تشومسكي: لسنا بعيدين عن بلوغ النازية
كريس هيدج
لم أرَ «شيئاً كهذا من قبل»، قال المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، وهو عند عتبة الثانية والثمانين من عمره. «الديموقراطية هشة»، ولم يبقَ هناك سوى الشحيح من الوقت لإنقاذها. هو يتحدث عن الولايات المتحدة، حيث نظام الحزبين مجرد وهم تديره الدولة ـ الشركة، وحيث المفكرون الليبراليون مجرد «متأنقين» أو «متزلفين»، وحيث الإعلام التجاري مجرد هراء يرمي إلى «غسل الأدمغة».
الولايات المتحدة اليوم تشبه إلى حد كبير «جمهورية ويمار الألمانية». أوجه الشبه «صادمة». في ويمار، «كان هناك خيبة أمل عارمة من النظام البرلماني». الحقيقة الأكثر إثارة للصدمة، برأي تشومسكي، «ليست في أن النازيين تدبروا أمر تدمير الديموقراطيين الاجتماعيين أو الشيوعيين، وإنما في حقيقة أن الأحزاب التقليدية، المحافظة والليبرالية، كانت مكروهة ومتلاشية، تاركةً فراغاً تمكن النازيون، بكل حنكة وذكاء، من ملئه».
عند هذا الحد، تبدو «الولايات المتحدة محظوظة جداً لأنها لم تشهد (بعد) صعود شخصية صادقة وتتمتع بالكاريزما»، فـ«كل الشخصيات الكاريزمية كانت واضحة بشكل جلي لدرجة أنها دمرت نفسها، سواء كانت مكارثي أو نيكسون أو الوعاظ الإنجيليين».
وإذا ما جاء شخص صادق ويتمتع بالكاريزما، فستكون هذه البلاد في ورطة حقيقية، بسبب الإحباط والوهم والحنق المبرر وغياب أي حل متماسك. ماذا يفترض من الناس أن يفكروا إذا ما قال أحدهم «لديّ حل، ولدينا عدو». ثمة من سيقول هذا العدو هو اليهود، ثمة من سيقول السود، وثمة من سيقول المهاجرون غير الشرعيين. سيقال ان الذكور البيض هم أقلية مضطهدة. سيقال ان على الأميركيين أن يدافعوا عن أنفسهم وعن شرف هذا البلد. سيتم تكثيف القوى المسلحة، وسيُرهق الناس. إذا ما حدث ذلك، فسيكون الوضع أكثر خطراً عما كان عليه في ألمانيا. الولايات المتحدة هي القوة العالمية. أما ألمانيا فكانت قوية فقط، لكن كان لها أعداء أكثر قوة منها. تشومسكي لا يظن «أننا بعيدون جداً عن بلوغ ذلك».
إذا ما صحت استطلاعات الرأي، فليس الجمهوريون من سيكتسح الانتخابات المقبلة، وإنما الجمهوريون في اليمين المتطرف، أي الجمهوريون المجانين.
«لم أرَ شيئاً كهذا في حياتي قط.. وأنا كبير بما فيه الكفاية لأتذكّر ما جرى في ثلاثينيات القرن الماضي» قال تشومسكي. حينذاك كان «كل أفراد عائلتي عاطلين عن العمل. كانت هناك ظروف أكثر بؤساً بكثير مما هي عليه اليوم. لكن كان هناك أمل. كانت لدى الناس آمال. كانت النقابات العمالية تنظم صفوفها. لم يعد أحد يريد أن يقرّ بأن الحزب الشيوعي كان رأس حربة العمال والحقوق المدنية وكان ينظم صفوفه، وكان ينظم حتى أموراً من قبيل منح عمتي الخياطة أسبوعاً لتمضيه في الريف. كانت هناك حياة. اليوم، لم يعد هناك أي شيء كهذا. المزاج المخيّم على البلاد مرعب. مستوى الغضب والإحباط والكراهية حيال المؤسسات ليس منظماً بطريقة بناءة. هي أشبه بأوهام ذات تدمير ذاتي».
لن يستمع تشومسكي لما يقوله راش ليمبو في برنامجه الإذاعي. «لكن ماذا عن الناس الذين يتصلون به. هم أشبه بقباطنة انتحاريين. ماذا يحدث لي؟ لقد قمت بكل الأمور الحسنة في حياتي! أنا مسيحي أخشى الله. عملت جاهداً من أجل عائلتي. أملك مسدساً. أؤمن بقيم البلاد وحياتي تنهار أمامي..». تلك هي نماذج مما يتداوله الناس.
