سلالة “ميديا” التي لم تتعلّم الدرس
عمر قدور
“كيف استطاع أن يهجرني أنا!! أنا التي فعلت كلّ شيء من أجله”. لعلّ هذه العبارة، المأخوذة عن لسان ميديا من مسرحيّة يوربيدس التي تحمل الاسم نفسه، والموضوعة كتصدير لكتاب “غضب ميديا”، لعلّ هذه العبارة لسان حال “الميديّات” جميعاً؛ بما تكتنفه من استنكار وعدم تصديق وتقريع للشريك الذي بات في موقع الخائن الجاحد. وللتذكير فإنّ جاسون زوج ميديا يهجرها وولديه الصغيرين من أجل الزواج بابنة الملك “الأصغر سنّاً”، فتغضب ميديا ويصل انتقامها إلى قتل ولديها. النساء المهجورات “الميديّات”، كما يقترح هذا الكتاب، يشتركن في الكثير من مفاصل أزمتهنّ، ويشكّلن نمطاً يصلح للتعميم والدرس، ومن ثمّ استخلاص العبر من أجل اللواتي قد يجدن أنفسهنّ قيد الهجران.
مؤلّفة الكتاب، السويديّة غودرون أكستراند، ممثّلة مسرحيّة أصلاً، وعملت أيضاً أستاذة في علم أصول التربية، والدراما وعلم النفس. لذا فإنّ رحلتها مع النساء المهجورات اللواتي أفصحن عن تجاربهنّ كانت سبراً للتفاصيل الشخصيّة لكلّ واحدة منهنّ، مع ملاحظة وتبويب المشتركات بينهنّ، دون أن يصل ذلك إلى حدّ الغوص العميق في سيكولوجيا المرأة المهجورة. الرهان هو بالأحرى على أن تقدّم هذه التجارب نفسها وعبَرها المستقاة التي أخذت على الأغلب طابع الإرشاد السلوكي. أمّا النماذج التي اختارتها الكاتبة، وهي لثلاثين امرأة تجاوبن مع إعلان وضعته في إحدى الصحف، فهي نماذج تشترك في جذر المشكلة: امرأة تعيش مع زوجها وتبذل ما في وسعها لإسعاده، في الوقت الذي يعثر فيه الزوج على امرأة جديدة ويخطط للانفصال والزواج من عشيقته.
إذاً تبدأ معاناة النساء “الميديّات” مع الإحساس بالهجر وهنّ ما يزلن بجوار الزوج، تراودهنّ الشكوك تجاه التغير في تصرفاته. البعض منهنّ يفصح عن شكوكه، والبعض الآخر يستبعد هذه الشكوك. لكن الإحساس بالهجر يتفاقم في الحالتين، لأنّ المرأة تحسّ بنفسها مقصيّة عن الشريك ومُهانة بابتعاده عن الحميميّة في علاقتهما. المرأة المهجورة هنا تنتابها أحاسيس متنوعة ما يجعلها مشتّتة وخارج دائرة اليقين والاستقرار اللذين كانت تتمتّع بهما، وهي ميّالة إلى عدم تصديق شكوكها تشبّثاً منها بحالة الاستقرار وخوفاً من المجهول (التغيير). حتّى في لحظة المصارحة الأولى تبدو المرأة غير قابلة للتصديق كما في حالة إيفا “وذات يوم وبينما كانت إيفا منهمكة في تحضير الطعام قال لها: أنا واقع في غرام امرأة أخرى!. استمرت إيفا في تقديم الطعام وقالت: هكذا إذن! وكم ستظلّ على هذه الحال؟”. امرأة أخرى تسترجع ما حصل معها كالتالي: “عندما قال لي زوجي إنه أحب امرأة أخرى وسيرتبط بها لم أفهم ما قال، وقلت له كفّ عن قول هذه الحماقات! لكن عندما فهمت أنه يتكلم بشكل جدي بدأت أضربه وأصبحت كالمجنونة أضربه وأبكي وأصرخ. كنت قد فقدت أعصابي تماماً. لا أعرف ماذا فعلت بالضبط، ثم بعد ذلك من شدة الإرهاق والتعب نمت نوماً طويلاً!”.
إن لحظة الاصطدام القاسي بالحقيقة تهزّ كينونة المرأة المهجورة، فالميديّات بوصفهنّ زوجات متفانيات يكنّ قد بنين حياتهن على نقطة استناد وحيدة هي الزواج/الزوج، ولذلك سيكون من شأن انهيار هذا الحلم/الوهم أن يضع كلاً منهنّ في مواجهة ذاتها العارية. أي أنّ الميديّة لا تفقد شريكاً بقدر ما يخيّل إليها أنّها فقدت نفسها، وأنّها فقدت مبرّر وجودها، ولأنّها لم تعد ترى ذاتها وهي مستقلّة، ولو نسبيّاً، عن ارتباطها بالشريك فهي تقف حائرة ضائعة أمام سؤالها: “من أنا؟ من أكون؟”. ولن يكون مستغرباً في بدايات الصدمة أنّها لم تعد تجد مبرّراً لوجودها، وتعاقب نفسها بمختلف العقوبات الجسديّة من قلّة النوم أو الغذاء، وتتمنّى الموت، أو حتّى تسعى إلى الانتحار. ومن الطبيعي أنّ المرأة المهجورة في هذه الحالة قد تقيم مقارنات مجحفة بينها وبين زوجة طليقها الجديدة، فالأخيرة تكون أصغر سنّاً وهي الفائزة مع حالة انعدام الوزن التي تعيشها المهجورة؛ هذا قبل أن تفكّر الزوجة المهجورة على نحو انتقاميّ فتنعت غريمتها بالألفاظ التي تخفض من قيمتها الإنسانيّة.
“إنّها وصمة عار، إنسانة مليئة بالعيوب والنقص!/ لم يرض بها أحد كزوجة وإلا لما تزوجت من رجل له زوجة وأطفال!/ تلك الواقفة وتحمل ملابسها الداخلية في يدها!/ عندما ستريه كلّ فنونها الجنسية في الفراش، ماذا ستفعل بعد ذلك من أجل استمرار العلاقة؟ بالطبع ستكون العلاقة مؤقتة، نزوة عابرة وسوف تنتهي قريباً!”. هذه بعض الاتّهامات التي تسوقها الميديّات في حقّ غريماتهنّ، ومن الملاحظ أن نسبة كبيرة من النعوت تتّجه إلى الانتقام بتعهير الغريمة وتجريدها من صفاتها الشخصية باستثناء قدرتها الجنسية. ونقرأ في الكتاب العديد من الحوادث الطريفة التي قامت بها الميديّات من أجل الانتقام من الزوج أو الغريمة. وعلى العموم فمرحلة الانتقام إيذان بانتهاء الصدمة الأولى وتطوّر مشاعر الغضب إلى عنف لفظيّ أو سلوكيّ. فإحدى النساء قصّت جميع ربطات العنق العائدة لزوجها، وأخرى قطعت جميع الأزرار من ثيابه، وثالثة أتلفت جميع تسجيلاته الموسيقيّة العزيزة على قلبه. امرأة أخرى جمعتها المصادفة في مكان مع طليقها، وكان برفقة شابة جديدة غير زوجته الجديدة. كشفت الزوجة عن العلاقة الغراميّة لزوجة طليقها الجديدة أيضاً بقصد الانتقام، فالتقطت لهما صوراً وهما في وضع حسّاس، وأرسلت الصور إلى الزوجة الجديدة وكتبت إليها تحية على الظرف: “مبروك جاء دورك، هنيئاً لك أيتها القردة!”.
وممّا يبدو أنّه رغبة في الانتقام أن تحلم الميديّة بزوجها ميتاً، لكنّ هذا الحلم النموذجيّ له دلالة صحّيّة وهي رغبة المهجورة في التخلّص من ذكرى طليقها، إضافةً إلى دوره في التنفيس عن الاحتقان والغضب. ويتجلّى الحلم، كما تسرده الكثيرات، في رؤيتهنّ لجثث أزواجهنّ، دون أن تقوم الواحدة منهنّ بفعل القتل، ويكون عليها أن تتخلّص من الجثّة لترتاح بعدها. بتعبير آخر؛ عبر الحلم بموته تنتقل المهجورة من مشاعر الغضب تجاه طليقها إلى حزن الأرملة، وتتخلص في الوقت نفسه ممّا قد يساورها من تعلّق به أو أوهام بعودته. وهنا قد تبدأ المهجورة باسترجاع ما حدث في حياتها الزوجيّة السابقة، ومحاكمة الأحداث بطريقة فيها شيء من العقلانيّة، وإن كانت لا تصل إلى حدّ التسامح مع النفس أو مع الآخر.
تتبع الكاتبة المراحل التي مرّت بها المهجورات من الصدمة إلى الشفاء منها، لكنّ هذا لا يعني أن كافّة الحالات سارت وفق خطّ مستقيم، فهناك أزواج حاولوا العودة إلى زوجاتهم القديمات، وهناك زوجات قبلن بالعودة وكأنّ شيئاً لم يكن. إحداهنّ لجأت إلى اختصاصيّ نفسيّ تطلب منه التفسير والفهم لما يحصل:
لماذا عدتِ إليه؟ سألتها الاختصاصيّة النفسيّة.
إنّه شخص لطيف. قالت تسا، وأكملت: وأنا أحبّه.
اذكري لي ثلاثة أشياء لطيفة عملها لك في هذه السنة؟ سألت الاختصاصيّة النفسيّة.
بحثت تسا في ذاكرتها لتتذكر شيئاً لطيفاً واحداً قام به زوجها لها، فلم تجد شيئاً.
حقاً كان في السنة الأخيرة أكثر تذمّراً ونقداً واتهاماً لي، وكنت أرهق نفسي كي أرضيه!
ما لا يبحث فيه الكتاب هو السبب الذي يدفع أولئك النسوة منذ البداية إلى الرضوخ لأزواج سيئين وجاحدين، ولماذا تملك سلالة ميديا هذا الاستعداد الكبير للتضحية بالذات وإهدارها من أجل الشريك، مع أنّ الكتاب يتوصّل إلى نتيجة مفادها أن الخروج من أزمة الهجر يكون بإثبات الذات والثقة بها وباستقلاليتها. وما لا يتوقّف عنده الكتاب هو وقوع أزمة الهجر مع منتصف العمر بالنسبة إلى الحالات المعروضة، مع ما قد يعنيه تزامن الحالتين من أسئلة مركّبة قد لا تجد أجوبتها بسهولة. في المقابل تتأتّى أهمية الكتاب من البوح الذي تقدّمه تلك النسوة لتجاربهنّ، وأحياناً من الأمل الذي يمنحنه للأخريات بعد أن يتمكّنّ من عبور الأزمة، على الرغم من أن الخلاصات صيغت في بعض الفصول على شكل إرشادات سلوكيّة مباشرة من نوع: في بداية الطلاق تعلّمي كيف تكونين وحيدة/ كوني منفتحة في بحثك عن الشريك “الجديد” ودعي أصدقاءك يساعدونك في ذلك/ تخلّصي من العلاقات التي كانت من حياتك السابقة واتّخذي لك صديقاً جديداً بدلاً منها…..”.
وعطفاً على هذه النصائح؛ إن كان لكاتب هذه السطور أن يضيف نصيحة للقارئ فهي: إن ذكّرتْك قراءة هذا الكتاب بكتاب مماثل في العربيّة فلا تستبعد هذا الخاطر فوراً، وفكّر في أيّهما أكثر أصالة!.
المستقبل