لبنان، سورية، إسرائيل وفلسطين: “نماذج مثالية” لدول استثنائية
ياسين الحاج صالح
تعرض دول المشرق مفارقة سياسية مثيرة للتفكير. إحداها، سورية، “دولة خارجية”، تتمركز السياسة فيها في جهاز الدولة التي يطغى وجهها الخارجي كفاعل دولي يتفاعل مع دول أخرى، على وجهها الداخلي كإطار للعام الاجتماعي. والدولة الخارجية تلعب في الملعب الإقليمي والدولي، وتغلق الملعب السياسي الداخلي فيها، فلا حرية ولا حركة مستقلة فيه. وثانيتها، لبنان، “دولة داخلية”، ملعبها السياسي واسع إلا أنه غير منضبط بحدود واضحة، إلى حد أنه استقر “ساحة” لالتقاء اللاعبين الداخليين باللاعبين الخارجيين، أي الطوائف والأحزاب اللبنانية بالدول والمنظمات الخارجية. وما قد يسمى “المركّب الطائفي اللبناني” هو نتاج هذا اللقاء.
بالمقارنة مع الدول العربية، لبنان دولة حريات فعلا، لكنها غير مستقرة. التفاعلات الداخلية اللبنانية كثيفة وغنية، لكن تفاعلات الداخل اللبناني مع الخارج كبيرة وأساسية. فلبنان دولة داخلية لا بمعنى أن التفاعلات الداخلية تتفوق في كثافتها وأهميتها على تفاعلات البلد الخارجية (والتفوق هذا هو ما يصنع الداخل الوطني)، بل بمعنى أن التفاعلات الخارجية ذاتها تجري داخله، إن من وراء ظهر الدولة أو أمام عينيها.
كدولة خارجية، تفاعلات سورية الداخلية مقيدة بشدة ومحيّدة سياسيا، لا تأثير لها على النظام السياسي. سورية بلد غير حر، إلا أنها مستقرة قياسا إلى لبنان. ملعبها الداخلي ضيق جدا ويكاد يكون فيه لاعب واحد هو النظام، لكنه لاعب إقليمي نشط على العموم. واللاعب هذا يحتكر التفاعلات الخارجية، ويميل إلى إلحاق التفاعلات الداخلية بها. وفي حين أن تفاعلات سورية، حتى الداخلية منها، متشكلة وفقا لنسق الحرب، فإن تفاعلات لبنان، حتى تفاعلاته الخارجية، تنهج نهجا سياسيا. والدول الخارجية عموما هي دول حربية، دول تعبئة واستنفار و… استبداد، بلا حياة سياسية ذاتية. وبينما هناك كثير من المجتمع وقليل من الدولة في لبنان، فإن في سورية كثيرا من الدولة وقليلا من المجتمع. لكن الكثير من المجتمع يعني مجتمعا خاما، أهليا، طائفيا؛ والكثير من الدولة يعني دولة خاما، سلطة محضا، مطلقة.
وتتمثل المفارقة، إذن، في أن الدولة الداخلية، لبنان، تكاد تكون دون داخل وطني وبلا دولة معا؛ بلا داخل وطني لأنها بلا دولة. بالمقابل إن دولة خارجية مثل سورية تحوز داخلا وطنيا ضيقا ومحجورا عليه سياسيا. لذلك فإن مطلب الوطنيين السوريين الجوهري يتمثل في تحرير الحياة السياسية وإقصاء منطق الحرب من الداخل، فيما يتصل مطلب الوطنيين اللبنانيين بتعزيز الدولة واحتكارها للسيادة، من اللاعبين المحليين كما من القوى الخارجية. والبلدان نموذجان متطرفان على حد سواء، مرة لأن الداخل فاقد لاستقلاله ومختلط بكل خارج، ومرة لأن الداخل محجور عليه وممنوع من التشكل الذاتي. الداخل اللبناني أشبه ببيت مخلع الأبواب والنوافذ والسقف، تعبث فيه الأنواء، أما البيت السوري يكاد يكون مكونا من جدران مصمتة حصرا، بلا أبواب ولا نوافذ ولا شرفات. لبنان بلد مباح، سورية بلد محجّب.
على أن في المشرق دولة ثالثة تعرض نموذجا مختلفا: إسرائيل. هنا دولة ملعبها الداخلي واسع، وتفاعلاتها الداخلية كثيفة ومثلها تفاعلاتها الخارجية. وفيها كثير من الدولة وكثير من المجتمع في آن معا. لكنها أيضا دولة لا تشبه غيرها: تسحق شعبا، وتنال دعما تأسيسيا لا تعيش دونه من أقوياء العالم. وهي النقيض التام لفلسطين حيث ثمة القليل جدا من الدولة والقليل جدا من المجتمع. هنا لا داخل على الإطلاق.
