صبحي حديديصفحات سورية

باراك أوباما أمام الـ إيباك : لا عزاء لعرب الإعتدال!

null

صبحي حديدي

ليس أكثر نفاقاً، ولا اشدّ تكاذباً، من خطبة المرشّح الديمقراطي باراك أوباما أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية ـ الإسرائيلية ، الـ AIPAC، إلا ردّ كبار رجالات الحملة الإنتخابية للمرشّح الجمهوري جون ماكين. صحيح انهم تفادوا، عن سابق عمد وتصميم وتأجيل إلي حين كما للمرء أن يتخيّل، منافسة أوباما في السجود المعلَن لمجموعات الضغط اليهودية ـ علي اختلافها، يميناً ويساراً، إعلاماً ومالاً، أمريكياًوعالمياً… ـ إلا أنهم لم يتورعوا عن الهزء منه، وتسفيه أقواله، والتذكير بنقائضها في ما يخصّ الملفّ الإيراني.

والحال أنّ المرء قد لا يلومهم كثيراً في هذا، حين يسترجع سلسلة التصريحات المتقلبة المتضاربة المتباينة التي أدلي بها أوباما، في جوهر تصنيف إيران كعدوّ للمصالح الأمريكية في المنطقة (وهل هي إتحاد سوفييتي جديد، أم رايخ ثالث جديد، أم أدهي…) عموماً؛ والموقف من ملفّ طهران النووي خصوصاً، وإلي أيّ مدي يمكن لهذا الملفّ أن يلحق الأذي بالدولة العبرية علي نحو أخصّ، هو في الآن ذاته الأهمّ أيضاً. السناتور جو ليبرمان (المرشّح السابق لمنصب نائب الرئيس في انتخابات سنة 2000، مع آل غور، والمستقلّ المنحاز إلي ماكين اليوم) ذكّر الجميع بأنّ أوباما خلال أسابيع الترشيح الأولي اعتبر أنّ إيران، مثل الإتحاد السوفييتي والدول الأخري العاصية أو الإرهابية ، لا تمثّل خطراً داهماً علي المصالح الأمريكية، ويمكن احتواؤها علي نحو أو آخر، عن طريق الترغيب والترهيب والعقوبات الإقتصادية بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين. فكيف، يتابع ليبرمان، صار أوباما اليوم يعتبر إيران تهديداً جدياً وخطيراً؟ وهل صواب هذا التشخيص، يطمس جوانب الرياء فيه؟

لا يطمس، غنيّ عن القول، جوانب الرياء في تصريح ليبرمان نفسه، سواء بسواء، لا لأي اعتبار آخر سوي أنهم سواء في التسابق علي إعلان هوي إسرائيل، كلّهم وبلا أيّ استثناء! والذين شعروا بالفجيعة حين قرأوا خطبة أوباما امام الـ AIPAC، هل كانوا ينتظرون منه أقلّ اصطفافاً مع الدولة العبرية، أو ألطف لغة في الإعراب عن ذلك الإصطفاف، أو أكثر دماثة في الإشارة إلي الفلسطينيين، أو حماس ؟ أو تعاطفاً مع فلسطينيي غزّة المحاصرين، بدل الإلحاح علي إدامة الحصار، وتشديده؟

ولعلّ الذين فُجعوا بأقوال أوباما، وهم في الغالب من عرب الاعتدال وعرب الاهتداء المتأخر إلي ليبرالية مبتذلة أو إلي عقلانية هلامية، تناسوا أنّ هذه ليست أولي انفجارات الرجل العاطفية المشبوبة في إعلان غرامه المطلق بإسرائيل. قبل أيام معدودات، في فلوريدا وأمام حشود مختلطة من اليهود والمهاجرين الكوبيين، اعتنق أوباما أسوأ أطروحات اليمين الأمريكي الرجعي، وأشدّ المحافظين الجدد تعصباً، في الحديث عن غزّة و حماس ، فتدفقت من فمه كلّ بلاغة العالم في التعاطف مع المستوطنين الإسرائيليين الذين تنهمر عليهم صواريخ القسام الإرهابية، ورفض التفاوض مع حماس (علي نقيض 64% من الإسرائيليين أنفسهم!)، ولكنّ لسانه عجز عن العثور علي مفردة واحدة في وصف بربرية جيش الإحتلال الإسرائيلي. وأمّا بصدد كوبا، فقد بدا أوباما صورة طبق الأصل عن الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش، في المطالبة بالإبقاء علي الحصار (هو الذي أعلن في بدء حملته أنه سيعمل علي رفعه!)، وكذلك في حظر سفر الأمريكيين إلي كوبا لأغراض تعليمية، وهذه هي فرصة السفر الوحيدة تقريباً.

