اليونان: مقبرة المليارات
سمير التنير
وقعت اليونان في المحظور، وتغلبت مشكلات ديونها الهائلة على قوة وجودها في الاتحاد الأوروبي. ذلك التجمع الذي كان قبل أشهر فقط مثالاً يحتذى بين التجمعات الإقليمية في العالم. أما الآن وقد فعلت ديون اليونان فعلتها، فقد تراجعت قوة الاتحاد إلى حد لا يمكن تخيله.
لا بد حين التعرض لأزمة اليونان المالية من العودة قليلاً إلى الماضي، أذ ان شرارتها انطلقت مطلع التسعينيات. ولكن تأثيرها السلبي ظهر بوضوح على خلفية الأزمة المالية العالمية في منتصف عام 2008. وقد عانت اليونان في السنوات العشر الماضية من تفكك الإنتاج ودمار البنية التحتية، والاستعاضة عن السلع المنتجة محلياً بالسلع المستوردة. كما كانت تكلفة الألعاب الأولمبية التي استضافتها أثينا عام 2004 عالية جداً. وأكد المراقبون وقتها ان الشعب اليوناني سوف يدفع التكلفة هذه على مدى الخمسة عشر عاماً القادمة. وقد استمرت الديون بالتراكم. فيما سعت الحكومة اليونانية دوماً إلى تغطيتها عبر الاقتراض، في ظل إقبال المستثمرين على الاستثمار فيما يعرف بالمشتقات المالية. كما تم نقل المصانع إلى دول البلقان، لرخص اليد العاملة هناك، وقلة التكاليف. وشجعت الحكومة اليونانية المستثمرين على ذلك وتساهلت معهم.
وعرفت البنوك اليونانية فوضى عارمة في السوق وذلك بسبب توجهها للعمل في الخارج، والتوسع في البلقان، وشراء سندات الخزينة الأميركية. وقد قررت حكومة كرامنليس السابقة دعم البنوك بمبلغ 28 مليار يورو، حتى تعود السوق الى سابق عهدها وتتوفر السيولة النقدية بين أيدي الناس. ولكن تلك الخطة لم تر النور حتى الآن. وقد أخرج المستثمرون ورجال الأعمال مبلغ 10 مليارات يورو قبل وقت قصير خوفاً من الضرائب وخطط الحكومة التقشفية. وتم إيداع تلك المبالغ في بنوك قبرص وألمانيا وسويسرا. وقد بدأت الأزمة في نهاية حكم رئيس الوزراء السابق كوستاس كرامنليس الذي دعا إلى وضع خطط تقشف صارمة جداً. وقد تجاوزت أسعار الفائدة على سندات الخزينة لمدة عشر سنوات عتبة الـ10 في المئة. وهي سابقة خطيرة من نوعها بالنسبة إلى بلد يقع في منطقة اليورو.
منذ أشهر والدعوات إلى الإضراب تتوالى من جانب النقابات. وقد أدت إحدى التظاهرات إلى مقتل ثلاثة من المتظاهرين. وتهدف التظاهرات إلى الضغط على السياسيين كي لا يمرروا قوانين التقشف الصارمة. ويقول صحافي يوناني يدعى ماسايس «لقد كانت اليونان فيما مضى، نقطة ضوء بالنسبة لأوروبا، أما اليوم فنحن بقعة ظلام».
منذ سنوات والحكومات المتعاقبة تكذب على الرأي العام اليوناني. ونقدم إلى الاتحاد الأوروبي إحصائيات مغلوطة (مجلة دير شبيغل الألمانية عدد 22 شباط 2010). وعندما تولى الاشتراكي جورج بابا ندريو الحكم في شهر تشرين الأول من العــام الماضـي وجد ان ديون اليونان تساوي 12,7 من الناتج المحلي الاجمالي. وأن قيمتها تزيد على 300 ملــيار يـورو. لذلك لجأت الحكومة اليــونانية إلى التقــشف، وفرض المزيد من الضرائب. ورفع ضريبة القيمة المضافة، واقتطاع شهرين من رواتب الموظفين والمتقاعدين. وخفض الحد الأدنى للأجور من 750 إلى 560 يورو شهرياً، تلبية لشروط صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. لكي تحصل اليونان على جرعة من القروض، لإنقاذها من الإفلاس، تبلغ 110 مليارات يورو.
