم، هذه الهجرة من الريف إلى المدينة، أو شبه المدينة، سبّبت مشكلة جدية لهذه المدن التي تعاني أصلاً من الاكتظاظ، وكذلك سبّبت مشكلة لسكانها ”
فالحسكة لم تتعرض الى موجة جفاف كالتي تجتاحها الآن منذ أكثر من أربعين عاما, وانخفض معدل نسبة الأمطار الموسمية فيها خلال العامين 2007 و2008 الى اقل من 66 % مما كان عليه سابقا, وكانت الإسعافات الحكومية الأخيرة خجولة مقارنة مع حجم الكارثة التي تتعرض لها, فهل من خطة جديدة لإنعاش اقتصاد هذه المحافظة؛ لعودة هؤلاء المهاجرين الى ديارهم؟!!
– كلنا شركاء