علي بن تميم المشرف على مشروع كلمة: اصدرنا 300 كتاب مترجمة من عشر لغات عالمية
أبوظبي ـ ‘القدس العربي’ ـ من فاطمة عطفة: ارتقى مشروع ‘كلمة’، وخلال فترة قياسية، إلى مكانة بارزة في المكتبة العربية، فهو يمثل مبادرة حضارية وإنسانية طموحة أطلقتها هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في أواخر العام 2007 برعاية ودعم الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي. ويقوم المشروع بتمويل ترجمة ونشر وتوزيع مختارات فائقة الجودة من الأعمال الكلاسيكية والمعاصرة من عدة لغات عالمية إلى اللغة العربية. وتختار ‘كلمة’ في كل عام مئة كتاب من روائع هذه الأعمال والمؤلفات ثم تقوم بترجمتها إلى اللغة العربية.
يدير هذا المشروع الثقافي المهم الدكتور علي بن تميم، الأستاذ في جامعة الإمارات والناقد المعروف بإطلالته الرصينة في لجنة التحكيم في برنامج أمير الشعراء واحتضانه المواهب الشابة والأخذ بأيدي الشعراء المشاركين في البرنامج… وفي لقاء مع الدكتور تميم تحدث عن أهمية هذا المشروع منذ انطلاقته في هذا الحوار:
*حدثنا عن المشروع، بداياته وسياساته وأهم إنجازاته؟
*انطلق المشروع بدعم من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، وقد شكل هذا بداية قوية ومبشرة للمشروع، فالمشاريع التي لا ترتبط بسياقاتها المحلية تواجه عقبات كبيرة في المستقبل، ولكن هذا لا يعني أن المشروع يتنكر للسياقات الإقليمية بدليل أنه نقل حتى الآن أكثر من 300 كتاب من عشر لغات عالمية، وهو ما نعتبره إنجازًا يستحق الفخر، فـ ‘كلمة’ تؤمن بأن الكتاب هو سفير المعرفة الكوني الذي لا يعترف بالحواجز ولا يقيم وزنا للحدود بين الشعوب والحضارات والثقافات، وقد استوقفتني مؤخرًا دراسة صادرة عن إحدى الجامعات الإيطالية تقول بأن العرب على مدى تاريخهم ترجموا 300 كتاب فقط من اللغة الإيطالية إلى العربية، 95 % منها أعمال أدبية، وهو رقم مفزع ومربك ويشير إلى مأزق حقيقي، خاصة وأن إيطاليا هي نافذة العرب الحقيقية تجاه أوروبا، والعرب لديهم علاقات قديمة ووثيقة مع إيطاليا. ومن هذا المنطلق، أخذت ‘كلمة’ على عاتقها سد هذه الثغرة المفزعة في المكتبة العربية وأطلقت مبادرة لترجمة أكثر من ثلاثين كتابا من اللغة الإيطالية في مجالات متنوعة، أي ما يعادل 10 % مما ترجمه العرب منذ بدء تاريخهم.
هذه هي سياسة المشروع، فهو يضع نصب عينيه اللغات الأخرى ويبحث عن إجمالي ما أنجزه العرب من ترجمات في كل لغة، ومن ثم يسعى إلى إكمال النقص. وإلى الآن، قدمت ‘كلمة’ في غضون أقل من سنتين أكثر من ثلاثمئة كتاب من أكثر من عشر لغات كالفرنسية، والإنكليزية، والألمانية، والهندية، والإيطالية، والإسبانية، واليابانية، والصينية، والروسية، والكورية، والكردية، والهولندية.
وتحرص ‘كلمة’ على أن تخاطب كتبها كافة أطياف المجتمع، لهذا تقدم كتبا للناشئة والأطفال، وكتبا للمختصين، وكتبا لعامة الناس. كما تمكن المشروع من ترجمة أكثر من سلسلة من الإصدارات المهمة، حيث ترجمنا سلسلة ‘ثقافات الشعوب’ التي تضم 73 كتابا، أعدها كبار الأنثروبولوجيين في العالم، الذين أثروا نظرية الأنثروبولوجيا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وتمثل هذه السلسلة أكثر من خمسين ثقافة شرقية وغربية وأفريقية. وأيضا، يعمل المشروع في الوقت الحالي على إطلاق ترجمة لعشر روايات يابانية جديدة لكتاب عالميين غير معروفين في العالم العربي.
