من نقد الثقافوية إلى نقد الثقافة… والدين
ياسين الحاج صالح
يتوزع تفكيرنا المعاصر على مقاربتين متعارضتين في ما يخص العلاقة بين “العامل الثقافي” والشؤون السياسية والاجتماعية، والحضارية في بلداننا. تقرر مقاربة أولى أن أصل مشكلات العرب يكمن في ثقافتهم أو في دين أكثريتهم الذي هو الإسلام، ولا مناص تاليا من تغيرات ثقافية ودينية كبرى كي يتمكن العرب من أن ينخرطوا في عالم اليوم، فتتعلمن دولهم وتتحدّث مجتمعاتهم واقتصادياتهم، ويترقّون حضاريا. انتشرت هذه المقاربة منذ تسعينات القرن المنقضي، وتلقت دفعة قوية بعد 11 أيلول2001، وهي اليوم “شعبية” في أوساط عربية بدرجة لا تقل عن غيرها.
في المقابل، تتشكك مقاربة ثانية في هذا الطرح “الثقافوي”، وتُرجِع أوضاع العرب المعاصرة، “الاستثناء الديموقراطي العربي” في الخصوص، إلى عوامل سياسية أو اقتصادية أو جيوسياسية أو اجتماعية؛ وفي الغالب إلى مزيج منها. يتعلق الأمر هنا باختلاف عن المقاربة الثقافوية أكثر منه بمقاربة محددة تعي نفسها بالتقابل مع هذه.
المقاربتان قيد التداول أيضا في النقاش الغربي حول الشؤون العربية والإسلامية، بخاصة حيال ظاهرتي “الإرهاب الإسلامي” و”الاستثناء الديموقراطي”. من الأمثلة المفيدة جدا على المقاربة الأخيرة، مقالة تحمل توقيع لاري دايمند نشرت قبل أشهر قليلة، تتناول الاستثناء الديموقراطي العربي(1). أما الطرح الثقافوي فشعبي جدا في الغرب، وأشهر مثال عليه هو كتاب صموئيل هنتنغتون “صدام الحضارات”.
1
نلاحظ، قبل قول شيء في خصوص هاتين المقاربتين، أن تقويمهما يختلف وفقا لموقع مُتناوِلِهما. نقد الثقافوية المكتوب بالانكليزية (أو غيرها من اللغات الأوروبية) والموجَّه الى جمهور غربي، تجنح أوساط واسعة منه إلى استهلاك غير نقدي للتبسيطات الثقافوية الخاصة بأوضاع العرب والعالم الإسلامي، لا يستوي ونقد الثقافوية المكتوب بالعربية والموجَّه الى جمهور عربي. في الحالة الأخيرة يُحتمَل أن يتواطأ نقد الثقافوية مع السكوت عن بُنى وممارسات ثقافية ودينية عربية جديرة جدا بالنقد والمنازعة، إن من وجهة نظر فرص الديموقراطية، أو من وجهة نظر النهوض الثقافي وتفتح التفكير النقدي. الكتابات الغربية الناقدة لما يسمّيه محمود معمداني “الكلام الثقافي”(2) الغربي مفيدة جدا حتى للقارئ العربي، ولو لأنها أغنى وأعمق عموما مما هو متاح لنا وفي لغتنا من دراسات ثقافية ومن نقد لها. وهو ما يبقى صحيحا حتى حين يكون أصحاب تلك الكتابات عربا أو منحدرين من بيئات إسلامية أصلا.