ويمثل الجدار العازل الذي تبينه إسرائيل في أرض الفلسطينيين سعيا (موهوما) وراء بناء داخل إسرائيلي مطلق، كلي الأمن، مع إقصاء الفلسطينيين إلى الخارج المطلق، الانكشاف المحض.
نماذج الدولة الثلاثة (أو الأربعة) استثنائية على حد سواء. استثنائية النموذج اللبناني تتمثل في عدم استقراره الشهير. وهذا مؤسس بدوره على الدور التأسيسي للخارج في لبنان، كيانا منذ نشوئه في القرن التاسع عشر ودولة منذ استقلاله أيام الحرب العالمية الثانية. ولم تفعل تقلبات التاريخ الشرق أوسطي والحروب اللبنانية المتكررة غير ترسيخ هذه السمة البنيوية، وجعلها أكثر استعصاء على المعالجة. أما استثنائية النموذج السوري فتقوم على انعدام الحرية الشهير بدوره المميز لهذه الدولة الخارجية. وهذا محروس بحالة استثناء قد تكون الأقدم عالميا. كما لا تفتقر سورية إلى سمة مميزة للدولة الخارجية هي شخصنة السلطة، أي مماهاة البلد بحاكميه، مما هو موافق دوما لإغلاق الملعب الداخلي. أما الاستثنائية الإسرائيلية فتتمثل في أن الدولة التي ينال مواطنوها اليهود مستويات عالية من الحريات والحقوق السياسية منخرطة في عملية تبديد سياسي مستمر لشعب كامل بنيت إسرائيل على حسابه. ومن جهة أخرى تتمتع الدولة هذه بتغطية قانونية وأخلاقية وسياسية، ودعم عسكري وأمني وديبلوماسي خارجي، لا حياة لها من دونهما. وهذا يمكّن إسرائيل من أن تكون لاعبا إقليميا ودوليا كبيرا قياسا إلى حجمها الجغرافي والسكاني. ولعلها الدولة الأكثر شبها بالولايات المتحدة في العالم من جهة أنها دولة ثنائية المركز إن صح التعبير، داخلية وخارجية. ثمن ذلك طبعا هو أن تكون فلسطين بلا مركز وبلا داخل وبلا… وجود. هنا نخرج من مجال ما هو استثنائي وشاذ، لندخل مجال الاستثنائية والشذوذ المعياريين. أو “مثالهما الأفلاطوني”، العياني مع ذلك. أي لنرى المثال المجرد مجسدا. فلسطين هي الدولة القصوى… انعداما. ولعلها لذلك الأصلح لفهم أصل السياسة (كعنف) والدولة (كاحتلال) في عالم اليوم. حالة مخبرية.
واستثنائية نماذج الدولة الثلاث (أو الأربعة) هي سمة بنيوية بدورها للشرق الأوسط. وهي أيضا أحد منابع عدم استقراره المتأصل. يمثل النموذج اللبناني معرضا لعدم الاستقرار، لأن ضعف الدولة فيه يجعله انعكاسا سلبيا تقريبا للشرق أوسطية ونزاعاتها. لكن النموذجين السوري والإسرائيلي ليسا صديقين للاستقرار بالقدر نفسه، وإن كانت دول هذين النموذجين نازعة للاستقرار أكثر مما هي منزوعته. أما فلسطين فهي لبنان أقصى، اللا أمن المطلق واللاتشكل المطلق.
هذه بالطبع “نماذج مثالية”. تتعمد إبراز جوانب من الواقع وإغفال جوانب منه من أجل رؤية ما هو أساسي فيه. لكنها لا تقول لنا شيئا عن اتجاهات تطور هذا الواقع.
الأرجح أن الداخل السوري يزداد حضورا، وهذه عملية شاقة وبطيئة، لكنها غير عكوسة. ومحصلة تطورات الشهر الماضي في لبنان توحي أن مقر السيادة، الدولة، يسجل حضورا مبدئيا. إلا أن دون حصر السيادة في مقرها مشاق جمة. أشد مشقة وإيلاما بعد نزع الاستثنائية الإسرائيلية والفلسطينية. في كل الحالات يبدو أننا نعرف إلى أين نريد أن نصل: سورية ديموقراطية، ولبنان سيد، ودولة مواطنين في إسرائيل فلسطين؛ لكننا لا نعرف الطريق. أو كيف نصنع الطريق.