*ما هي المصادر والقنوات التي تعتمد عليها ‘كلمة’ في اختيارها للعناوين؟ وما هي أبرز الاتفاقيات التي أبرمها المشروع مع المؤسسات الأجنبية المعنية بالترجمة؟
*يعتمد مشروع كلمة على جملة من المصادر والقنوات في انتقائه للكتب، بداية بقوائم الكتب الحائزة على الجوائز العالمية مثل نوبل والبوكر، حيث استطاع المشروع أن ينقل إلى العربية مؤلفات لأكثر من ستة أدباء مهمين من شعراء وكتاب رواية حصلوا على أكبر الجوائز العالمية، نذكر منهم على سبيل المثال الكاتبة الألمانية هيرتا مولر التي لم تكن معروفة في العالم العربي ولم يسبق أن ترجم أي من أعمالها إلى العربية، فاخترنا واحدة من رواياتها، ‘أرجوحة النفس’، وترجمناها إلى العربية بعد شراء الحقوق، وتزامن ذلك مع حصول روايتها هذه على جائزة نوبل للآداب، مما يؤكد بأن خيارات الانتقاء لدينا جيدة ودقيقة.
ومن بعد قوائم الجوائز العالمية تأتي اتفاقيات الشراكة الدولية مع المؤسسات الثقافية العالمية، نذكر منها اتفاقية الشراكة مع جامعة يوهانس غوتينبيرغ في ألمانيا، واتفاقية الشراكة مع المركز الثقافي الهندي العربي في نيودلهي، واتفاقية الشراكة مع معهد الشرق في روما، وأبرمنا كذلك اتفاقية مع الهولنديين لنقل 10 كتب من الهولندية إلى العربية، وهناك اتفاقية مع السويسريين أيضا، ونحن الآن في طريقنا إلى توسيع الاتفاقيات لتشمل مؤسسات من دول أخرى مثل كوريا وفرنسا وغيرها. وتكمن قيمة هذه الاتفاقيات في أن هذه المؤسسات تتكفل بتزويدنا بأحدث العناوين الصادرة في دولهم. وقد أثمر التعاون مع جامعة يوهانس غوتينبيرغ في ألمانيا عن ترجمة أكثر من ستين عنوانا من اللغة الألمانية، ومع معهد الشرق في روما عن ترجمة أكثر من 30 عنوانا من الإيطالية للعربية، ومع المركز الهندي العربي في نيودلهي عن أكثر من 30 كتابًا من الهندية إلى العربية.
وهناك المترجمون العرب أنفسهم، فالمشروع بالأساس يتبنى دعم المترجمين العرب، لذا نحن نعتمد عليهم في ترشيح العناوين المهمة، فالمترجم المحترف أمضى حياته في البحث والاطلاع، لذا نعطيه الفرصة ليرشح الكتاب الذي يود ترجمته.
ويضاف إلى كل ما سبق دور النشر العربية، الذين أطلقنا من أجلهم مبادرة جسور، وتهدف هذه المبادرة إلى دعم الناشرين العرب من خلال خلق حلقة تواصل والتقاء وتفاعل بينهم وبين الناشرين الدوليين. وتتلخص المبادرة في دعم كل كتاب بمبلغ 3000 دولار مقابل الحصول على 5000 نسخة.
*وماذا عن المترجمين، كيف يتم اختيارهم؟ وهل هناك آلية محددة للتعاون مع المترجمين؟ وما هو التصور الذي تضعونه في أذهانكم لدور المترجمين العرب في مشروعكم؟
*لا توجد قوائم رسمية نعتمد عليها لاختيار المترجمين، هناك مؤسسات ترجمة كثيرة لديها قوائم مترجمين، ولكن هذه المؤسسات ترفض الإفصاح عن قوائمها. ونحن في ‘كلمة’ نعتمد على أسس ومعايير نوعية في اختيار المترجمين، ولا تعتبر الشهرة هي المعيار الوحيد لاختيار المترجم، فالجميع يخضع لاختبار عينة الترجمة قبل أن يتم تكليفه.