المشكلة الكبرى التي تعــاني منها اليونان هي الإنفاق العالي جداً، من دون مداخــيل تذكر. ويدخل إلى صندوق وزارة المــال سنوياً 15 ملــيار يورو عائدات ضرائبية. ولكن ذلك المبلغ لا يكفي ويجب أن يكون مضاعفاً. هذا ما يقوله سافاس روبوليس الخبير في اتحاد النقابات (GSEE)، بينما يؤكد خبراء آخرون، أن الناس يملكون المال، اما الدولة فمفلسة. ويعتبر نظام الرعاية الصحية في اليونان الأسوأ في القارة الأوروبية.
«خمسون في المئة من الشركات اليونانية لا تدفع ضرائب على الأرباح لصناديق الحكومة». هذا ما يقوله جورج خولوس. وهو صاحب «دوروستيك» اكبر شركات إنتاج مواد البناء ومشتقاتها.
توجه الدوائر الأوروبية اتهامات مباشرة للمضاربين وبعض المصارف ووكالات الاقتراض. وخاصة الأميركية، بأنها تغذي الأزمة الحالية بحثاً عن الكسب أولاً، ولإلحاق أكبر قدر من الضرر بمنطقة اليورو والعملة الأوروبية التي تراجعت خمسة في المئة خلال شهرين فقط. ولكن الاتحاد الأوروبي يتجنب توجيه أي اتهامات مباشرة لجهات خارجية محددة، ويعمل حالياً على لمّ صفوفه لمواجهة العاصفة، والحد من تداعياتها على المدى المتوسط والبعيد. ويرى المراقبون ان المضاربين وأسواق المال وخصوم اليورو والمشككين في طروحات الاندماج الأوروبية يريدون التأكيد عملياً على أن الأسس التي قامت عليها منطقة اليورو منذ عشر سنوات، وتضم حالياً 16 دولة، هي أسس هشة ولا تصمد أمام أزمة هيكلية مثل التي تعصف باليونان، وتهدد دولاً أخرى حالياً. ولكن مناهضي هذا التوجه يدعون حالياً إلى ان تتحول الإدارة الاقتصادية لليورو إلى إدارة اقتصادية تشمل حفز النمو، أي إقامة حكومة اقتصادية أوروبية لا تأبه بضوابط الاندماج النقدي وصلابة اليورو بقدر ما تركز على التوفيق بين عملية النمو الاقتصادي وحفز سوق العمل ودعم الأسواق الخارجية. وتستوجب هذه الاستراتيجية مزيداً من الليونة في السوق الداخلية الأوروبية ووضع حد للمنافسة بين المؤسسات الأوروبية وتوحيد الإجراءات الضريبية وطرح مشاريع استثمارية مشتركة على مستوى منطقة اليورو، أي تخلي الدول الاعضاء عن مجالات محددة من سيادتها الوطنية. وفي اجتماع وزراء مالية الاتحاد الأوروبي الذي عقد في بروكسل في 10 أيار أعلن هؤلاء آلية مساعدة تاريخية مركبة تصل قيمتها إلى 750 مليار يورو. تجاوبت معها الأسواق المالية، فخفضت الفوائد على الديون اليونانية إلى النصف تقريباً. ولكن ذلك لم يحلّ المشكلة، لأن دولاً أخرى تعاني من ديون كبيرة جداً ومنها إسبانيا والبرتغال وإيرلندا وإيطاليا.
السفير