لكأنّ العرب المعتدلين والليبراليين والعقلانيين، في المدلول الرخيص لهذه التسميات، علي جهل تامّ بطبائع العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وطرائق اشتغال اللوبيات اليهودية من جهة أخر. ثمة، في هذا الصدد، حكاية من ذلك الطراز الذي يُروي ويُروي لأنه يظلّ ذا صلة بما يستجدّ أو يتواصل، أو بما يواصل الركود والثبات، في مغزي الحكاية ذاتها. ففي مطلع القرن الماضي انتُخب الجمهوري تيودور روزفلت رئيساً للولايات المتحدة، علي خلفية شعار عريض يقول بمحاربة مجموعات الضغط أيّاً كانت طبيعة نشاطاتها: إقتصادية، سياسية، إثنية، أو دينية. وحين أعلن روزفلت تعيين اليهودي أوسكار شتراوس وزيراً للتجارة والعمل، سارع المصرفي جاكوب شيف (عميد يهود أمريكا آنذاك) إلي إقامة مأدبة عامرة احتفالاً بالمناسبة، كان روزفلت ضيف الشرف فيها بالطبع. ولقد ألقي الأخير كلمة حرصت أفكارها علي التأكيد للحضور أنّ البيت الأبيض عيّن شتراوس لأنه الرجل المناسب في المكان المناسب: لم أعيّنه لأنه يهودي. ولسوف أحتقر نفسي لو وضعت بعين الإعتبار مسائل العرق أو الدين عنداختيار رجل لمنصب رفيع. الجدارة، والجدارة وحدها أمْلَت هذا التعيين ، قال روزفلت. الفضيحة وقعت حين لم يفطن أحد إلي ضرورة إعلام شيف (الأطرش!) بما جاء في كلمة الرئيس، فنهض بدوره وألقي كلمة بدأها بالجملة التالية: لقد استدعاني السيد الرئيس قبل تشكيل حكومته، وأعلمني برغبته في تعيين يهودي في الحكومة، وطلب منّي أن أسمّي الرجل الذي يُجمع اليهود علي اختياره. ولقد أعطيته اسم أوسكار، فعيّنه، ولم يخيّب آمالنا !

ولكي لا يبقي أوباما وحده في الميدان، هنا حكاية ثانية في الصدد ذاته، تخصّ منافسته الديمقراطية هيلاري رودام كلينتون، فضيلتها أنها لا تروي نموذجاً قياسياًعن امتثال الساسة الأمريكيين للرغائب اليهودية فحسب، بل تؤكد أنّ معظم ذلك الامتثال يقوم علي مبدأ المقايضة المباشرة: هذا مقابل ذاك! الحكاية وقعت في مثل هذه الأيام سنة 1999، حين سارع مانديل غانشرو (رئيس الإتحاد الأرثوذكسي اليهودي الذي يمثّل نحو مليوني ناخب و750 كنيس)، إلي مكاتبة كلينتون فور إعلانها العزم علي الترشيح لعضوية الكونغرس عن ولاية نيويورك. هل تعتبرين القدس عاصمة أبدية وموحّدة لإسرائيل؟ وهل ستصوّتين علي تشريع يجرّد الرئيس من حق استخدام الفيتو ضدّ قرار للكونغرس يقضي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلي القدس ؟ سأل غانشرو… بحبر أسود علي ورق أبيض.

ولم يكن الرجل يهرف بما لا يعرف. نيويورك قلعة يهودية كما لا يخفي علي أحد، والسيّدة كلينتون تنوي خلافة السناتور دانييل باتريك موينيهان، أحد كبار أصدقاء الدولة العبرية في مبني الكابيتول، ولا يعقل أن يصبّ الصوت اليهودي في طاحونة أخري غير تلك التي ترجّع أصداء ولاء ذلك الصديق الكبير. إضافة إلي هذا الإعتبار الأوّل، ثمة حقيقة أخري ساطعة اشارت إلي أنّ موينيهان كان أحد كبار رعاة التشريع الذي صوّت عليه الكونغرس في عام 1995، وقضي بإجبار البيت الأبيض علي نقل السفارة الأمريكية إلي القدس.

آنذاك، استخدم الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون سلطات النقض التي يمنحها له الدستور، و تخلّي عن تنفيذ القرار.

مَن أفضل من زوجته لإقناعه بالتخلّي عن مبدأ التخلّي؟ وأيّ ثمن دسم يمكن أن يقنع هذه السيّدة الأولي الطامحة (والزوجة الجريحة جرّاء فضيحة مونيكا لوينسكي!) أكثر من الصوت اليهودي، سيما وأنّ الربح أمر محتوم في كلّ الأحوال: إذا فشلت السيّدة كلينتون، فإنّ خصمها هو عمدة نيويورك رودولف جلياني الصديق الصدوق للدولة العبرية، وسبق له أن منع ياسر عرفات من حضور حفلة موسيقية بدعوي أنّ يد الأخير ملطخة بالدم اليهودي. وبالفعل، ردّت السيّدة كلينتون علي رسالة غانشرو، وفصّلت القول في المسألتَين: شخصياً أعتبر القدس عاصمة أبدية وموحّدة لإسرائيل ، و إذا اختارني النيويوركيون (أي: إذا صوّت لي يهود نيويورك، كما تدلّ القراءة بين السطور) لتمثيلهم في الكونغرس، ثقوا بأنني سأكون نشطة وملتزمة في الدفاع عن إسرائيل قويّة وآمنة وقادرة علي العيش في سلام مع جيرانها، علي أن تكون سفارة الولايات المتحدة واقعة في عاصمتها، القدس .

ولعلّ من الخير سرد حكاية ثالثة، بطلها يهودي هذه المرّة، وليس سياسياً من جدّ كيني مسلم يُدعي باراك حسين محمد أوباما أو سياسية مسيحية الأب والأمّ والأجداد تُدعي هيلاري كلينتون، جوهر الحبكة فيها يدور حول الموقف الذي يتوجب أن يتخذه اليهودي من المسائل اليهودية الكبري، والتي تتصدرها مسألة القدس كعاصمة موحدة وأبدية لاسرائيل. في مطلع هذا القرن، حين استعدّت الدولة العبرية لتدشين الإحتفالات بالذكري الألفية الثالثة لاختيار الملك داود القدس عاصمة لـ الكومنولث اليهودي ، إعتذر مارتن إنديك عن المشاركة، وكان سفير الولايات المتحدة آنذاك، لثلاثة أسباب بدل السبب الواحد: 1) الحدث ثقافي في الجوهر وهو يعني الملحق الثقافي الأمريكي الذي تواجد بقوّة وتعمّد لفت الأنظار إليه حتي بدا كالطاووس أو كأمّ العروس؛ و2) سعادة السفير كان، في الآن ذاته، يرعي وليمة شواء في تل أبيب بمناسبة يوم العمل (الإسرائيلي أيضاً)؛ و3) كان إنديك مدعواً للمشاركة في افتتاح ملجأ محصّن في هرتزليا، لصالح أمن إسرائيل… أيضاً وأيضاً.

لكنّ النار التي فُتحت علي إنديك بسبب تغيّبه لم تقتصر علي إسرائيل، بل امتدّ لهيبها إلي الولايات المتحدة، في الشوارع كما في وسائل الإعلام. ولقد غمز الكثيرون من قناة هذا اليهودي الذي يضعف أمام دنيس روس (وكأنّ الأخير مجوسي الديانة، وليس يهودياً بدوره!)، ويرضخ لتخريفات وارن كريستوفر وما تبقي من حثالة جيمس بيكر في وزارة الخارجية الأمريكية. مارتي بيرتيز، رئيس تحرير أسبوعية New Republic (اليهودي بدوره)، كتب توبيخاً شديد اللهجة ضدّ إنديك، وذكّره بأنّ تغيّبه عن الذكري الألفية هو سخف في سخف ، ولا ينمّ إلا عن معاناة إنديك من عقدتين: أنه سفير أمريكي يهودي في الدولة العبرية التي تحتفل بحدث يهودي تاريخي عمره ثلاثة آلاف عام، وأنه سفير أمريكي من أصل غير أمريكي! ولقد انتقل بيرتيز من توبيخ الإدارة إلي توبيخ أمريكا بأسرها، فكتب يقول: ثمة سخف ومهزلة وراء هذا اللاإكتراث الأمريكي بعيد يهودي ألفيّ لا يمرّ كلّ يوم أو كلّ سنة أو كلّ قرن . ثم تساءل: دلّونا بحق السماء علي العلاقة بين احتفال ديني وسيرورة السلام؟ الفلسطينيون يا سعادة السفير ليسوا اليبوسيين، ولم يكونوا في الديار حين ترك ابن يسّي عاصمته الخليل، ويمّم شطر الشمال نحو قلعة صهيون، وبني عاصمته هناك … وذات يوم بعيد ـ في سنة 1796! ـ حذر الرئيس الأمريكي جورج واشنطن الأمّة من الإنخراط في ارتباط عاطفي مع أية أمّة أخري، لأن ذلك النوع من الإنخراط سوف يخلق وهماً عامّاً بوجود مصلحة مشتركة. والواقع أنه لا توجد مصلحة مشتركة بين الأمم . بعد أكثر من قرنين ارتأي جورج بول (الدبلوماسي المخضرم، وأحد أبرز مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي) أنّ هذا الإرتباط العاطفي بين الولايات المتحدة والدولة العبرية بلغ درجة فاقعة صارخة فاضحة، تستدعي وضع كتاب كامل يرصد محطاتها منذ العام 1974 وحتي اليوم. وقبل أشهر معدودات كتب الثري الأمريكي اليهودي الشهير جورج سوروس مقالة في نيويورك ريفيو يذكّر فيها بعقابيل هذا الإرتباط العاطفي، معتبراً أنه لا سبيل لتحدّي قوّة اللوبي الإسرائيلي إلا بتأسيس لوبي يهودي من طراز جديد في أمريكا، يلتزم بالسلام والعدل.

لا عزاء، إذاً، لأهل الاعتدال العربي إذا خيّب باراك أوباما آمالهم؛ أو إذا كانت عسيرة، أو شبه مستحيلة، ولادة اللوبي الذي يحلم به سوروس.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى