رصاصات في الرأس لإستئصال الكلمات
جورج كتن
أوائل أيار، إثر الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، اغتيل الصحفي الكردي سردشت عثمان -23 عاماً –في إقليم كردستان وألقيت جثته مع رصاصتين في الرأس وآثار تعذيب واضحة في خراج الموصل. وقد شهد رفاقه الجامعيين خطفه في وضح النهار من أمام بوابة الجامعة في إربيل على مرأى ومسمع حراسها، إلى سيارة تشبه سيارات تستعملها ميليشيا حزب حاكم، اجتازت حواجز أمنية متعددة دون أن يوقفها احد.
كان سردشت قد انتقد بكلمات ساخرة السلطات في الإقليم ومحسوبياتها العائلية والعشائرية وبذخها وترفها على حساب بطالة وجوع الغالبية. وقد اعترف في مقالاته الاخيرة أنه هدد بالقتل إن لم يغادر أربيل، وأنه يعرف من سيقتله وما يخيفه ليس الموت بل الإستمرار في الحياة! وأنه سيصر على قول الحق طالما بقي حياً. وقبل اغتياله بأيام بعث برسالة لأصدقائه يطالبهم بجمع تواقيع للدفاع عنه، إلا أن القتلة كانوا أسبق فلم يستطع رفاقه الاحتجاج إلا بعد اغتياله، فخرجوا في مسيرة تندد بالجريمة لابسين السواد وحاملين نعشأ رمزياً كتب عليه: آزادي – الحرية – فريدم، ورفعوا شعار “الديمقراطية سراب في الإقليم”.
وهو ليس الحادث الوحيد فقد أحصت نقابة الصحافيين الكرد العام الماضي 350 حادثة اضهاد وتهديد وملاحقة واعتداء بالضرب ضد الصحفيين من قبل الاجهزة الامنية للإقليم. ومن المعروف أن قتل الصحفيين في العراق أصبح أمراً مألوفاً ويحصى ما بين 200 – 300 قتيل منهم منذ سقوط النظام الصدامي. كما أن سردشت ليس الكردي الوحيد فقد سبقه قتل الصحفي سوران مامه حمو – 23 عاماً أيضاً – في كركوك قبل عامين بعد كتابته لمقالات في مجلة “ليفين” الناقدة للسلطة عن الفساد الإداري والمالي في مدينته كركوك مشيراً إلى تورط مسؤولين من حزب حاكم في شبكات دعارة.
طالبت منظمة العفو الدولية – أمنستي – حكومة الإقليم بتحقيق مستقل وحيادي في مقتل سردشت وليس كما فعلت حتى الآن بتشكيل لجنة من موظفي وزارة الداخلية، وتحدثت عن تزايد الاعتداءات على الصحفيين الناقدين المرتكبة من أفراد جهازي أمن الحزبين الحاكمين: الباراستن والزندياري.
كما اعتقل العام الماضي إثر عودته من النمسا كمال السيد قادر الصحفي الحامل لدكتوراه قانون دستوري ودكتوراه علوم سياسية، وقدم لمحاكمة بتهمة “التشهير بالمسؤولين في الإقليم!؟” وحكم عليه بالسجن 30 عاماً! ولم يطلق سراحه إلا بعد ضغوطات مثقفين كرد ومنظمات حقوق إنسان وصحفيين من العالم وحكومة النمسا. من الواضح أن القضاء الذي حكمه ليس مستقلاً عن السلطة التنفيذية ويطبق الأحكام التي تمليها عليه، إذ ليس منطقياً إصدار مثل هذا الحكم في “جنحة” تشهير!
كل الشبهات تحوم حول الاجهزة الامنية، فالصحفيين المقتولين مقالاتهم متخصصة في نقد السلطات، والصحف المساهمين بالكتابة فيها معروفة بانتقادها للفساد والحكم الوصائي للحزبين، واشتكى القتيلان من التهديد الموجه لهما ولم يأبه لهما احد من السلطة، وخطف سرادشت تم ممن لا تعترضهم عادة الحواجز الأمنية.. رغم كل هذه الشواهد وجه مسؤولون التهمة للإرهابيين دون وجود اي دافع حقيقي. أما عن احتمال ترتيب الاجهزة لسيناريو قتله من أطراف اخرى فأمر غير مستبعد لدفع الشبهة عنها. ويمكن التمهيد لذلك بالحديث عن الإقليم المستهدف من الأعداء في الداخل والخارج وان الجوار يسعى لتقويض تجربة الإقليم الديمقراطية، والحادث مقصود للتخريب وإثارة الفتن والاحتراب الداخلي والنيل من وحدة الشعب وخدمة اعداء الكرد وتهديد الوحدة الوطنية والانتقاص من هيبة السلطة… وغير ذلك مما تستخدمه الأنظمة في المنطقة ضد معارضاتها، فلا جديد. ويمكن القاء التهمة على حزب التغيير المعارض، وهي لعبة تتقنها الاجهزة وتظن أنها “ذكية” : نقتل عدونا ثم نتهم عدو آخر لنا بقتله وهكذا نضرب عصفورين بحجر واحد.
