مسألة الثقافة الشعبية بين أنطونيو جرامشي وبيير بورديو
محمد حسن عبد الحافظ
1- جرامشي ومسألة الثقافة الشعبية
1-1 – الإطار المرجعي
يعالج أنطونيو جرامشي (1891-1937) مسألة الثقافة الشعبية في إطار اشتغاله بحقول المجتمع المدني Civil Society الإيطالي المعاصر. فقد اختفى مصطلح المجتمع المدني مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم يعاود الظهور إلا مع جرامشي، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. ومع جرامشي – الذي يعتمد على بعض العناصر الواردة في فلسفة هيجل – اكتسب المجتمع المدني دلالات مفهومية جديدة نتجت عن قراءته النقدية للماركسية ولممارسات الحزب الشيوعي الإيطالي. وقد استهدف جرامشي البحث في الخصوصية التي تميز الحركات الشيوعية في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية البرجوازية1. وبدا اهتمام جرامشي واضحًا بالجوانب غير الاقتصادية للمجتمع المدني، فلم يكن المجتمع المدني بالنسبة إليه كينونة منفصلة عن الجهاز القهري (الحديدي) للدولة (السلطة) فحسب؛ وإنما أيضًا عن المؤسسات الاقتصادية للمجتمع2. وقد استندت بعض التجارب التنظيرية المغاربية إلى المعنى الجرامشي لمفهوم المجتمع المدني، من حيث هو فضاء سياسي واجتماعي للنضال من أجل الديمقراطية، من أجل إعادة الدور العضوي للمثقف في مجتمعه، وهو الدور الذي رأى المثقفون أنه سُلب منهم عنوةً من قبل سلطة الدولة3.
كان النموذج الفرنسي للثورة الفرنسية إطارًا مرجعيًّا دائمًا في تحليلات جرامشي لطبيعة البرجوازية الإيطالية ومسارها. لقد تمكنت الثورة الفرنسية من تعبئة الطاقات الشعبية في النضال الثوري ضد الطبقات المالكة الإقطاعية، حيث تبنت المطالب الفلاحية، وخلقت إمكانات تحالف واسعة مع جمهور المنتجين الصغار في الريف. وعلى النقيض من هذا قاد حزب المعتدلين البرجوازية الإيطالية باتجاه توحيد إيطاليا ونهضتها، وفقًا لخطط وتحالفات مختلفة كليًّا، فقامت النهضة على تحالف البرجوازية الشمالية مع كبار ملاك الجنوب، بعد أن استبعدت جماهير الفلاحين تمامًا عن المشاركة في التحالف، ودون الاعتماد على أية نضالات جماهيرية. لقد كانت الأداة الرئيسية للتحالف هي “الدولة البيونتية” بجيشها ونظامها الملكي وجهازها البيروقراطي4.
لما كان جرامشي ينظر إلى العلم والسياسة، وهما وحدتان لا تنفصلان، من وجهة نظر إمكانات الفئات الخاضعة، فقد كان عليه أن يفتش عن معرفة فاعلة، تنقل الفئات الخاضعة من وضع التمرد السلبي إلى مصاف الإرادة الجماعية الفاعلة؛ أي كان عليه الاقتراب من موضوع: مجتمعية المعرفة، ومجتمعية الفعل السياسي. في هذا الاقتراب ، كان جرامشي يمزج العلم بالرغبة، مفتشًا عن شيء يدعى: ماركسية الجماهير. ومع أن الماركسية تتعرف كوحدة “نظرية – عملية” تأخذ شرعيتها التاريخية من تجسدها في الفعل الجماهيري، بعد أن تنفذ في عقول الجماهير، فإن هذا التعريف الذي يأخذ شكل البداهة (وفي كل بداهة شيء من الاستبداد) يطرح مسائل بالغة التعقيد. فإذا كانت الماركسية هي التحويل النظري للمعرفة البرجوازية في أكثرها تقدمًا، فكيف يمكن لها أن تنفذ إلى عقول الجماهير؟ بل كيف يمكن معاينة ثقافة الجماهير الشعبية وفحصها لتحويلها نظريًّا إلى شكل جديد من المعرفة ينتج الأثر السياسي الفاعل الذي تطمح الماركسية إلى إنتاجه؟ تبدأ الماركسية من “الثقافة العالية” كي تصبح لاحقًا ثقافة الجماهير المحرومة من ثقافة الأولى بعد أن تعيد صياغة ثقافة الجماهير أيضًا؛ أي إن الماركسية تحقق دلالتها من خلال فعل نقدي مزدوج: نقد الثقافة البرجوازية المسيطرة، ونقد ثقافة الجماهير المسيطر عليها، وذلك من أجل الوصول إلى معرفة جديدة، هي: ماركسية الجماهير-ماركسية تنقد الجماهير، وتنقدها الجماهير أيضًا5.
