تنامي الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط
عمر كوش
يقدم نجاح الوساطة التركية البرازيلية في التوصل إلى اتفاق مبدئي لتبادل الوقود النووي الإيراني على الأراضي التركية دليلاً إضافياً على تنامي الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط، حيث جرى توقيع الاتفاق بحضور رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا والرئيس أحمدي نجاد من الطرف الإيراني، وأبدت إيران بموجب هذا الاتفاق استعدادها لنقل 1200 كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب إلى تركيا لمبادلة يورانيوم عالي التخصيب به، وذلك بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وبصرف النظر عن موقف الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية حيال البرنامج النووي الإيراني، فإن شأن هذا الاتفاق أن يساعد إيران على تجنب عقوبات دولية جديدة بسبب برنامجها النووي، إذ لا مبرر لفرض عقوبات جديدة على إيران، حسب ما صرح وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو.
الحراك التركي
ليس جديداً على السياسة الخارجية التركية نجاح وساطتها في الملف النووي الإيراني، إذ سبق وأن لعبت تركيا دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل في المفاوضات غير المباشرة، والتي توقفت بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة في نهاية العام 2007، وتوطد الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط مع توطد علاقاتها مع سوريا، وكان لافتاً سرعة تحرك الدبلوماسية التركية لاحتواء الأزمة التي نشأت ما بين بغداد ودمشق بعد تفجيرات “الأربعاء الأسود” من شهر سبتمبر/أيلول من العام 2009، على خلفية اتهامات وجهتها الحكومة العراقية ضد دمشق، وامتد التحرك التركي إلى الملف الفلسطيني بالتنسيق مع مصر، وطاول دورها العراق ولبنان ودول مجلس التعاون الخليجي وسواها.
وقد أفضى الدور التركي إلى نسج شبكة من العلاقات والنفوذ في دول المشرق العربي، وإلى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية وسياسية هامة معها، ووصل إلى حدّ استضافة إسطنبول لأول قمة تركية أفريقية، حضرها 53 من رؤساء الدول والحكومات الأفارقة، والهدف منها كان تعزيز الشراكة التركية الأفريقية في مختلف المجالات.
ومن خلال رصد حالة الحراك الإقليمي لتركيا، يمكن ملاحظة حجم القوة الناعمة التي تتبناها تركيا في إطار إستراتيجياتها في السياسة الخارجية، والتي أفضت إلى تصفير مشاكلها مع دول الجوار، وخصوصاً سعيها إلى إنهاء صراعها التاريخي مع أرمينيا، ونجاحها في عقد اتفاق معها، يعيد فتح الحدود والعلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وطاول الحراك التركي قيام مسؤولين أتراك بزيارة شمال وجنوب العراق بصورة متواترة، والتنسيق التركي الرفيع المستوى مع إيران بخصوص الطاقة، بالإضافة إلى شروعها في تأسيس المجلس الأعلى للتنسيق الإستراتيجي مع اليونان، مثلما هي الحال مع سوريا والعراق.
العمق الإستراتيجي
يستند تنامي الدور التركي إلى نظرية “العمق الإستراتيجي”، التي تعتبر أن موقع تركيا وتاريخها يجعلانها مستعدة إلى التحرك الإيجابي في كافة الاتجاهات، وخصوصاً جوارها الجغرافي، للحفاظ على أمنها وتحقيق مصالحها، لذلك توجب عليهم إنهاء القطيعة التركية لمنطقة الشرق الأوسط وقضاياها، التي استمرت عقوداً طويلة، وكانت تعيش تركيا خلالها حالة من الانطواء والعزلة داخل “هضبة الأناضول”، وتتصرف كدولة هامشية أو طرفية في منظومة المعسكر الغربي وحلف شمال الأطلسي (ناتو).
ومع مطلع القرن الحادي والعشرين ومجيء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم فيها، عاد الأتراك بقوة، كي يطرقوا أبواب السياسة في منطقة الشرق الأوسط وجوارهم الجغرافي، فعملوا بكل قواهم للخروج من الوضع الهامشي الذي فرضته عليهم التبعية لحلف الأطلسي، وخصوصاً بعد أن اكتشفوا أنهم تحملوا أعباء كثيرة في سبيل حفظ الأمن الأطلسي والغربي، ولم يجنوا بالمقابل سوى حرمان الغرب لهم من اقتسام ثمار التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، فما كان عليهم سوى تلّمس طريق جديد، يقود إلى وجهة مشرقية وإسلامية.
الفراغ الكبير
اتبعت تركيا في إستراتيجياتها، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، سياسة القوة الناعمة والتمدد شرقاً وجنوباً، وتمكنت من إبرام اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول العربية، ومن تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي، خاصة مع سوريا ولبنان والعراق ودول الخليج ومصر.
لذلك يمكن القول بأن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا في عام 2002، شكّل نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية، وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن رفض البرلمان التركي نشر القوات الأميركية في الأراضي التركية إبان الغزو الأميركي للعراق، كان بداية إرهاصات هذا التحول، لكن جذور التحول ترجع إلى أن الدولة التركية وجدت نفسها في حقبة تاريخية، مضطرة فيها إلى أن تعدل وتطور توجهاتها السياسية الخارجية، نظراً للتغيرات التي طرأت على العالم منذ انتهاء الحرب الباردة، فعملت على تقديم إسلام ليبرالي فاعل ومؤثر ومشارك وصاحب رؤية ومشروع، وعلى احتضان حوار داخلي، يزداد حيوية ونشاطاً، ويرتكز إلى مقولات الإصلاح السياسي، والخروج من إسار الماضي، إلى جانب بروز مجتمع مدني يؤكد ذاته يوماً بعد آخر في مواجهة الدولة المركزية المتخندقة، ويدعم ذلك اقتصاد حيوي متنامٍ بات يحتل مكاناً بين الاقتصادات الكبرى في العالم.
وقد شهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً للدور التركي في منطقة الشرق الأوسط، وصل إلى حدّ النجاح في التوصل إلى اتفاق مع إيران، يسهم في تسوية قضية الملف النووي الإيراني، في حال موافقة الدول الغربية عليه.
ويمكن القول إن محددات الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط تعود إلى حالة الفراغ التي تسود المنطقة بعد انهيار النظام الإقليمي العربي، والتفكك والتردي الذي اعترى الوضع العربي بشكل عام، وخصوصاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003.
وقد أدرك قادة حزب “العدالة والتنمية” أهمية الشرق الأوسط، بوصفه مجالاً جغرافياً، يقع في جوار تركيا، ويمكن لها أن تلعب دوراً إقليمياً محوريا من دون الاصطدام بقوى عالمية ممانعة، حيث يمكن القول إن الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط لا يجد معارضة من طرف الولايات المتحدة الأميركية، نظراً لأنها تعتبره يشكل ثقلاً موازياً للدور الإيراني في المنطقة الذي يلقى معارضة الولايات المتحدة الأميركية.
كما أن تركيا تحظى بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نحج في حل إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، وعليه تستند تركيا إلى تقبل دول المنطقة للتعاون معها، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذي يمنحها مكانة جديدة، ودوراً هاماً في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلا في رسم بعض السياسات في المنطقة.
ويكشف واقع الحال أن تركيا وجدت الطريق مفتوحة أمامها للتحرك في منطقة الشرق الأوسط، في ظل التنافس والتصادم ما بين إيران وإسرائيل على الأدوار والمصالح، واستمرار حالة الانقسام العربي، التي عرفت معسكرين، واحدا للاعتدال وآخر للممانعة.
مجالات التحرك التركي
يحمل الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط سمات وقسمات خاصة، يصب في سياق قلب التوازنات وعمليات الحراك الإقليمي، ويسهم في إذابة الجمود في المنطقة، لكنه يمتلك أسباباً مختلفة ومتنوعة، تصب في خدمة المصالح الوطنية التركية، حيث يكفي الإشارة إلى أن التغير الذي طاول العلاقات السورية التركية لم يشمل الجانب السياسي فقط، بل الجانب الاقتصادي، وبشكل تريد تركيا أن تجعل سوريا بواباتها العربية إلى دول الخليج ومصر وسواها، لذلك جرى التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة، وتمّ الشروع بتطبيقها عام 2007، وفي ذات السياق جاء اتفاق فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول، فضلاً عن عشرات الاتفاقيات الاقتصادية الأخرى.