رصد تشومسكي، أكثر من أي مثقف أميركي آخر، «الدوامة المتهاوية للنظام السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة»، في أعماله «حول القوة والإيديولوجيا»، و«إعادة التفكير في كاميلوت: جون كينيدي، حرب الفيتنام، والثقافة السياسية الأميركية»، و«جيل جديد يرسم الحدود: كوسوفو، تيمور الشرقية ومعايير الغرب»، و«فهم القوة: تشومسكي لا غنى عنه»، وغيرها من الأبحاث والأوراق البحثية والكتب، حيث يذكّرنا بأن البحث الحقيقي دائماً ما يكون مدمراً، لأنه يتحدى الافتراضات الثقافية والسياسية، وينتقد النظم، من دون أن يكلّ من انتقاد ذاته، لأنه يدحض الأساطير والصور النمطية التي نستخدمها من أجل أن نرفع أنفسنا ونتجاهل تواطؤنا في أعمال العنف والقمع. هكذا يجعل تشومسكي أصحاب النفوذ وكذلك أنصارهم الليبراليين، شديدي الانزعاج.
لكن تشومسكي يحتفظ بأقسى سموم انتقاداته للنخبة الليبرالية في الإعلام وفي الجامعات وفي النظام السياسي، التي تعمل كسحابة دخان لإخفاء وحشية الرأسمالية والحرب الإمبريالية. هو يفضح مواقفهم الأخلاقية والثقافية بالقول انها «زائفة». ولهذا هو مكروه، وربما مُهاب، في أوساط النخب الليبرالية أكثر منه في أوساط اليمين.
عندما قرر كريستوفر هيتشينز أن يصبح دمية في يد إدارة جورج بوش، بعد هجمات 11 أيلول، كان أول ما كتبه مقالا رديئا يهاجم فيه تشومسكي. هيتشينز، خلافاً لغالبية من خدمهم، عرف أي المثقفين يحدث فرقاً.
فهل اهتم تشومسكي؟ «لا أكترث لأكتب عن فوكس نيوز» القناة اليمينية، قال المفكر الأميركي «ذلك سهل جداً. من أتحدث عنهم هم المثقفون الليبراليون، أولئك الذين يصوّرون أنفسهم ويقنعون أنفسهم بأنهم قوة مشاكسة، شجاعة تدافع عن الحقيقة والعدالة. في الأساس، يفترض أنهم حراس العقيدة. هم من يحدد الحدود. هم من يقول لنا إلى أي حد بإمكاننا أن نذهب.. من دون أن نذهب بوصة واحدة أبعد. على الأقل في أوساط المتعلمين، هؤلاء هم الأخطر في دعمهم للسلطة».
لا ينتمي تشومسكي إلى أي مجموعة. يتجنب كل الإيديولوجيات. ويصر بعناد على الاحتفاظ بموقعه كمهاجم لكل المعتقدات، الرجل التي لا يثق بأي شكل من أشكال السلطة.
عندما سئل عن أهدافه، أجاب تشومسكي «أحاول أن أشجع الناس على التفكير باستقلالية، بأن يجادلوا في الافتراضات التقليدية. لا تأخذوها كحقيقة مسلّمة. ابدأوا بتبني موقف مشكك حيال أي شيء. اجعلوه يبرر نفسه. غالباً ما لا يستطيع. استعدوا لطرح الأسئلة. لما يعتبر تحصيلاً حاصل. حاولوا التفكير بالأمور باستقلالية. هناك كم هائل من المعلومات. عليكم أن تتعلموا كيف تحكمون على الأمور، أن تقيّموها ومقارنتها وتمحيصها. عليكم أن تقبلوا بالأمور بناء على الثقة وإلا فلن تتمكنوا من أن تنجوا. لكن إذا كان هناك أمر مهم وذو معنى، فلا تثقوا به على الفور. ما ان تقرأوا شيئاً غير معروف ارفضوه على الفور. إذا قرأتهم أن إيران تتحدى المجتمع الدولي. اسألوا أنفسهم ما هو المجتمع الدولي؟ الهند والصين والبرازيل ودول عدم الانحياز تعارض العقوبات. إذاً من هو المجتمع الدولي؟ هل هو واشنطن وأي ممن يؤيدونها من دون مساءلة».
جرأة تشومسكي للحديث بلسان أولئك الذين يعانون، مثل الفلسطينيين، غالباً ما تمر غير مرئية في الإعلام السائد، لكنها تملك في طياتها بذور الحياة الأخلاقية.
ترجمة وإعداد: جنان جمعاوي
السفير