في ركاكة مكتوب بارزاني الأخير أو بيان اللابيان
هوشنك بروكا
المعروف في الإيتيكيت السياسي، شرقاً وغرباً، هو أن الرئيس(أياً يكن هذا الرئيس) لا يكتب كلامه الرسمي وخطبه وبياناته، بقدر ما أنه يستكتب كتاباً، يكتبون له ما يشاء في المناسبة التي يشاؤها، والمكان والزمان الذي يشاؤه: فالرئيس لا يكتب، وإنما يقول.
لهذا يمكن القول إنّ وراء كل كلامٍ عظيم لرئيس عظيم، كاتبٌ عظيم.
ولكن تراجم وسيّر الرؤساء والزعماء وشيوخ السياسة، شرقاً وغرباً، علّمتنا أنّ لهؤلاء أيضاً، كسواهم من “الحيوانات المدنية الناطقة”(كما يوصف الإنسان في لغة العلوم الإجتماعية)، سقطاتهم وزلاتهم ومخادعهم وتقلباتهم ذات اليمين وذات الشمال. فهم في المننتهى بشرٌ، يصيبهم ما يصيب الآخرين من خللٍ أو خطأ: فالإنسان كائن ناقص يسعى إلى الكمال، بحسب صاحب كتاب “مبدأ الأمل”(ثلاث مجلدات 1954ـ1959)، الفيلسوف الألماني أرنست بلوخ(1885ـ1977).
ورغم أن الكل يخطأ، أو الإنسان كائن خطاء بطبعه، ولكن كما أن الناس درجات، كذا الأخطاء وأهلها درجات. وربما من هنا قيل: “غلطة الشاطر بألف”!
القارئ في بيان رئيس إقليم كردستان السيد مسعود بارزاني الأخير(19.05.10)، أو بيان اللابيان، الموجه إلى “جماهير كردستان الصامدة”، سيكتشف أن بارزاني(وهو الكردي العراقي الأشطر) قد وقع في فخ “شطارته”، أو الأصح في فخ “كتابه الشطار” الحوّامّين من حوله، الذين نصبوا له، بعمدٍ أو من دونه، تلك الغلطة الشاطرة، التي تساوي ألف وأكثر.
لا أدري إن كان بارزاني هو من كتب بيانه الأخير إلى “جماهير كردستانه الصامدة”، أم أن كتاباً(وما أكثرهم حوله) قد كتبوا له(أو الأصح رصفوا كلماته)، كما هو العادة في كلام الرؤساء المكتوب، في المناسبات الكلامية المارقة، ولكن أياً يكن الأمر، فإنّ أقل ما يمكن أن يقال في هذا البيان اللابيان، هو أنه “بيان ركيك” بإمتياز، يفصح عن “رئاسةٍ ركيكة”.
نقرأ في مبتدأ البيان:
” نحن نمر اليوم في ساعة مصيرية وحساسة حيث هناك العديد من المسائل الضرورية والمتعلقة بالمصالح العليا للشعب الكردستاني وعلى مستوى الاقليم والعراق، إذ أن ذلك يستوجب منا وحدة الصفر والموقف والشعور العالي بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق كل فرد من أبناء إقليم كردستان. يستوجب علينا مواجهة مخاطر وخطط وهجمات تخريب الاوضاع في العراق عامة وكردستان خاصة والحفاظ عليها من التدهور من خلال اتخاذ أقصى غايات الحيطة والحذر والتعاون. في هذه اللحضات الحرجة ومع مزيد من الاسف فقد تمكن الارهابيون في وقت سابق من الوصول وإغتيال الطالب والصحافي سردشت عثمان وان هذا الحادث الاجرامي أصابنا جميعًا بدون إستثاء بالأسى والامتعاض ناهيك عن الحزن الشديد وهنا أجدد مرة أخرة إدانتي الشديدة عملية حادث إغتيال الطالب سردشت عثمان كما أدين بشدة كافة العمليات الارهابية”.
