صفحات سورية

ما الذي بقي ممكناً أمام بوش؟

null

نهلة الشهال

تحقق فوز باراك أوباما بالترشيح الديموقراطي، وهو فوز كبير الدلالة حتى وإن لم يعن سوى التعبير عن ارتفاع إحساس الأميركيين بالحاجة الى التغيير. وزاد جون ماكين من مساعيه للنأي بنفسه عن صفة المرشح لتوفير «ولاية ثالثة لبوش». وشطبت واحدة تلو الأخرى كل البنود المنظورة من جردة الحساب التي يمكن للرئيس الأميركي الاعتداد بها لاختتام مهيب أو لائق على الأقل، لعهده. وليس الأمر شخصياً (فحسب)، ولكنه بالأساس مرتبط بمآل حقبة حكم المحافظين الجدد. فعلى فرض أن وصولهم إلى السلطة في الولايات المتحدة لم يكن تطوراً إجبارياً في سياق تحقق سيطرة هذه الأخيرة على العالم كقطب أحادي، إلا أنهم قدّموا تصوراً عن بلادهم وعن العالم، وارتكبوا ممارسات – إطلاق الحرب الشاملة بعضها – تستند كلها إلى خط متماسك، يحتاج تفكيكه إلى انقلاب دراماتيكي عليه. أسمع أصواتاً تذكرني بأن الأمر لن يكون أصعب من الانقلاب على ستالين ونظامه، بمعنى أن تلك إمكانية متوافرة تاريخياً… وهذا صحيح. ولكن، هل بقي في جعبة بوش ما يمكن إطلاقه؟ وهل توفر منطقة الشرق الأوسط، ذات الأهمية الإستراتيجية على كل الصعد – والتي ركز عليها المحافظون الجدد، وبخاصة بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وحيث يوجد ربع مليون جندي أميركي، واحتياطي النفط العالمي بينما العالم يمر بوقت شدة – هل توفر ملعباً لهكذا مخرج؟

من المعلوم – كان معلوماً سلفاً – أن الوعد الذي أطلقه الرئيس الأميركي في أنابوليس بقيام دولة فلسطينية قبل نهاية عهده لن يتحقق. وكم كان سهلاً على السيدة كوندوليزا رايس التنصل من الوعد، بل وتبرئة ذمة رئيسها بقولها منذ أيام بأن التطورات «هناك» تعرقل هذا التحقق. وأوضحت أنها تقصد استمرار الانقسام الفلسطيني من جهة، و «الصعوبات» التي يواجهها إيهود أولمرت من جهة أخرى. وهو تبرير طريف، يفترض في متلقيه سذاجة قصوى، إذ تلك ليست تطورات مفاجئة، بل هي بعض مظاهر واقع الحال الناتج من انسداد الأفق أمام سيرورة التسوية السلمية ومنطقها. وهو انسداد تام، مكين، تتخذ سائر مظاهره عناوين أشد قسوة مما أوردت السيدة رايس، يأتي على رأسها الاستيطان المتزايد بوتائر منفلتة من عقالها، حملت مراقباً دولياً محايداً كالفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه، الذي تردد على فلسطين لأغراض بحثية أخرى مرتبطة باستطلاع أبعاد دينية وفلسفية، على قول ما نصه الحرفي: «بفضل العمل المميز على الخرائط للخبراء الجغرافيين التابعين للأمم المتحدة، تسنى لي ملاحظة تطبيق برنامج يتحقق بلا ضجيج ولا صحافيين، وينص ببساطة على الوصول إلى الحدود التي هي في الوقت الحالي حدود دولة إسرائيل: نهر الأردن. هكذا يتطور، بطريقة ليست مكيافيلية، وإنما هي في آن معاً حيوية، عفوية، وقطعية، استعمار استيطاني مترافق مع أعمال البنية التحتية، وتخزين الماء، واحتلال المرتفعات، ووصل مستعمرة بأخرى، مستعمرة تكون عشوائية فيجري بسرعة الاعتراف بها رسمياً…باختصار، هناك سيرورة على شكل محدلة. وهي لا تطابق الصورة المنتشرة في الخارج […]. إننا نشهد ما يقال له في أماكن أخرى تصفية عرقية، وهي لينة إلى هذا الحد أو ذاك، ولكنها تامة، لأنها الشيء من دون التسمية، فهي في آن معاً مستمرة ولكن خفية […]. على المرء أن يكون جذرياً بعض الشيء ليكون واقعياً. أعني الذهاب إلى جذر الأشياء. وأجد أن الفلسطينيين ليسوا جذريين كفاية. لست أشير إلى العنف، وإنما إلى الجذرية النظرية والعملية» (في مقابلة مع جريدة «الاومانيتيه» بتاريخ 26 نيسان الفائت). ويصف هنا دوبريه ما كان شارون قد عيّنه كمهمة له عند وصوله إلى الحكم في مطلع الألفية: «إتمام 1948». وقد قالها الرجل بعلنية ومن دون مواربة. وأما التكاذب العام السائد فوظيفته تسهيل هذه المهمة، أو وكما قال دوبريه في المقابلة نفسها، بأن الرضا به «يحولنا إلى أدوات تواطؤ».