لكن المتابع يشعر دوما أن هناك شيئا ناقصا فيها. هناك بالفعل مشكلات ثقافية ودينية عربية يتعين أن تُطرَح للنقاش وتكشف وتنتقد، ويُعترَض عليها عمليا. لا ينبغي أن تكون هذه المشكلات هي سبب “الإرهاب الإسلامي” أو “الاستبداد العربي” حتى يتعين الإقرار بها وقول شيء في شأنها ونقد السكوت عليها. يكفي أن تكون موجودة حتى يتعين الاهتمام بها نظريا ومواجهتها عمليا. فكيف إذا كانت موجودة جدا؟ هذه إما نقطة غائبة، وإما ترد كاستدراك عابر في كتابات مثقفين يساريين غربيين ومثقفين عرب ومسلمين، يقيمون في الغرب ويكتبون بلغاته، منذ إدوارد سعيد حتى يومنا. لا يريدون أن يعززوا مواقف اليمين السياسي والثقافي الغربي الذي يجنح إلى تفسير كل شيء في عالمنا بالإسلام، ويتخذ منه موقفا عدوانيا وعنصريا. هذا مفهوم في الإطار الثقافي الغربي. لكن حين تنتقل هذا الكتابات إلى أوساطنا الفكرية والثقافية، تتحول وظيفتها من وظيفة نقدية وانشقاقية هناك إلى وظيفة تسليمية وتبريرية، ربما تعزز بعض أسوأ خصائص ثقافتنا المعاصرة، بخاصة نزعتها الاكتفائية وذهنية الضحية الشائعة بيننا والموقف البارانوئي من العالم، فضلا عن إضعاف قيمة التراث الليبيرالي الغربي ومناهج البحث الحديثة في الفكر الغربي المعاصر. هذا جرى على نطاق واسع لكتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد، وكذلك لكتابه الآخر “الثقافة والامبريالية”. ويجري مثله بخبث، يزيد أو ينقص، لكتابات مماثلة. ثمة استهلاك واسع مثلاً لكتابات نعوم تشومسكي الناقدة للسياسة الأميركية، موجّهٌ نحو تدعيم الأوتاركية الثقافية والسياسية العربية، المعتادة على تخوين النقد والانشقاق في بلداننا.
2
إلى ذلك، فإن إنكارنا المشروع لتولّد الاستبداد والإرهاب تولداً طبيعياً وحتمياً من الثقافة العربية والدين الإسلامي، لا يعني في حال من الأحوال أن تشكُّلات هذين القائمة اليوم محايدة حيال الاستبداد والإرهاب، أو أنهما ليسا متشكلين اليوم فعلاً في صور تلائم الطغيان الدولتي والإسلاميّين العنفيين، أو أنه ليس من المرغوب أن يتشكلا في صورة أكثر مواتاة للديموقراطية والسياسة العقلانية، الأمر الذي يستبعد أن يتحقق من دون صراع مع تشكلاتهما القائمة. هنا أيضا لا ينبغي أن يكون الاستبداد والإرهاب منبثقين من جوهر ثقافتنا ومن صميم دين أكثريتنا، حتى تكون للإرهاب والاستبداد مراسٍ حصينة في الثقافة والدين عندنا، وحتى يجب علينا نقدهما ومخاصمتهما. يكفي أن يكون الاقتران محققاً تاريخياً حتى يكون مطلوبا نقدهما والاشتغال عليهما. والحال، إنه محقق. ليس فقط أن ثقافتنا لا تتوفر على عوامل مناعة ضد الاستبداد، وإنما هي تسهّل أمره عبر عقائد “الأصالة” ونزعات المحافظة اللغوية والدينية والاجتماعية. وليس فقط إن الإسلام المعاصر لا يمانع عنفاً يمارسه مسلمون استنادا إليه، بل إن تمركزه الذاتي المفرط ونزعته التكفيرية المنتشرة وغلبة البعد السياسي القانوني في تكوينه، تشجع العنف أكثر من الرفق.
3
أما الكتابات الثقافوية العربية فجديرة بالنقد لأسباب متنوعة، منها تواضع كفاءتها التفسيرية عموماً، ومنها ميلها إلى عزل العامل الثقافي عن غيره وتسييده على غيره، ومنها أنه نسخة مقلوبة عن الخصوصانية الإسلامية على اختلاف في جهة الحكم فقط، ومنها نزوع نخبوي يميني معاد للعامة والديموقراطية يسم أكثر معتنقيها، ومنها اصطفاف ممثليها نسقيا إلى جانب الاستبداد المحلي والقوى المسيطرة دوليا، ومنها أنها نضال سياسي ضيق، بل حزبوي، ينتحل الفكر النقدي والثقافة الحديثة أقنعةً له، ومنها خلوّ معظم نقدها من صفاء الروح وانشراح الصدر ووضوح المقصد؛ لكن ليس منها بحال شرعية، بل ضرورة، نقد الشأن الثقافي والديني العربي. ما قد يكون معادلا في بيئتنا لعمل إدوارد سعيد في الإطار الثقافي الغربي، هو نقد معمق لخطاباتنا والمؤسسات المنتجة لها والريوع المادية والرمزية التي تدرّها، وعلاقات السلطة المبطنة للخطابات المهيمنة، وضروب التواطؤ بين منتجي الخطابات وهياكل السلطة السياسة والاجتماعية وأنماط استهلاك هذه الخطابات وأنماط التماهي الاجتماعي المتشكلة حولها، وما إلى ذلك. أعني خصوصاً، الخطابات الدينية والقومية، وكذلك الثقافوية المنتحلة للحداثة. هذا ما من شأنه أن يكون ممارسة نقدية وتحررية، فيما من شأن الاستهلاك غير النقدي لعمل أمثال إدوارد سعيد أن يؤيد دعوى اليمين الشعبوي، الإسلامي والقومي، المتمثلة بعداء من دون تمييز للغرب، واحتفاء من دون نقد بالميراث الإسلامي والثقافة العربية. بالفعل يرتاح ناشطو التيار القومي الإسلامي لنتائج عمل سعيد (وليس إلى منهجه ولا إلى أخلاقيته) ارتياحاً بالغاً.
مقابل هؤلاء، لا نكاد نجد غير ثقافوية ضحلة بمعايير النقد الثقافي ذاته، ومتهافتة أخلاقيا (تفسر الاستبداد بالثقافة، فلا تلبث أن تنسى الاستبداد، وتختزل الثقافة ذاتها إلى دين، ويؤول بها الأمر عمليا إلى الوقوف إلى جانب الاستبداد: في بالي هنا الثقافويون السوريون). هذا فوق أنها لا تتساءل البتة عما إذا كانت الثقافة والدين ثابتَي التشكل ومتماثلين مع ذاتيهما دوما، على ما توحي صياغاتها النضالية الغالبة، أم أن تشكلهما الاستبدادي والعنفي تاريخي، مرتبط بصورة ما ببنى السلطة والثروة القائمة، المحلية والدولية، وتحولاتهما.
4
لعل مفهوم الإسلاموفوبيا الذي شاع في الغرب، ثم لدينا بعد 11 أيلول 2001، دالّ في هذا الشأن. المفهوم مشحون في دار منشئه ببعد انشقاقي ونقدي حيال عقيدة دوغمائية، تماهي الإسلام بالإرهاب، وتغذي الخوف من المسلمين (هم أقليات صغيرة في الغرب، من مرتبة 5 في المئة فما دون)، وتجعل كل مسلم متهماً بالعنف مبدئياً. من حيث يسمّي المفهوم هذا الواقع ويجعله عنوانا على خُوافٍ مرضي غير عقلاني، تسهر على انتعاشه أجهزة وجهات متنوعة في المجتمعات الغربية، فإنه (المفهوم) يشكل ركيزة جهدٍ نقدي لنزع الأسطرة والتشرير من ثقافة الغربيين، ولتطوير معرفة أكثر تحررا من النوازع النفسية والدينية والثقافية الخاصة وغير العقلانية، ومن أجل بلورة سياسة أكثر مساواتية وديموقراطية في بلدان الغرب ذاتها. بذلك يكون نقد الإسلاموفوبيا جزءاً من الثقافة الغربية بقدر لا يقل عن الإسلاموفوبيا ذاتها. أما حين يجري تداول المفهوم في ثقافتنا فإن دوره يختلف تماما. إذ يجري توظيفه هنا لإعفاء الشأن الإسلامي من كل نقد، وللإيحاء بأننا لا نعاني من أي مشكلات دينية المنشأ، وربما لإدراج نقد الدين في سياق سياسات اليمين الغربي المضادة للمسلمين والعرب.
لكننا في واقع الأمر، نعاني من مشكلات كبيرة مما لا يكاد يحتاج إلى تأكيد. العنف الشائع والمسوّغ دينياً في حياتنا السياسية والأسرية، الاستبداد وتشاكل سلطات الخالق والحاكم والأب، البنية الأبوية المتشددة للأسرة والدولة، الفصل بين الجنسين والتمييز ضد النساء، التدهور الثقافي وانتشار الأمية، الحرفية في فهم النصوص الدينية وجفاف المنابع الروحية في ثقافتنا، هيمنة أخلاقيات الرقابة والمنع وانتشار الرياء، الاكتفاء الذاتي الثقافي والأخلاقي (الظلامية)، النزعة الماضوية…
ليس من الضروري، نكرر، أن تنبثق هذه المشكلات جميعا من “جوهر” الإسلام حتى يكون نقد شأننا الديني مطلوبا. هي لا تنبثق من جوهر الإسلام، ولو لأنه ليس للإسلام جوهر ثابت متعالٍ على التاريخ. هي تنبثق من تاريخنا الحديث، والإسلام هو دين أكثريتنا في هذا التاريخ الحديث كما في أزمنة أقدم. أي أن مشكلاتنا الحديثة والمعاصرة لم تقع من وراء ظهره أو رغما عنه. فإن كنا من أكثر بلدان العالم تخلفاً ومعاناة من الاستبداد والعنف العام والخاص، فلا يمكن ألا يكون لتشكل الإسلام المعاصر والأصلي دور في هذه المعاناة.
نؤمن أن الثقافة العربية والدين الإسلامي قابلان للتشكل في صور أكثر ملاءمة للنهوض الثقافي والتحرر السياسي. لكن دون ذلك جهود كبرى، بخاصة فتحهما أمام التفكير النقدي الشكاك، ثم العمل على إصلاحهما وتحويلهما. هاتان عمليتان صراعيتان، لا تتمّان برضا صيغ التدين والسلطة الدينية القائمة، ولا باقتناع حر من القيمين على اللغة والثقافة العربية، ولا بالطبع بين يوم وليلة. إلى حين يتحقق ذلك، لا يسعنا أن لا نرى أن “الإسلام” اليوم يصطف إلى جانب بنى وممارسات استبدادية وتمييزية، ويميل الناطقون باسمه إلى تبريرها. وأن الثقافة العربية متمركزة حول ذاتها، لا تولي اهتماماً خاصاً بقضايا العدالة والحرية إلا حين تصيب عرباً.
نتكلم على تشكلات أو صورٍ تاريخية للدين والثقافة، ونضع مدرك “الإسلام” بين قوسين غالبا، بالضبط كي نشير إلى فاعلية التاريخ التحريفية، إلى أن أوضاع الدين والثقافة في أي وقت، هي أوضاع تاريخية، تتحدد ببيئتها التاريخية وليس بأصول عَقَدية للدين أو بقيم ثقافية ثابتة.
لا نستطيع أن ننتقد الثقافوية من دون نقد أساسها المنهجي المتمثل بالجوهرانية أو منطق الجواهر الثابتة. الإسلامية بكل تنويعاتها شريكة في هذا الأساس المنهجي.
5
التغير الثقافي والديني ضروري في المجال العربي. أولاً، كهدف في حد ذاته وبصرف النظر عن أي انعكاسات إيجابية محتملة له على تغيرات أخرى، اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. الثقافة التي تتغير، تكتسب حيوية متجددة وتتحرر الأذهان والمخيلات في ظلها. ثانياً، لاعتبارات تتعلق بالنظام و”الأناقة” اللذين قد يميزان ثقافة أعادت هيكلة ماضيها ومواردها الموروثة ووضّبتها في خزائنها المرتّبة، بخاصة إن جعلت من هذا التوضيب مفصلاً تاريخياً، نقطة انفصال محرر عن هذا الماضي. وثالثاً، لأن التشكل التاريخي المعاصر للإسلام، ما نسمّيه “الإسلامية”، يعرض معاداة لا ريب فيها للحريات الفردية والجماعية، وهو سلبي أيضا حيال الثقافة والخلق الفني والحس الجمالي، ونزّاع إلى الاكتفاء بالموروث العَقَدي والفكري والتشريعي الإسلامي. يضاف إلى ذلك تدخلية فظة في النطاقات الثقافية والتشريعية والاجتماعية. وكذلك ممانعة متأصلة للتمييز بين النطاقين الخاص والعام. في مجمله، هو عامل إعاقة لفتح فضاءات حرة في مجالات التفكير والسلوك والفن والأخلاق والعلاقات الجنسية والسياسة.
لا ينبغي لشيء أن يحول دون قول ذلك، ودون مقاومته.
هذا لا يتضمن أي مجاملة للثقافوية المزدهرة في بيئاتنا الاجتماعية الثقافية منذ صعود الإسلاميين، وأكثر منذ أيام البوشية وثورية المحافظين الجدد التالية لـ 11 أيلول 2001. بل هو ما ينزع منها موقع نقد الثقافة والدين الذي تسخره هي لمصلحة الاستبداد والنخبوية، وتوجهه ضد العامة والديموقراطية، كما سبقت الإشارة.