بهذه اللغة الخشبية، والتعبير المتخشب، الضاج بالإخطاء النحوية واللغوية والإسلوبية، يخاطب كاتب البيان عقول الماحول، ويريد للعقل الكردي أن “يصمد” في وجه “الأعداء” وشيوخ الإرهاب، للفوز بكردستان “صامدة”.
والأنكى أنّ البيان نُنشر في إعلام حزب بارزاني نفسه، بنسختين “ركيكتين” مختلفتين، معنى ومبنى، فضلاً عن الإختلاف “غير البريء”، على مستويات أخرى.
ففي النسخة الأصلية نقرأ إسم سردشت عثمان مذيلاً ب”الطالب الصحافي”، فيما نرى الكاتب في النسخة المعدّلة و”المنمقة” للبيان، قد أسقط عنه صفة “الصحافي”، واختزله فقط إلى مجرد “طالب”.
أصل البيان يدعو “جماهير كردستان” ب”تحلي الصبر وتجنب السقوط في “المرامات الشخصية التي تبغي استخدام دم الشهيد لتحقيق غايات دنيئة ورخيصة”، وذلك في إشارةٍ واضحة إلى الصحافي المغتال في كونه راح “شهيداً”، فيما النسخة “المرشّقة” اكتفت بدعوة “مواطني كردستان” بإحترام “نتاج دماء الشهداء”، في محاولةٍ من كاتبها للإلتفاف على دم عثمان، لإسقاط صفة الشهادة عنه.
البيان المنشور على خلفية اغتيال الطالب والصحفي الكردي زردشت عثمان في الرابع من مايو الجاري، والمبني من 624 كلمة في نسخته الأصلية(نسخة رئاسة حكومة الإقليم وموقع بيامنير المحسوب على إعلام حزب البارزاني) و 450 كلمة(النسخة المعدّلة لجريدة التآخي المقرّبة من نفس الحزب، والتي تصدر برئاسة د. بدرخان السندي في بغداد)، لا يكشف عن ركاكةٍ في لغة وتعبير وإسلوب كاتب البيان فحسب، وإنما يكشف أيضاً عن ركاكةٍ في عقل البيان. فهو، في الوقت الذي يدعو الكل إلى التعبير عن آرائهم “بكل حرية” لا بل بمطلقها(بحسب عقل النسخة الأولى)، لا ينسى أن يذكّر الكلّ عينه بضرورة “حماية العادات والتصرفات والتقاليد الكردية”(النسخة الأصلية)، أو “الحفاظ على صدقية وسلامة نهج الكوردياتي”، حسب تعبير نسخة “التآخي” المعدّلة.
ولا أدري كيف يمكن أن تلتقي “الحرية المطلقة”، مع “التقاليد والعادات والتصرفات المغلقة” في جملة واحدة، من خطابٍ الرئيس الواحد؟
والمعروف هو أنّ الطالب والصحفي الكردي المغتال سردشت عثمان، كان يريد الغناء ل”حريةٍ فردية مفتوحة” خارج سربه؛ أو خارج ديكتاتورية القطيع، وديكتاتورية عادته وتقاليده وتصرفاته.
فهو، كان يريد أن يشبه ذاته، لا جماعته؛ كان يكتب ليكون نفسه أو “أنا”(ه) لا ليكون ال”نحن”: “نحن العشيرة”، و”نحن الدين”، و”نحن الحزب”، و”نحن الشعب” و”نحن الوطن”.
هو، بإختصار، كان يريد الخروج على “المغلق”(عادات وتقاليد مغلقة، عشائر مغلقة، أحزاب مغلقة، شعب مغلق، و وطن مغلق)، للدخول المفتوح إلى حريةٍ مفتوحة، كما يشي بذلك ثالوث مقاله: أنا أعشق بنت مسعود بارزاني، الرئيس ليس إلهاً ولا إبنته، أول أجراس قتلي دقت.
أما “الحرية الكلية” أو “كل الحرية”(بحسب النسخة المعدّلة) فما هي حدودها، التي تسمح بها “الكوردياتي” المفترضة، ونهجها المفترض، للكل الكردي عبورها، فلا أحد يدري. فكما أن ليس هناك كردي واحد، كذا الكردياتي هي كثيرة، ومتعددة، ومتعدية لأكثر من مفعولٍ به.