ما يتبقى بعد من وعود بوش لا يعدو تهديدات تعلو وتهبط، بحسب الأيام، عن مخططات لاجتياح غزة، مرة بواسطة إسرائيل، ومرات بواسطة فرق فلسطينية دُربت على يد القوات الأميركية في معسكرات في الأردن… وإنما ذلك دونه أهوال، وهو على كل حال، وإن حدث، فينتمي إلى عالم آخر مجبول بالدم والخراب، وليس إلى المنجزات.

لبنان؟ وصلت فيه الأمور إلى حدودها بفعل تطورات الشهر الفائت، ومع انفجار الأزمة المحتقنة. ورست خريطة الممكن والمستحيل محلياً، وذلك باستقلال عن كمية الضجيج التي قد يتوفق هذا الطرف أو ذاك في إثارتها. وبات انهيار، بل وحتى انتكاس التعايش الصعب بين قوى سياسية متناقضة الى حد التنابذ، رهن وقوع حوادث إقليمية جسيمة. وعاد التسخين المحلي فولكلوراً خالصاً، أي بلا نتائج إستراتيجية يعتد بها، وهي هنا التمكن من إلحاق أذى بقوة حزب الله بوصفها جزءاً من المعادلة الإقليمية. وأما الخطاب الذي يستمر عليه أناس مثل السيد سمير جعجع ( وسواه، ولكنه الأكثر إصراراً!)، فيبدو إما مفوتاً، أو أنه لزوم الإبقاء الرمزي على ما يقال له «الملف» مفتوحاً. ولكن الجميع بات يعرف أنه لا نتائج قابلة للتسجيل…الآن. هذا علماً أن النتائج قد تأتي معاكسة لآمال من كانوا يستقدمونها، كما أبان تمرين الشهر الماضي.

سورية اختارت اللجوء في هذا الوقت الحساس إلى التظلل باللعبة التي تجيدها، أي استعادة السير بين النقاط. وهي أقدمت على مباشرة المفاوضات مع إسرائيل بوساطة أنقرة، فجمعت المجد من أطرافه، وأقصد العلاقة الوطيدة مع الامبرطوريتين الإيرانية والتركية. وبات أمرها مندرجاً في سياق تحقيق المصالحات العربية، وتنقية الأجواء من التسمم الفائت، مما قد ينجح أو لا ينجح، أو يستقر على حال من اللياقة، ولكنه لا يوفر للرئيس بوش أي مجال لاستخلاص المنفعة. إذن فهذا «ملف» آخر معلّق!

بقي بيت القصيد، العراق. هنا تدور معركة طاحنة عناوينها «اتفاقية الصداقة والتعاون الطويلة المدى»، و «اتفاقية النفط والغاز»… فهل حقاً كانت الإدارة الأميركية الحالية على هذا القدر من السذاجة لتظن أن الأمور تسير حثيثاً كما تشتهي، وأن الاتفاقية الأولى ستوقع في تموز (يوليو)، بينما كان يفترض إقرار الثانية منذ زمن! وهل حقاً يظنون أن تلويح الأكراد لسائر الأطراف باستعدادهم للتساهل في شأن كركوك – وهم عاجزون عن تحقيق إلحاقها كما يتمنون، وهي مسألة إقليمية لتركيا فيها كلمة فصل – يسهّل الأمر؟!

ما يطلبه الأميركيين من العراق اليوم يشكل مكسباً استراتيجياً كبيراً لهم لو تحقق وهو يناقض المصلحة الإيرانية، كما مصالح كبرى في العالم، منها تعريض روسيا لمصالحها العسكرية والاقتصادية في آن، وكذلك اللاعب الصيني الخفي. وعلى فرض أن إدامة اللحظة بعض الشيء ممكن، فيحصل توقيع ثم انقلاب في الوقت المناسب على الموقعين بوصفهم خونة، فلا يوجد ما يبرر الاستعجال بمنحه للرئيس المغادر بوش! وعلى أية حال، فليس كل الأمر بيد الإيرانيين أنفسهم، ولو شاءوا، بل أن ديناميات متضاربة تتحكم بالعراق، وبعضها محلي لا يستهان بقدرته.

فهل يلجأ الرئيس بوش إلى عمل دراماتيكي لفك كل تلك الأطواق… ولتقييد خلفه؟ أم يرحل على رؤؤس أصابعه، وإنْ استمر في إبداء الإعجاب بنفسه أمام المرآة؟ وهل يشكل رحيله طياً لصفحة لم تحقق للولايات المتحدة في نهاية المطاف سوى البؤس، بغض النظر عن امتلاء جيوب حفنة من المقررين فيها.

الحياة – 08/06/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى