هل أوضاعنا جامدة بالفعل لا تغيير فيها؟
ياسين الحاج صالح
ينتشر شعور عام بجمود الأحوال في البلدان العربية، وينعى أكثرنا انعدام التغير فيها. لكن لا يفوق شيوع هذا الانطباع غير كونه خاطئاً جذرياً. سنقول هنا إن مشكلة البلدان العربية بالأحرى أنها من أكثر بلدان العالم تغيّراً، غير أن تغيرها «خارجي»، غير مسيطر عليه اجتماعياً وسياسياً، وغير مستوعب ثقافياً.
في العقدين الأخيرين، تغيرت مجتمعاتنا كثيراً تحت تأثير ثورة الاتصالات العالمية وتكنولوجياتها: الأقنية الفضائية في تسعينات القرن الماضي، والانترنت والهاتف الخليوي في العقد المنقضي من القرن الجاري. كسرت الفضائيات الاحتكار الإعلامي للدولة وقوضت سيادتها المعلوماتية، وأجهزت عليهما شبكة الانترنت التي حطمت الرقابة على النشر والتواصل أيضاً. وكان للإنترنت مفعول ديموقراطي في توسيع القاعدة الاجتماعية للتعبير عن الرأي وصنع المعلومات، وكذلك في إتاحة تواصل أوسع بين الناس، ضمن البلد الواحد ومع مقيمين خارجه، مما لا يسهل على السلطات مراقبته. لكن التكنولوجيتين عززتا الحياة الخاصة في مجتمعات لا تتميز بقوة الحياة العامة فيها. والانترنت التي سهلت تداول المعلومات ونقلها الفوري العابر للحدود، يسرت كذلك إقامة تجمعات افتراضية جزئية، قد يشترك فيها آخرون من خارج الإطار الوطني. ويبدو أخيراً أنها الوسيط التكنولوجي الإعلامي الأبرز لتحدي المحرم الديني.
أما الهاتف الخلوي فقد أضحى علامة النضج والاستقلالية الأبرز، وهو يتيح التواصل الفوري وفي كل الأوقات بين الأفراد.
وعدا تأثير التكنولوجيا، هناك التزايد السكاني السريع في أكثر البلدان العربية. خلال أربعين سنة تزايد سكان سورية أربعة أضعاف: من نحو 6 ملايين نسمة عام 1970 إلى 23 مليوناً في العام الماضي. هذا مهول، ويرجح له أن يعني ضغطاً كبيراً على الأراضي الزراعية والمياه، وتضخماً للمدن، وازدحاماً وتلوثاً، وتدنياً في ما يتاح من خدمات لعموم السكان، وارتفاعاً لنسب البطالة ونمواً محتملاً في الأمية.
في المقام الثالث، وفي البال سورية أيضاً، هناك تغيرات النمط الاقتصادي والتحول من اقتصاد حكومي تشغل الدولة فيه موقع رب العمل الأول إلى اقتصاد سوق (غير تنافسي فعلياً)، وما يترافق معه ذلك من تحرير للتجارة، وكثرة السلع المستوردة في الأسواق، وظهور مراكز مدن حديثة تحاكي نظيراتها في البلدان الأغنى، لكن مع طرد الفئات الأدنى دخلاً إلى ضواحٍ بائسة. هناك أيضاً ارتفاع مهم في متوسط دخل الفرد إلى أكثر بقليل من ألفي دولار أميركي حالياً بعد أن كانت بالكاد فوق ألف دولار قبل 8 سنوات فحسب. لكن لا ريب في أن فوارق توزيع الدخل أكبر مما كانت في أي وقت سبق منذ خمسين سنة.
هذه عوامل تغير متنوعة، ظهرت خلال العقد الأخير بخاصة، وبمحصلتها ظهرت سورية مختلفة جداً عما كانت خلال نحو أربعين سنة قبلها. ليس هذا المثال استثنائياً بحال، وهو يكفي للقول إن مجتمعاتنا جامدة لا تتغير.
لكن بالفعل يبدو أن مجتمعاتنا لا تتغير على بعض المستويات، السياسي بخاصة. تدوم نظم وأنماط الحكم نفسها دونما تغيير بصرف النظر عن أدائها ومردودها في معالجة المشكلات الوطنية. هذا مهم لأن المستوى السياسي هو المعني بإيجاد حلول للمشكلات العامة وتنفيذها، أي المولج أكثر من غيره بضبط التغيرات الجارية وتيسير السيطرة الاجتماعيـــة عليها. فإذا كان هذا المستوى مُسخّــراً، أولاً وأساساً، لدوام نخب قائدة لا تتجدد، كان من المتوقع أن يكون دوره في السيطرة على التغير الحاصل أدنى.
تريد النخب تلك أن تكون المرجع الوحيد لتفاعلات محكوميها، فتعطل فرص نشوء انتظامات مستقلة عنها، حتى لو كانت لأغراض مهنية وخدمية ومحلية. وإذ تتولد في حياة مجتمعات مكونة من ملايين وعشرات الملايين مشكلات يومية متنوعة، فإنها ولا بد أن تحتاج إلى تدبر مرن وسريع على المستويات المحلية والقاعدية. فإذا أحبط هذا التدبر، فكأنما أنت تقيد الناس بينما تتناوشهم تغيرات عاصفة مجتاحة.
وبالمثل، لا يسع الثقافة أن تصف التغير وتشرحه، وتوفر للمجتمع استيعاباً معقولاً له، من دون نقاش حر ومن دون استقلال للمثقفين والاختصاص الثقافي، ومن دون منابر مستقلة للتفكير والنظر والنشر والنقد.
لا تستطيع الدولة، مهما تكن مؤسساتها فعالة ونخبة الحكم فيها مخلصة ونزيهة، أن تكون وحدها الجهة الضابطة للتغير والمعالجة لكل المشكلات الاجتماعية. تحتاج إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للتعاطي مع تيار التغير المستمر. المبادرات الاجتماعية القاعدية (وهي وفيرة لو لم تقيد)، والنشاط الثقافي النقدي والحر، فضلاً عن الدولة وأجهزتها، هي التي من شأنها أن تتيح لمجتمعات مليونية تملك تغييرات دافقة، منعها متعذر وغير مرغوب في آن معاً. والمقصود بتملك التغيير استيعابه الثقافي والتحكم السياسي به، وتحويله إلى مؤسسات اجتماعية وقواعد عامة وثقافة.
انطبـــاع الجمود في بلداننا متولد من أن مبدأ التغير المنظم والواعي، أي الدولـــة، انقلــــب إلى مبدأ لممانعة التغير، فصار يعاش من قبل الواقعين تحت وطأتـــه كقدر خارجي، لا يتبدل ولا يُذلّل.
لكن مصدر انطباع الجمود هذا (تسخير الدولة العامة لكفالة دوام السلطة الخاصة) هو ذاته السبب في كون مجتمعاتنا هي الأشد تغيراً على وجه الأرض. تقييدها السياسي من جهة، ووفرة التغيرات فيها وحولها من جهة ثانية، تُسبِغ على تغيراتها صفة مطلقة، برانية، أقرب شيء إلى انجراف سلبي.
وليس المقصود ببرانية التغير أن محركاته تقيم خارج بلداننا أو خارج ثقافتنا، بل بالضبط انفلاته خارج السيطرة الاجتماعية، أي كونه غير مستوعب وغير متحكم فيه. الاستيعاب والتحكم هو عمليات «الاستدخال» التي تصنع الداخل. يمكن عمليات التغيير أن تكون «داخلية» المصدر، التغيرات الاقتصادية في سورية اليوم مثلاً، لكن المجتمع معطل بطرق متنوعة عن التمكن من هذه التغيرات وتغطيتها ثقافياً، الأمر الذي يبقيها تغيرات خارجية، قدرية. «القدر» اسم للخارجية المطلقة التي لا سبيل لنا إلى التأثير فيها، بينما تتحكم هي بنا من كل وجه. بالمقابل، ما من حائل مبدئي من دون تمثل تغيرات «خارجية» المصدر، عبر «استدخالها» بوسائل المعرفة والتعليم، وبوسائل القانون والتنظيم الاجتماعي، وبوسائل الثقافة والإعلام، وبوسائل السياسة والإكراه أيضاً.
إن كان هذا التحليل قريباً من الصواب، على ما نقدّر، لزم تحرير الدولة العامة من الاستعمار الخاص الذي يحفزه نازع خلوده الذاتي إلى اعتبار محكوميه مصدر خطر يتعين تفريقه وتقييده. وحده تحرير الدولة يوفر لمجتمعاتنا المعاصرة قوة تنظيم لا منافس لها لاستيعاب تغيرات كثيفة من شأن الانجراف في تيارها المتدفق أن يكون مدمراً بدرجة لا تقل عن الانعزال عنها.
خاص – صفحات سورية –