حسن الترابي كنموذج سياسي
محمد سيد رصاص
هناك شخصيات سياسية تثير الكثير من القلق والتوجس عند الخصوم الى درجة تدفع بالأخيرين إلى أن تتحدد حركتهم من خلال الضدية مع تلك الشخصيات القوية، وهناك في المقابل شخصيات تكون رغم تبوئها مناصب كبرى بلا قوام أو لون أو طعم محدد مثل عضو المكتب السياسي في الحزب البلشفي ليف كامينيف الذي يتحدث تروتسكي عن أنه عندما كان يتفاوض مع الأحزاب الأخرى مندوباً عن البلاشفة في صيف 1917 غالباً ما كان يرجع من تلك المفاوضات مقتنعاً بوجهة نظر تلك الأحزاب، ولتكون مهمة لينين وتروتسكي محاولة اقناعه بالتوجه الذي أرسله الحزب البلشفي للتفاوض حوله مع تلك الأحزاب.
هنا، يمثل الدكتور حسن الترابي (مواليد 1932) نموذجاً من الشخصية السياسية القوية، والتي غالباً ما يكون قميص التنظيم السياسي الذي تقوده ضيقاً عليها، تماماً كما يكون العكس في حالات أخرى يكون فيها القائد السياسي أضعف أو غير قادر على تثمير القوة الاجتماعية التي يكون التنظيم الذي يقوده متمتعاً بها. لهذا، كان الترابي، منذ تزعمه لـ”جبهة الميثاق الاسلامي” في الشهر الأخير من عام 1964، يملك ثقلاً في الساحة السياسية يتخطى قوة تنظيمه التي كانت متواضعة وفق نتائج انتخابات نيسان 1965، وهو بسبب هذا قد جرّ وراءه في خريف ذلك العام الحزبين السودانيين الكبيرين، أي “الأمة” و”الوطني الاتحادي” أصبح اسمه الاتحادي الديموقراطي في كانون الاول 1967، لكي يقوم البرلمان باستصدار قرار حظر الحزب الشيوعي الذي حلّ ثالثاً في تلك الانتخابات مستغلاً حادثة فردية جرت في معهد المعلمين بأم درمان.
هذا القرار أنشأ عملياً ثالوثاً سياسياً، وخاصة بعد تآكل قوة الشيوعيين منذ فشل انقلاب 19 تموز 1971 ضد النميري واعدام قادة الحزب الكبار، مازال يلوّن الحياة السياسية السودانية بطابعه، حتى بعد دخول التمرد الجنوبي في أيار 1983 على الخط. هنا، كاد اتحاد هذا الثالوث يطيح النميري في محاولة انقلاب 3 تموز 1976 المدعومة من ليبيا، وهو ما دفع النميري في العام التالي لكي يحاول فكفكة هذا التحالف الثلاثي من خلال استمالة الترابي، الامر الذي مدّ حكمه، المنهك بالإضطرابات ومحاولات الإنقلاب رغم الإنتعاش الاقتصادي ودعم واشنطن والقاهرة والرياض، بقدرة إضافية على الإستمرار لثماني سنوات لاحقة، فيما كانت فترة الحكم المدني ما بعد النميري صراعاً بين عناصر ذلك الثالوث من خلال اتحاد المهدي والميرغني ضد الترابي حتى استطاع الأخير، من خلال استخدام التنظيم العسكري لـ”الجبهة القومية الاسلامية” التي أنشأها الترابي في أيار 1985 عقب شهر من سقوط النميري، أن يطيح هذا الثنائي عبر انقلاب 30 حزيران 1989 الذي كان يبدو إثره الفريق عمر البشير وكأنه مجرد واجهة للترابي حتى ابعاد الأخير عن الحكم في الشهر الأخير من عام 1999.
عندما تحالف الترابي مع النميري، وأصبح وزيراً للعدل وكان القوة الدافعة لتطبيق”قوانين الشريعة الاسلامية” في أيلول 1983، اعتقد الكثيرون أن ذلك دليل على التلون وعدم الثبات في الموقع عنده، فيما تفكيره كان منصباً على التغلغل في جهاز الدولة المدني والعسكري والتحكم بالمراكز الاقتصادية، وبدون هذا ما كان ما حصل في يوم 30 حزيران 1989 ليحصل، رغم فاصل الأربع سنوات في فترة ما بعد النميري التي اتحدت فيها كل الأحزاب في دائرة جنوب الخرطوم لاسقاط الترابي في انتخابات برلمان نيسان 1986، ليكون نجاحها في منع دخوله البرلمان مترافقاً مع تحول تنظيمه الرقم الثالث في البرلمان والأول بين مقاعد الخرطوم وفي دوائر الخريجين.
أيضاً، في 12 كانون الاول ظنّ معظم المراقبين السياسيين أن ابعاد الترابي عن الحكم من قبل البشير، المسنود بغالبية تنظيم الترابي القديم، سيكون نهاية لحياته السياسية. يومها لم يقف معه سوى ثمانية، أحدهم الدكتور خليل ابرهيم الذي كان وزيراً في حكومة الخرطوم. في عام 2000 أنشأ الدكتور الترابي تنظيم”المؤتمر الشعبي”، الذي أصبح خلال عشر سنوات أقوى تنظيم شمالي معارض لحكم الفريق البشير واضعاً حزبي الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني وراءه من حيث القوة وإن اقترب الإثنان من الترابي منذ عام 2009 لإعادة تشكيل ذلك الثالوث القديم ضد البشير، وفي شباط 2003 قاد الدكتور خليل ابرهيم تمرد دارفور من خلال “حركة العدل والمساواة”.
إذا أتينا إلى تحليل سمات شخصية الدكتور الترابي، بعد عرض حركيتها بتموجاتها المختلفة صعوداً وهبوطاً، نجد وجود هدفية عنده ممزوجة مع براغماتية عالية في اختيار وسائل الوصول الى الهدف، مع أبعاد ثلاثة مجتمعة في شخصيته، غالباً ما هي منفردة عند معظم السياسيين في الأحزاب والتنظيمات أو اثنتين منهما عند عدد أقل، هي أبعاد “الفكر- السياسة- التنظيم”، وهي لم تجتمع إلا عند القلة من سياسيي القرن العشرين، مثل لينين وماو تسي تونغ والخميني، ليضاف الى هاتين السمتين سمة القدرة على تحمل العزلة والإنفراد في مواجهة مراحل الإنحسار والتراجع، ولو انفضّ معظم الأنصار وقتها عنه. وهي سمة تلاحظ عند الثلاثة المذكورين أيضاً. ثم سمة رابعة هي القدرة على إثارة الحرائق كما حصل ضد حكم الثنائي المهدي- الميرغني في الثمانينات وكما جرى ولو بشكل غامض ضد البشير خلال السنوات القليلة الماضية عبر تمرد دارفور ليعتقل الترابي بعد هجوم “حركة العدل والمساواة” على أم درمان في أيار 2008 ثم ثانية في أيار 2010 مع بوادر احتضار اتفاق شباط 2010 في الدوحة بين تنظيم الدكتور خليل ابرهيم وحكومة الخرطوم، وكان أول اعتقال له في فترة ما بعد ابعاده من الفريق البشير قد جرى بعد أيام من توقيعه في شباط 2001 على مذكرة تفاهم مع زعيم التمرد الجنوبي العقيد جون غارانغ وهي حركة تقاربية نحو خصم قديم للترابي أثارت الهلع عند الحكومة، التي وقعت اتفاقيتي مشاكوس (تموز 2002) ونيفاشا (كانون الثاني 2005) مع الجنوبيين، وهما ليستا بمختلفتين كثيراً عن محتوى تلك المذكرة.
في الحياة السياسية السودانية، وهي واحدة من ثلاث عربية كانت من أغنى التجارب مع المغربية والسورية التي- أي الأخيرة- كانت الأكثر فرزاً لشخصيات شكلت محوراً لتيارات وحركات متخطية للحدود مثل خالد بكداش وميشال عفلق وياسين الحافظ، أعطت الشخصية السياسية للدكتور الترابي نموذجاً خاصاً، لم يقترب منه أحد هناك سوى عبد الخالق محجوب وإن كانت شخصيته قد افتقدت بُعد “الفكر” دون المهارتين السياسية والتنظيمية، فيما في المغرب كان قريباً من ذلك كل من علال الفاسي والمهدي بن بركة ولكن مع براغماتية أقل، بينما نادراً ما اجتمع هذا الثالوث في شخصية واحدة عند السوريين، وإن أفرزت عاصمة الأمويين في فترة النصف الأول من القرن العشرين دهاة وتكتيكيين بارزين (صلاح البيطار- خالد العظم) وشاغلين كبارا للمسرح السياسي (خالد بكداش- فارس الخوري) ومشعلي حرائق ومحركي انقلابات (أكرم الحوراني) أكثر من أية عاصمة عربية أخرى.
(كاتب سوري)
المستقبل