لا ننكر أننا قلنا في السابق أن تجربة الإقليم في الديمقراطية رائدة، وهي ما تزال الافضل بالنسبة لدول الجوار، ولكن يبدو أن الاوضاع تزداد تضييقاً على حرية التعبير والنشر والاحتجاج والنقد، كما تنتقل أكثر فأكثر من حقوق حقيقية ممارسة إلى حقوق شبه صورية، إذ أنه توجد عشرات الصحف ووسائل الإعلام، وأكتب ما تشاء! ولكن انتبه لما تكتبه فيمكن تقديمك لقضاء أحكامه موجهة، أو يمكن ضربك لتلقينك درساً في عدم التعرض للمقامات العليا، وإذا كنت عنيداً يمكن سجنك عشرات السنين أو حتى قتلك إذا اقتضى الامر.
هناك “حرية” صحافة مع خطوط حمر وخاصة عند الحديث عن فساد الاجهزة الحكومية والعائلات الحاكمة وتفشي العشائرية والمحسوبية وهيمنة الميليشيات المسلحة للحزبين الحاكمين.. هناك انتخابات “حرة” ولكن مع ضمان نجاح الحزبين باستخدام المال والنفوذ الحكومي والترهيب والرشوة لدعم القوائم الحكومية وتهديد الموظفين بالفصل إن لم يصوتوا لها.. ولعل الانتشار السريع لحركة التغيير المعارضة رغم انطلاقها منذ سنة، يدل على مدى النقمة والاستياء، إذ حصدت نتائج غير متوقعة رغم حداثتها، ولا يعلم أحد ماذا تدبر لها الاجهزة فيما لو ازداد خطرها على استفراد الحزبين بالسلطة.
نقدنا لسلطة الإقليم لا يعني التخلي عن دعم ومساندة حقوق الاكراد القومية والسياسية والثقافية في جميع اماكن تواجدهم، كما فعلنا في السابق، إذ ان هذا مبدأ لا يمكن الحيد عنه، لكن النقد يجب أن يفهم من المثقفين الكرد على أنه للحرص على نجاح التجربة وتخليصها من الارتكابات التي تسيء إليها وتتعارض مع الديمقراطية وحقوق الإنسان ومصالح الناس في الإقليم ولتعطي مثلاً للجوار العربي وغير العربي، إذ لا يمكن قبول تحول المناضلين السابقين في السلطة إلى حكام مستبدين يسخروا تاريخهم النضالي لتبرير مراكمة الثروات والنفوذ والاحتفاظ بالكراسي التي تدر ذهباً.
تصرفاتهم هذه ليست مستغربة فقد سبقهم إليها أترابهم من الجوار العربي، والتجربة الناصرية ماثلة حيث التفت الجماهير حول القيادة البطلة التي تصدت للدول العظمى، ثم افسدتها السلطة مع الزمن فتحولت للاستبداد وتنمية المصالح الذاتية. وتبعتها التجربة البعثية وجبهة التحرير الجزائرية في الانتقال من النضال الوطني والقومي إلى السلطة الفاسدة والمستبدة.. ويمكن الحديث صفحات طويلة عن الشيوعيين السوفييت قبل الوصول للسلطة وبعدها..
نقد السلطة من قبل المثقفين الكرد والعرب لا فارق، أمر حيوي لتوليد ما يكفي من الوعي بالعقبات التي تضعها في وجه حقوق ومصالح الغالبية الشعبية. يجب إدراك أن تأجيل هذا النقد بسبب ما يدعى تعرض الإقليم لمخاطر خارجية، سيعيق التقدم نحو الافضل. ولا داعي لتوجيه السؤال الغبي: “لماذا الآن؟” ، فالآن وفي كل أوان لا يمكن الاستغناء عن النقد أو تأجيله.
إن صمت بعض المثقفين الكرد والعرب أو انطلاق البعض للدفاع عن سلطة الإقليم كأنها لا تزال في مواجهة النظام الصدامي، هو في غير الاتجاه الصحيح لتوجيه النقد لأي كان مهما كان تاريخه النضالي. للأسف فإن عدد من الكتاب الكرد يطلقون حملة دفاعاً عن السلطات وتخويناً لمنتقديها، دون أن يدركوا أن الصراع الراهن هو بين جبهة كسب الديمقراطية الحقيقية وجبهة الحفاظ على مكاسب السلطة للمناضلين السابقين.
فأين سيقف المثقفون !؟
ربما من الصعب على من عاصر أحداث حملة الأنفال ومذبحة حلبجة وغيرها الانتقال للنقد، ولكن الاجيال الجديدة مثل سوران وسردشت ورفاقهم المحتجون من الشباب، الذين لم يعرفوا في حياتهم سوى سلطة الإقليم الراهنة وأجهزتها الأمنية، هم الاقدر على المواجهة الراهنة، فقد سمعوا عن الماضي الوطني للقادة ولم يعيشوه ولكنهم الآن يعيشون ويلمسون مساوئهم ونقص ديمقراطيتهم، فقد فتحوا أعينهم على سلطة محتكرة للنفوذ والثروة، مضطهدة لمن ينتقدها أو يحاسبها.
الشباب هم الأمل في التغيير.
– أيار 2010
خاص – صفحات سورية –