يوجد مئات من المترجمين في العالم العربي لم يحصلوا على فرصة، ومن ضمن أهدافنا أن نمنح هؤلاء الفرصة لينضموا إلى الركب، كما حدث في سلسلة ‘ثقافات الشعوب’، حيث شارك فيها مترجمون عملوا في مجالات متنوعة من بينها الصحافة، وكانت تجربتهم معنا أول فرصة لخوض مجال ترجمة الكتب. وأثمرت هذه الفرصة عن إفراز 72 مترجما. وهكذا غدا لدينا قائمة تضم ما يزيد عن 500 مترجم.
كما طبقنا فكرة الاعتماد على كبار المترجمين في الدول العربية، حيث طلبنا من بعضهم أن يختاروا مجموعة من المترجمين الأكفاء ليعملوا تحت إشرافهم، حيث يتولى كل واحد منهم مسألة تكليف المترجمين ومتابعتهم ومراجعة ترجماتهم، ونتحمل نحن التكاليف وطباعة الكتاب، وقد أنتجت هذه الفكرة بدورها عددًا كبيرًا من المترجمين.
وقبل أن نبرم أي اتفاق مع المترجم نرسل له عينة من الكتاب الذي نود ترجمته، وبعد أن يقدم عينته يتم عرضها على لجنة التحكيم لتبدي رأيها حول جودة الترجمة، وهي من تقرر قبول المترجم وتكليفه بالكتاب أو رفضه. ويأتي هذا من نابع حرصنا على تجنب الترجمات السيئة التي تسيء بدورها إلى الكتاب الأصلي وتقلل من قيمته.
نحن نؤمن بأن المترجم له دور أساسي في عملية الترجمة، لذلك نسعى إلى إحياء دوره في إنعاش حركة الترجمة في العالم العربي، وإلى إبراز اعتزازنا بدوره الحضاري كونه يمثل القناة الأساسية التي تسهم ثقافيا في عملية الربط بين الثقافة واللغة. وهنا تحضرني أسماء النماذج المشرفة من المترجمين العرب القدامى من أمثال حنين بن اسحاق، الذي يروى أنه أمضى سنوات مرتحلاً في بلاد الأرض باحثًا عن اعمال الفيلسوف والطبيب الإغريقي جالينوس، جامعا الناقص من أعماله من بلد لآخر، حتى تمكن أخيرا من ترجمة أهم أعماله التي لولا ذلك لكان مصيرها الضياع، وهو ما أنجزه وتلاميذه في مدرسة ‘دار الحكمة’ الشهيرة مع الكثير من الأعمال التي كان لها الدور الأكبر في تطور الطب والعلم والفلسفة في العالم بأسره.
كما يحضرني قبل كل شيء الخليفة المأمون الذي كان يزن ترجمات المترجمين بالذهب تقديرًا منه لهذا الدور الجليل الذي تلعبه الترجمة في النهضة الحضارية للعرب والمسلمين، وعلى الرغم من اختلاف الأزمنة، وحقيقة أن العالم بات قرية كونية واحدة، وأن الوصول إلى كتاب ما لم يعد يحتاج إلى رحلة سنوات، هذه الأمثلة تبقى ماثلة نصب أعيننا، لتدلل على أن الترجمة ودور المترجمين فعل حركة وبحث واستقصاء واكتشاف، وعدم الاكتفاء بما هو متوافر أو ظاهر للعيان، فبعض أجمل كنوز المعرفة لا يزال ينتظر أن نذهب إليه ونكتشفه او أن نعيد اكتشافه، ولعل هذه هي الخطوة الأولى على طريق استعادة دورنا وإحياء عصرنا الذهبي في مسيرة الحضارة والمعرفة الإنسانية.
*ذكرت بأنكم تسعون إلى ترجمة كتب تخاطب كافة شرائح المجتمع، وأنكم لستم ضد الاختلاف…..هل لك أن توضح لنا فكرتكم في هذا السياق؟
*عندما ننطق كلمة ترجمة فهذا يعني الاختلاف وقبول الآخر في سياقات الاختلاف والتميز، فاحترام الآخر لا ينبع فقط من التفاعل معه في القيم المتشابهة وإنما أن ننصت إليه في اختلافاته، وأن نتعلم دروسًا من هذا الاختلاف، والعرب القدماء وبيت الحكمة أعطوا مثالاً عظيما لنا في نقل فلسفة الآخر ونقل النصوص التي تتعارض بشكل أو بآخر مع الثقافة العربية القديمة السائدة، ولم يكن المترجمون القدامى يفعلون ذلك بقصد مخالفة المجتمع وإنما كان في الواقع هدفهم هو خدمة المجتمع، لأن المترجم إذا أراد أن يبحث عن التشابه فإنه لن يضيف جديداً. الاختلاف هنا ليس فقط في القيم وإنما في مناهج البحث، وفي تناول الظواهر الاجتماعية أو البحثية، وفي المقاربات وفي تشكيل الكتاب. وأعتقد أن المشروع نجح في أن ينقل جملة من الكتب الأساسية الهامة في هذه السياقات.
ويبدو لي وعبر الدراسات التي أجريت أن العرب ركزوا كثيرا وبشكل كبير في ترجمة كتب الفلسفة والأدب الكلاسيكي، وكأن المعرفة القديمة فلسفة وأدب فقط. أنا أعتقد أن هذا فيه اختزال لفهم القديم، لهذا بحثنا ووجدنا كتبا أساسية لم تمتد إليها ايدي المترجمين من قبل، مثل كتاب ‘الشاي’ الذي ألف قبل مئة سنة، وهو كتاب عظيم ترجم إلى معظم لغات العالم ما عدا العربية، وعندما ترجمناه نحن إلى العربية اكتشفنا أنه حقق أفضل نسبة مبيعات.
نحن لا نسعى إلى أن نكون نخبويين متعالين على المجتمع، ولا نريد أن نكون تجاريين بامتياز، نريد أن نقترح عالما أدبيا، عالما يخاطب جماهير القراء والطلبة والمتخصصين في الوقت نفسه، وهو ليس بهدف صعب المنال، إذ أن مجمل وأعظم الكتب التي تصدرها المؤسسات ودور النشر العالمية اليوم هي كتب صممت على هذا النحو، صممت لتحترم القارئ العادي والقارئ المتخصص، وهنا نذكر على سبيل المثال السلسلة المتنوعة التي أصدرتها دار النشر البريطانية ‘رياكشن’، وأيضا سلسلة ‘اكسفورد’. فهذا التصور ليس قصرا علينا وإنما هو توجه عالمي، فاليوم هناك إدراك أكاديمي بأن الكتب المتخصصة جدًا لا تلقى رواجا بين القراء، ولا تخدم المجتمعات على نحو عام، وبدأت الجامعات مثل جامعة ‘شيكاغو’ في الولايات المتحدة الأمريكية، تصمم مقاربات جديدة وكتبًا جديدة تسعى الى الوصول للقراء من الشرائح كافة، وحتى العلماء والفلاسفة بدأت مقارباتهم تتبدل وتتغير، وهنا يمكن أن نسوق أمثلة مثل ‘امبرتو إيكو’، و’ تودوروف’، فلو عقدنا مقارنة بين كتابات امبرتو إيكو الأولى في النقد في الماضي وكتاباته في الحاضر، نجد أن كتاباته الحديثة أصبحت لا تتعالى على القارئ العام، بحجة النخبوية وبحجة صعوبة الموضوع، لقد وجدناه يصمم للموضوعات التي كانت معقدة جدا جملة من المقاربات المبسطة قدمها دون أن تفقد عمقها، وهذا في رأيي أمر مهم جدا.
وبما أن العلم في تطور مستمر، فنحن مع هذا التطور لنقدم للقارئ شيئا مختلفا، كتابا يشتبك مع مجتمعه وواقعه، وكتابا دنيويا بمعنى آخر.
القدس العربي