ويستطيع المراقب أن يعاين التبادل المستمر لوفود رجال الأعمال والشركات في البلدين، وأن يلحظ إعلانات الاستثمارات والشركات المشتركة في عاصمتي البلدين، والحضور الكثيف للبضائع والمنتجات التركية في جميع الأسواق السورية، حيث ازداد حجم التبادل التجاري بين البلدين بشكل متسارع، فبلغ خلال سنوات معدودة نحو ملياري دولار سنوياً، ومتوقع منه أن يتجاوز الخمسة مليارات دولار خلال الأعوام القليلة القادمة، وبما يحوّل تركيا إلى الشريك التجاري والاقتصادي الأول لسوريا.
كما أن تركيا باتت تسيطر اقتصادياً على منطقة الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، من خلال امتلاك قسط كبير من السوق المحلية واستثمارات مباشرة في مشروعات البنية التحتية، وامتدت علاقاتها بسائر مناطق العراق.
غير أن السؤال الذي يطرح هو: هل تنامي الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط يأتي على حساب أداور باقي الدول؟ أي هل يسبب تنامي الدور التركي تراجع أدوار الدول الأخرى أم أنه يتكامل معها؟
الواقع هو أن الانقسام العربي، وغياب التنسيق والتعاون، وتعطيل آليات ومؤسسات العمل العربي المشترك، أسهم في نشوء حالة من الفراغ وانسداد الأفق، الأمر الذي أتاح المجال لبروز قوى إقليمية، باتت تلعب دوراً هاماً في المنطقة، وصارت دولاً مثل إيران وتركيا تمتلك أدواراً محورية، فيما تلعب الدول العربية أدواراً ثانوية في جميع ملفات وقضايا المنطقة.
مبادئ التحرك التركي
حددّ وزير الخارجية التركي الحالي أحمد داود أوغلو، الذي يعتبر العقل المفكر للسياسة الخارجية التركية، مبادئ التحرك التركي في التوازن بين حرية التحرك والأمن، وبشكل لا يفضي إنجاز الحرية إلى تهديد الأمن، الأمر الذي ينبغي معه إنهاء الاشتباك مع الجيران وتصفير المشاكل معهم، واتباع مبدأ سياسة السلام الاستباقية، التي تقتضي المبادرة والسعي إلى حلّ المشكلات والصراع في المناطق المحيطة بتركيا.
وتجسدت هذه السياسة في الوساطة التركية بين سوريا وإسرائيل وبين الأطراف المتصارعة في العراق واليمن. كما تجسدت، مؤخراً، في الوساطة المشتركة مع البرازيل لإنهاء قضية الملف النووي الإيراني. ويضاف إلى ذلك اتباع تركيا مبدأ المشاركة الفاعلة إزاء مناطق المجال الحيوي لها.
وعمل الساسة الأتراك على تحقيق هذه المبادئ، من خلال فتح الحوار الإستراتيجي مع الشركاء في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، والعمل على تحقيق الأمن المتبادل، والتعاون الاقتصادي المتبادل بين تركيا وجيرانها، إلى جانب السعي إلى التعايش الثقافي.
لقد باتت تركيا دولة محورية، حاضرة في أيامنا هذه في كل قضايا ومسائل منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، والمنطقة المحيطة بها بشكل عام، وينهض دورها على سياسة خارجية، تحمل دينامية كبيرة، وتتسم بالمبادرة وليس برد الفعل، الأمر الذي يفترق مع ضيق أفق الأيديولوجيات والأحكام المسبقة وأزمات وعقد الماضي، ويتجسد في المبادرة والحضور المبكر والاستباقي لتركيا في كل أزمات ونزاعات المنطقة.
الجزيرة نت