الواقع أنها هي من ناحية، والثقافوية الغربية المعادية للعرب والمسلمين من ناحية ثانية، عائقان نفسيان وفكريان قويان في وجه مباشرة نقد الدين والثقافة لدينا، يضافان إلى مقاومات الإسلاميين والقوميين ويعززانها. هذا لأن هذه (الثقافوية الغربية) تستثير تفاعلاً دفاعياً محافظاً، قومياً ودينياً، عند قطاع واسع من المثقفين وجمهور المتعلمين؛ ولأن تلك (ثقافويتنا في صيغتها العلمانية) تسخِّر النقد الثقافي لأجندة إيديولوجية ضيقة ومحافظة سياسيا، تعزل التحديث الثقافي والعقلي عن مطالب الحريات والمساواة والعدالة، فتخفق في أن تكون ثقافة تقدمية وتحررية.
لكن، لما كان نقد الدين والثقافة ضرورياً وحيوياً جداً، اقتضى وضوح مقاصده وتميّز تطلعاته التحررية نقداً للنقد الثقافوي. من شأن نقد النقد الشائع للدين بخاصة، أن يكون مدخلاً لنقد الدين، هذا الذي يبدو أنه يمتنع تدشين طور تاريخي جديد للثقافة العربية من دون خوض غماره.
على المستوى الفردي، لا نرى مدرسة للتدرب على التفكير النقدي والجذري، والعلماني، أهم من الاشتغال على الدين ونقده والصراع معه.
6
خلاصة النقاش أنه لدينا مشكلات دينية وثقافية جديرة باهتمام أوسع بكثير مما هو متاح حاليا. الثقافوية تسيء القيام بهذا الواجب بفعل انحيازاتها الإيديولوجية والسياسية وضيقها المنهجي المفرط. هي مظهر لأزمتنا الثقافية (والدينية) وجزء منها، وليست حلاً لها أو جزءاً من الحل. وهي أيضا ليست في حال من الأحوال تياراً فكرياً طليعياً، ولا تحمل في حال من الأحوال طاقة هيمنية تتيح تشكل أكثريات متحررة جديدة في أيٍّ من مجتمعاتنا. إنها مسلك نخبوي موتور، يلِج، مرة أخرى، طريقاً مسدوداً.
لكن مهما أمكن لنقد الثقافوية أن يكون ضروريا، فهو مدخل فحسب الى نقد الثقافة. ننتقد الثقافوية لأنها شكل متدهور من النقد الثقافي يحول دون توضيح مشكلاتنا الثقافية. لكن الثقافوية تستعيد اعتبارها بالكامل إن توسلنا نقدها لإنكار وجود مشكلات دينية وثقافية أساسية لدينا، أو للتقليل من شأن هذه المشكلات. ثقافتنا قاصرة ومفتتة، وإبداعيتها متواضعة، ولدينا مشكلات دينية كبيرة لا نظير لها على الأرجح في عالم اليوم كله.
التجدد الثقافي المأمول يمر تفضيلياً بالشغل النقدي على الإسلام والثقافة العربية، لكنه لا يتقيد بمجرد تجديدهما. إنه تطلعٌ إلى آفاق مفتوحة، لا يشكل الإسلام، ولا تشكل ثقافتنا اليوم، غير بعض ركائزها ¶
(1) http://www.journalofdemocracy.org/articles/gratis/Diamond-21-1.pdf
يفسر دايمند في مقالته المعنونة Why are there no Arab Democracies? الاستثناء الديموقراطي العربي بالهيكل الريعي للاقتصاديات العربية وما يتيحه من علاقات زبونية ورشوة قطاعات اجتماعية واسعة، ومن علاقات خاصة بالقوى الكبرى، الأميركية بخاصة، لحماية تلك النظم والمصالح البترولية لتلك القوى، ومن أزمات إقليمية، بخاصة الصراع العربي – الإسرائيلي الذي تتوسل به الحكومات لصرف انتباه شعوبها عن الإصلاح الداخلي. يتشكك دايمند، في المقابل، في تفسير العسر الديموقراطي العربي بالدين والثقافة.
(2) أي المقاربة الثقافوية في وصفها نظرة إلى العالم. أنظر مقالته:Mahmood Mamadani: Good Muslims, Bad Muslims: A political perspective on Culture and Terrorism المنشورة أصلا في مجلة American Anthropologist، في أيلول 2002. وهي متاحة على الرابط: http://essays.ssrc.org/sept11/essays/mamdani.htm
خاص – صفحات سورية –