هي، أصبحت كجارتها المحروسة “عروبة”، مفهوماً مطاطياً يحتمل الكثير من القراءات والقراءات المضادة. كلٌ يفصل الكوردياتي على مقاسات سياساته: تختلف نسخ الكردياتي، من منظّرٍ إلى آخر. فهي قد تساوي ديناً، أو طائفةً، أو حزباً، أو عشيرةً، أو عائلةً، أو حتى شخصاً، وقد تؤول بين ليلة وضحاها، بقدرة قادر، إلى كل هذه الخلطة مجتمعةً.
في مقالٍ جميل له، منشورٍ في الواشنطن بوست، ينصح كبير كتاب الخطابات لوزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد، ونائب مدير كتابة خطابات الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، صاحب كتاب “حكايات ناجٍ في البيت الأبيض” مات لاتيمير، ينصح الرئيس الأميركي باراك أوباما ب”السكوت الذي من ذهب”، لأن كلماته لم تعد “عظيمة، كالتي كان يلقيها أثناء حملته الإنتخابية، بإنكليزيته المفهومة والمعهودة، على عكس كلام هيلاري كلينتون الواشنطني الباهت، وكأن كل شيء تتكلم عنه كان عبارة عن 40 شيئاً مركزاً في لغة يونغستان ـأوهايو”.
يضيف لاتيمير: “وكوني محافظاً، قد يكون في صالحي أن ألح على الرئيس ليوظف المزيد من الكتاب ليستطيع الاستمرار في الدندنة – وتحويل جملة ”نعم نستطيع” إلى ”نعم إنني أشط في الكلام”. ولكن كأميركي، أفضل أن أحفظ الصوت الرئاسي. فإن لم نرفعه عن المستوى الحالي، فقد نرى فرانكلن روزفلت أو ريغان مستقبليا يلقي كلمة من المكتب البيضاوي في ذكرى زواج بريتني سبيرز الخامس”!
بالطبع لا وجه للمقارنة بين “كلام الرئيس” في المكتب البيضاوي هناك، وكلام الرئيس في “مصيف صلاح الدين” هنا، ولكن “السكوت الضروري” الذي من ذهبٍ هناك، يبقى سكوتاً ضرورياً هاهنا أيضاً. فالعبرة تظل عبرةً، ودروس التاريخ تبقى دروساً، والذهب يبقى ذهباً، سواء كان هنا أو هناك، الآن، قبله، وبعده أيضاً.
فهل سيعيد الرئيس مسعود بارزاني النظر في كلامه الركيك، الذي ما عاد ذهباً؟
هل سيصنع بارزاني في القادم من كردستانه سكوتاً قادماً من ذهبٍ، ل”يحفظ الصوت الرئاسي” في سره رش، كما يليق بأي رئيسٍ تحفظه الجماهير في عقولها قبل قلوبها، وتحبه في قلوبها لا في جيوبها؟
هل سيستمر بارزاني في “دندنة” كردستان، ويطمئن نفسه، بأنه بالفعل “كل شيء تمام سيدي”، كما يطمئنونه كتبة التقارير الذي يكتبون له، “الكليشيه ذاتها: سروك زيره..الرئيس من ذهب”، من أقصى كردستان إلى أقصاها؟
هل سيدرك بارزاني بأنّ لا كردستانه عادت “صامدةً”، كأيام الجبل، ولا جماهيريها عادوا “صامدين” كما كان الجبل يريد لهم أن يكونوا؟
هل سيعيد بارزاني النظر في “ركاكة” كردستانه التي ما عادت تحتمل، حيث الحكومة ركيكة، والبرلمان ركيك، والحزب ركيك، والدين ركيك، والعشيرة ركيكة، فضلاً عن المواطنة الركيكة، والحرية الركيكة والحق الركيك؟
هوشنك بروكا
ايلاف