1- 2 – الثقافة الشعبية والمجتمع المدني
تستند أفكار جرامشي الذهبية حول أهمية الثقافة الشعبية لحل مشكلة التغيير والتنمية في المجتمع المدني إلى الحذر من النظر إلى الفولكلور بوصفه طرفة، أو بوصفه أمرًا مثيرًا للعجب، فالحقيقة أنه شيء جاد جدًا، يجب التعامل معه بجدية؛ إنه تصور للعالم وللحياة، وهو خاص ببعض الفئات الاجتماعية (محددة بالزمان والمكان)؛ أي إنه خاص بـ “الشعب”، من حيث هو “مجموع الطبقات الخاضعة”، والفولكلور متعدد، وشديد التنوع، يقف في تعارض وتناقض ومعارضة ضد التصورات الرسمية، وضد تصورات “الطبقات الحاكمة”، وضد “الدولة”، أي إن الفولكلور يتناقض مع “المجتمع الرسمي” بشكل عام. من هنا، يمكن فهم الفولكلور باعتباره انعكاسًا لشروط حياة الشعب الثقافية.
من جانب آخر، يشير جرامشي – محترزًا – إلى أن الشعب لا يستطيع امتلاك تصورات واضحة ومنتظمة ومنظمة وممركزة سياسيًا. وبسبب هذا العجز، يصبح الفولكلور – الذي هو انعكاس لشروط الحياة الشعبية – امتدادًا غير مباشر للثقافة المسيطرة، أو مجالاً للوقوع في شرك الاستتباع للثقافة العالمة أو المسيطرة، لكن الفولكلور – في نهاية المطاف – يمكن أن يمنحنا المادة الخام التي يجب على النخب العضوية تشكيلها، وإغناؤها بالاتساق، دون أن يُستغل ذلك لصالح أطراف أخرى غير أصحابها.
لم يكن اهتمام جرامشي بالثقافة الشعبية محض ميل ترفي ثقافوي، وإنما فرض عليه ذلك الاهتمام بفعل الشروط الإيديولوجية التي حكمت الصراع الطبقي في إيطاليا في ذلك الحين. فقد كانت البرجوازية تسعى هي الأخرى لدعم نفسها عبر المساندة الشعبية، وتأتي – مثل “القنطورس” الإغريقي بنصفه الحيواني ونصفه البشري – كي تمارس فعاليتها المزدوجة: القوة والإقناع؛ السيطرة والهيمنة. في حين لا تملك الطبقة العاملة إلا مشروعها المستقبلي وطاقاتها النضالية. وبالتالي، فإن الطرف المرشح للانتصار هو ذلك الذي يستطيع الهيمنة على الفئات الوسيطة والجماهير الريفية، وليس هناك من سبيل إلى ذلك إلا بخلق قبول عام بالتصور الجديد للعالم الذي تمتلكه البروليتاريا. من هنا، وجه جرامشي اهتمامه لدراسة الثقافة الشعبية في إيطاليا، إذ إن التصور الجديد للعالم لن ينجز إلا عبر الجدل مع الثقافات القائمة وسط الجماهير. ومن ثم، فقد بنى مشروعه الأيديولوجي الاستراتيجي، وهو تحطيم نخبوية الثقافة وتعميم المعرفة الفلسفية، بالإجهاز على ذلك الوهم الذي يرى في الفلسفة شيئًا غريبًا وصعبًا لمجرد أنها النشاط الفكري لفئة من المتخصصين أو الفلاسفة المحترفين. لقد أصبح هم جرامشي إثبات “أن كل البشر فلاسفة”. وبالفعل، كان جرامشي يرى في كل الناس فلاسفة، بمعنى مختلف عن الفلسفة النظامية للمتخصصين، وأطلق من ثم على تلك الفلسفة الملائمة للجميع اسم “الفلسفة العفوية”، محددًا ثلاثة مجالات لها:
1. اللغة بذاتها التي هي كلية من المقولات والمفاهيم، وليست جملة من المفردات الخالية من المضمون.
2. الحس المشترك والحس السليم.
3. الدين الشعبي والنظام الداخلي للمعتقدات، الخرافات، والآراء، وطرق رؤية الأشياء، والعمل، التي تجمع كلها تحت اسم الفولكلور.
وبالرغم من المقاطع العديدة التي تحدث فيها جرامشي عن وجود عناصر جيدة في الفولكلور أو “الحس المشترك”، وهي مقاطع موضوع استشهاد دائم من قبل أصحاب الرأي القائل بشعبوية جرامشي، فإن التقييم السائد في كتاباته حول الثقافة الشعبية كان سلبيًّا، ويعرض الباحث الإيطالي “ألبرتو ماريا كيريسي” تصنيفًا إجماليًّا للتعارضات التي يقيمها جرامشي بين خصائص الثقافة الفولكلورية الشعبية وثقافة النخبة (الثقافة المتخصصة)، وهو تعارض ماثل ذلك القائم بين الطبقات الخاضعة والطبقة المهيمنة:
الثقافة الفولكلورية/ الثقافة المتخصصة
تصور للعالم سلبي/ تصور للعالم إيجابي
خاضعة/ مهيمنة
بسيطة/ عالمة
مركب غير عضوي/ مركب عضوي
تنظيم داخلي متشظي/ تنظيم داخلي موحد
زائفة/ أصيلة
تضمنية/ صريحة
ويخلص “كيريس” إلى أن ملاحظات جرامشي على الفولكلور هي ذات طبيعة قطعية، والقطعي نادرًا ما يكون موضوعيًّا، وحتى لو كان جرامشي قد عدَّل أحيانًا، وبشكل عارض تلك الأحكام، وأبدى تقييمًا إيجابيًّا للفولكلور من زوايا معينة، فإن ذلك لا يغير من تقييمه السلبي العام له. ويعود الموقف الجرامشي من الثافة الشعبية والفولكلور إلى سببين أساسيين: أولهما أنه كان يخلط كثيرًا بين مادة الفولكلور كما هي من جانب، وتصوراتها للعالم من جانب آخر، فكان تشوش المادة وتبعثرها واختلاطها يطغى على تصور العالم المتضمن فيها، والمتقدم في نواحٍ كثيرة. ثانيًا: أن الانشغال السياسي لدى جرامشي كان طاغيًا، بحيث بدت أبحاثه في موضوعات الثقافة الشعبية مبتسرة ومتعجلة، يسودها الطابع الاستهدافي الذي كان يدفع به عادة للانتقال السريع إلى وضع خطط وتوصيات لتطوير تلك الثقافة، بحيث تتطابق مع الوعي الصحيح كما كان يتصوره آنذاك6.
يقول جرامشي: الأدب الشعبي، بالمعنى الدنيء، هو انحطاط “سياسي – تجاري” للأدب “القومي – الشعبي” الذي نعثر على نماذجه في المآسي اليونانية والشكسبيرية. ومن ثم، لا يلقي جرامشي الضوء ساطعًا على الثقافة الشعبية إلا ليلقي بضوء أكثر سطوعًا على ضرورة نقدها وتحويلها، حيث تأخذ بعد ذلك نعتًا محددًا هو: الأدب “القومي – الشعبي”. بمعنى آخر: إن دعوة جرامشي إلى الاقتراب من ثقافة الجماهير فارغة من المعنى إذا لم تدرك بوصفها دعوة حزبية لخلق جماهير مثقفة7.
2 – بيير بورديو ومسألة الثقافة الشعبية
2 – 1 – الإطار المرجعي
تمثل إسهامات جرامشي واحدًا من الأصول الفلسفية لبيير بورديو (1 أغسطس 1930 – 23 يناير 2002)، حيث جسَّد مفهوم “المثقف العضوي” الذي صكَّه جرامشي. ينتسب بورديو إلى أولئك الأكاديميين الذين لا يفصلون بين الالتزام الفكري والالتزام السياسي؛ أولئك الذين لا يتحملون خمول المثقفين وبروجهم العاجية. وكان الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس (1929-….) محقًّا عندما رثاه قائلاً: “مع اختفاء بورديو، اختفى أحد آخر كبار السوسيولوجيين في القرن العشرين، والذي لم يكن يأبه بتخوم التخصصات وحدود المجالات وقد كان بطبيعة الحال إثنولوجيا منذ أبحاثه الأولى بصدد اصطدام المجتمع القروي الجزائري بالعقلية الرأسمالية، غير أن إنتاجه الذي تدفق دون كلل يتموضع تحت شارة السوسيولوجيا تمامًا، كما ينتسب إلى الفلسفة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية أو تحليل اللغة وجميع المجالات التي دشن فيها آفاق جديدة ومنظورات واعدة. ما يفتنني عند بيير بورديو هي أريحية ذكائه وسخائه واستعداده الدائم لخوض المعارك الاجتماعية. وما يفتنني – وسيظل كذلك – قدرته على التحليل العميق كباحث وكأكاديمي والتي لا تمنعه من أن يتحول فجأة إلى مثقف إنساني من طراز فريد، بحيث لا يرضى بأن يكون شاهدًا على الحدث، بل فاعلاً فيه”.
وقد ظهر الالتزام مبكرًا عند بيير بورديو، وذلك خلال الخمسينيات عندما كان في جامعة الجزائر. ففي ذلك الوقت، انغمس في دراسة “تهجير” العمال الجزائريين المنتمين إلى عائلات تقليدية، تم تدميرها بحكم بروز بنى اقتصادية حديثة تم فرضها بالقوة على مجتمع لم يكن مهيئًا جيدا لها. وظلت تلك التجربة مفيدة بالنسبة لبورديو؛ ذلك لأنها مثلت اختياره الذي لم يتخلَ عنه حتى النهاية. وفي الجزائر أيضًا، يعمق بيير بورديو أبحاثه في مجال الإثنولوجيا (علم السلالات) من خلال الطقوس والعادات في منطقة القبائل والروابط الأسرية والبنى الإيديولوجية والاجتماعية الناتجة عن الهيمنة الذكورية. وقد صدرت أبحاثه تلك في كتاب معنون بـ: “مخطط إجمالي لنظرية تطبيقية”. وقد حاز هذا الكتاب الذي صدر عام 1972 تقدير كبار علماء الإثنولوجيا. وفي مقدمتهم كلود ليفي ستراوس صاحب “المدارات الحزينة”.
في عام 1975 أصدر كتابه “تمييز” الذي يعتبره الكثيرون أفضل مؤلفاته، بل واحدًا من أهم المؤلفات الخاصة بالعلوم الاجتماعية خلال القرن العشرين. ففي هذا الكتاب، يحاول بناء نظرية لمجتمع يقوم على فكرة أن الأفراد والمجموعات لا يوجدون إلا عبر علاقة “تمييزية” مع الأفراد والمجموعات الآخرين. فمثل الكيانات اللغوية، ليس للملكات الاجتماعية والفردية والجماعية معنى في حد ذاتها، لكن فقط ضمن بنية ترابطية وتدرجية لا تتوقف عن التحول والتنقل.
في الثمانينيات، اهتم بورديو بأوضاع التعليم في فرنسا، وأصدر مع جان كلود باسرون بعض الكتب في هذا المجال أدان فيها الجانب المظلم من التعليم الفرنسي الذي يدعي القائمون عليه بأنه تعليم ديمقراطي (علماني)، وكان هدفه من خلال ذلك إبراز التأثير الكبير للمدرسة وللثقافة بصفة عامة في بناء المجتمع ونحت شخصية الفرد، بعدها انصب اهتمام بورديو على الفن والأدب، فكتب عددًا من الأبحاث والدراسات المهمة عن فلوبير وعن فن مانيه وعن هانس هاكه ودانيال بوران. وكان يكن تقديرًا كبيرا للشاعر الفرنسي فرانسيس بونج وللروائي كلود سيمون الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1986 وللكاتب النمساوي توماس بارنهارد. وفي مؤلفات أخرى أصدرها خلال التسعينيات، شن بورديو هجومًا عنيفًا على وسائل الإعلام السمعية والبصرية التي حولت الثقافة حسب رأيه إلى “سلعة رخيصة”. وكان أمله من خلال ذلك إثارة جدل حول هذا الموضوع يحرك السواكن، ويخرج الحياة الاعلامية والثقافية من خمولها ويكشف خداعها وأكاذيبها غير أنه لم يتلق غير الشتائم المقذعة.
وخلال إضرابات شتاء 1995 التي هزت فرنسا، كان بورديو حاضرًا بقوة في حلقات العمال والعاطلين عن العمل محاولاً من خلال ذلك فهم التطورات الجديدة التي حدثت في المجتمع الفرنسي وأيضًا ادانة الليبرالية الجديدة التي كانت قد سيطرت سيطرة شبه كلية على العالم بأسره. وفي أحد الحوارات التي أجريت معه في تلك الفترة، قال بورديو مدافعًا عن موقفه: “إن ما أدافع عنه هو إمكانية وضرورة وجود المثقف النقدي. ليس هناك ديمقراطية حقيقية من دون سلطة نقدية تواجهها. والمثقف هو في رأيي هذه السلطة النقدية”.
وفي السنوات الأخيرة من حياته، شن بيير بورديو هجومًا عنيفًا على العولمة. وفي محاضرة ألقاها في أثينا، ونشرها تحت عنوان “من أجل معرفة ملتزمة”، دعا إلى ضرورة تشجيع خلق “حركة اجتماعية أوروبية” مضادة للعولمة، وقال: “إن من المهم، بل من الضروري أن يساهم عدد من الباحثين المستقلين في الحركة الاجتماعية ذلك أننا نواجه الآن سياسة العولمة (أؤكد على كلمة سياسة العولمة، ولا أتحدث عن العولمة كما لو أنها سيرورة طبيعية). إن هذه السياسة في جانب كبير منها، ظلت إلى حد هذه الساعة سرية في انتشارها وفي توزيعها. لهذا لا بد من عمل بحثي لاكتشافها قبل أن يشرع في تطبيقها. بالإضافة إلى كل هذا أرى أن هذه السياسة لها نتائج يمكن حدسها بفضل العلوم الاجتماعية، لكنها في المدى القريب، سوف تظل لا مرئية بالنسبة لأغلبية الناس، وهناك خصيصة أخرى وهي أن هناك باحثين يساهمون في إنتاجها وتركيزها”8.
2-2- مسألة الثقافة الشعبية عند بورديو
مثل جرامشي، يعاين بورديو الثقافة الشعبية في صورتها الدنيئة، وفي تمثيلها لانحطاط “سياسي – تجاري”، وفي تكريسها لفكر الهيمنة (الذكورية والسلطوية)، وفي اختزالها الممارسات الشعبية في صورها الهمجية أو السوقية. ويرى أن “عبادة الثقافة الشعبية” تنهض –نخبويًّا – على فكرة “احترام الشعب”، على نحو يُعاد إنتاج القيم الرمزية الكامنة في الثقافة الشعبية في “الكتابة النظرية” التي تقوم بدورها في تكريس الهيمنة. ويتصور بورديو أن هذه الفعالية المنحدرة للثقافة الشعبية تمثل حصارًا لها، وعزلاً لها عن تحقيق ثورة وتمرد على الحط والخضوع والإذعان.
ومن المهم هنا أن نوضح أن هناك خلطًا بين استعمال مفهوم الثقافة الشعبية لدى جرامشي وبورديو من جانب، وبين استعمالها في فضاءات ثقافية أخرى، فلا تمثل الثقافة الشعبية الآثار الفنية العظيمة كالمآسي اليونانية والشكسبيرية التي أشار إليها جرامشي، وإنما تنسحب الثقافة الشعبية، في التداول السوسيوثقافي الفرنسي، على ما نسميه بالمنتجات الثقافية الجماهيرية التي يتم تعميمها – عبر الوسائط كالإذاعة والتليفزيون، وكذلك التعليم، مما وضعه بورديو تحت مجهر السؤال الفلسفي والسوسيولوجي – ليصبح استهلاكها شعبيًّا على نطاق واسع، خاصة لدى طبقة العمال والفلاحين، بهدف تحقيق الوحدة والانسجام الاجتماعيين. انطلاقًا من هذه الوضعية الخاصة لمفهوم الثقافة الشعبية، بدت الثقافة الشعبية، بنظر بعض متذوقي الجمال، محتقرة جدًا ورخيصة. كما مثَّلت الثقافة الشعبية فضيحة في نظر أولئك الذين يريدون أن يعرضوا في كل مناسبة صورة أمة متلاحمة تخلو من المشاكل والتناقضات والتوترات الجوهرية9. وكان من نتائج ذلك سقوط كل ما هو جوهري في الثقافة أمام ثقافة الجماهير10.
في تأملات باسكالية (1997)، يستشهد بورديو بالفيلسوف والرياضي بليز باسكال (1623-1662) في معرض حديثه عن علاقة الإنسان بالكون وبالفضاء، فالكون يغمرني ويحتويني مثل نقطة ما، وبالفكر فأنا أحتوي الكون. وبالمثل، فكل واحد منا، يتموقع في وضعية اجتماعية خاصة، والتي تمدنا برؤية خاصة عن العالم كذلك. وضمن كل وضعية داخل الحقل الاجتماعي آبتوس Habitus* خاص يوافقها كذلك (…) أي نسق من شيمات للإدارك الحسي Perception، للتقويم Appreciation، والسلوك Action أي مجموعة المعارف التطبيقية المكتسبة عبر الزمن والتي تمكننا من الإدراك، والتصرف والتقييم في فضاء اجتماعي معين. ويتحدد الآبتوس بخصيصتين أساسيتين:
– كونه بنية تبنى انطلاقًا من الفضاء الاجتماعي في وضع سوسيوتاريخي معين.
– كونه بنية بانية انطلاقًا من فاعلية الفرد داخل الفضاء الاجتماعي في المساهمة في إعادة إنتاج هذا الفضاء.
يرفض بورديو النظر إلى المجتمع كما لو كان وحدة متكاملة ومنسجمة (التوجه البنيوي الوظيفي)، أو كتل منقسمة حسب ملكية وسائل وقوى الإنتاج بين المالكين وغير المالكين (التوجه الماركسي)، بل يعتبره فضاءً متشكلاً من حقول (سياسية، علمية، أدبية، جامعية، قانونية، دينية، صحفية، تربوية،…) يشغلها مفوضون Agent مهيمنون وآخرون مهيمن عليهم، بوساطة الرأسمال* لا الرأسمال المادي فحسب، بل الرأسمال الرمزي والاجتماعي والثقافي كذلك11 . يعتبر بورديو أن تاريخ الفلسفة – كما يُدرس – لاتاريخيًا، لكونه يتجاهل التاريخ، حيث يمزج بين فكر الماضي وفكر الحاضر، وتمثل نظرية الـ Arché أو الرجوع إلى الأصل نموذجًا لهذا التاريخ اللاتاريخي.
إن أقوال باسكال، حسب بورديو، تُنبّهنا إلى الفارق، الذي يعمل الموقف السكولاستيكي – وفقًا للسكولا؛ أي أوقات الفراغ – على تغييبه، بين “ما هو متضمَّن منطقيّا وما هو مُنجَرّ عمليّا” طبقًا لنهج “العادة” الذي “دونما عُنف ولا فنّ ولا برهنة، يجعلنا نؤمن بالأشياء”. فقد حدس باسكال هذا الوهم وتفطّن إلى “حقيقية” أننا “آلة بقدر ما نحن عقل. وهو السبب في أن الأدَاة التي يحصل بها الاقتناع ليست بالإثبات الوحيد. فما أقل الأشياء المُثبَتة! إن البراهين لا تقنع إلاّ العقل. لكن العادة تصنع أكثر البراهين تصديقا وقوّة؛ فهي تُمِيل الآلة وهذه تجرّ العقل دون أن يفكّر”.
كسوسيولوجي فإن بورديو قد اعتبر كل فعالية نظرية مشروطة بثلاثة أنواع من التقييدات التي تطال الذات والموضوع: المكانة الاجتماعية التي يتبوّؤها الفرد، والسبل المؤدية إليها، والانتماء إلى جنس ما، بالإضافة إلى المعتقدات الخاصة، يعني معتقدات فلسفية ـ دينية، من حيث هي مسلمات مخصوصة بالمجال الذي يتحرك فيه المُفكر، وأخيرا الآراء المسبقة التي تُهيكل بادئ الرأي (doxa) والمرتبطة بالسكولا، أي بأوقات الفراغ. العالِم الذي يدّعي الحياد والتبحّر الموضوعي هو في غير وعي منه بالتشريطات الخارجية التي تقيّده.
“الاعتقاد” إذن هو المحرّك الأقوى لكل النزعات الإنسانية، وهو العنصر اللاواعي الكامن تحت أي نشاط علمي. ما مُهمّة العقل إذن؟ ولماذا نُنتِج المعرفة ونَطمح إلى اكتشاف قوانين الطبيعة والتاريخ؟ ما الجدوى من الهمّ النظري أصلاً، إن كانت “العادة” أقوى من كلّ شيء؟ لست أدري كيف تُفسّر هذه “النظرية” تَشبّث العلماء بمواقعهم المعرفيّة وتفانيهم في دراسة الكون. طبقًٍا لنهج بسكال وبورديو، ليست طموحات العلماء إلاّ “أوهاما نبيلة”، كما قال نيتشه12.
3- الثقافة الشعبية والثقافة العالمة
الثقافة تعبير ذاتي – فردي أو جماعي – عن العالم؛ أي تعبير عن نمط تمثل وإدراك ذلك العالم من قبل الفرد والجماعة (قبيلة، طبقة، شعب،… إلخ). وبهذا المعنى، تعيد الثقافة – في ذلك التعبير – بناء العالم على نحو مختلف عن الهيئة “الطبيعية” التي يوجد عليها خارج أي إدراك له. لكن الثقافة، إذ تعيد ذلك البناء من خلال عملية التعبير، أو الإنتاج الرمزي، تفعل ذلك على أنحاء مختلفة: على نحو مكتوب، وعلى نحو شفهي، صوتيّ وحركيّ. ليست الثقافة المكتوبة – بما فيها المعرفة النظرية والتجريبية – إلا لحظة بسيطة من لحظات التعبير الثقافي، تمكن تسميتها بلحظة التعبير عن الفاعلية المنطقية، أو العقلية، أو الاختبارية، للتمثل الإنساني للعالم. وهي إذ تظهر في صورة مكتوبة، تتحذ لغة معرفية ومفهومية خاصة بها، يستقل بها المجال المعرفي عن سواه من مجالات الثقافة المكتوبة كالأدب – مثلاً – بأجناسه التعبيرية المختلفة13 .
لكن الثقافة – أيضًا – هي التعبير الشفهي (غير المكتوب)، ممثلاً في أجناس مختلفة من الفنون، ومن التعبير الحركي الذي يتخذ الجسد مادة له في المقام الأول. ففي الغناء والأمثال والسير الشعبية، وفي النحت والفن التشكيلي، وفي العمارة والنقش على الخشب أو المعادن والجبص والرخام… إلخ. وفي الوشم (“النقش” على الجسد)، وفي التطريز والحياكة وسوى ذلك؛ نصوص من التعبير الثقافي لا تقل قيمة عن النصوص المكتوبة في مضمار التعبير عن نوازع الذات وحاجاتها الجمالية، وعن نوع تفاعلها مع العالم المحيط، بل نستطيع أن نرصد التجليات المختلفة لهذا التعبير الثقافي حتى في المأكل، والملبس، وطقوس العبادة، ومراسيم الاحتفالات والأعياد والمواسم والمآتم وغيرها، فيما يسمى بمنظومة العادات والتقاليد والمعتقدات. إنها جميعًا أشكال مختلفة من الإفصاح عن الذات وعن الوجدان الفردي والجمعي، وعلى صفحتها، تمكن قراءة المجتمع الذي تعبِّر عنه، وبنيته العقلية – بتعبير كلود ليفي شتراوس – وشخصيته الحضارية. ففيها يخرج ما بداخل مستودع الذاكرة من معطيات قابلة للتحليل الاجتماعي14 .
لا شك في أن الحقل الثقافي العربي ينطوي على هذه الثنائية العميقة (نقصد ثنائية الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، أو ثقافة الشعب وثقافة النخب)، وهي الثنائية التي ترقى – في تأثيرها – إلى مستوى الازدواجية القابلة لتوليد كل أنواع الانقسام والقطيعة.
أحد تجليات هذه الثنائية الزائفة يتمثل في اختلاف طبائعهما (ربما لا تكفي دلالة “الاختلاف” لوصف علاقتهما على نحو دقيق دائمًا، قد نحتاج إلى أن نستبدل بها دلالة “التناقض” في سياقات كثيرة). الثقافة العالمة تتسم بطابعها المنهجي الدقيق (ثمة شكوك في أدبيات ما بعد الحداثة حول فكرة “المنهجية” هذه!) وبطابعها المؤسسي، وبخصيصتها التدوينية. على حين يغلب على الثقافة الشعبية الطابع الشفهي، وبطابعها العفوي التلقائي والموروث الذي يجسد تجارب المجتمعات الشعبية – تاريخـيًّا – في مختلف أصعدة حياتها.
لا تعني شفهية الثقافة الشعبية وتلقائيتها وقوعها في دائرة السطحية واللاعقلانية واللامنهجية، كما تدعي بعض الأجهزة الثقافية السائدة؛ إنها في حقيقة الأمر تعبير عميق عن تمثلات معقدة تنتجها الجماعة، تتوسل بواسطتها فهم الظواهر وإدراكها، ومحاولة التأثير عليها وتوجيهها، من منظورات أسطورية وخرافية وجمالية، ومعرفية أيضًا، سواء بواسطة وسائط شفهية أو بصرية أو كتابية15. كما تتسم الثقافة الشعبية بكونها لا تخضع للرقابة المؤسسية (ستتصادم مع الرقابة بالتأكيد)، بينما تخضع الثقافة العالمة لرقابة المؤسسة، بل لرقابة الأنا/ الوعي، بينما تفلت الثقافة الشعبية من أية رقابة، بما فيها الرقابة التي يفرضها الأنا/ الوعي على اللاشعور/ اللاوعي، على نحو ما يكشف التحليل النفسي الذي يرى “النكت” مجالاً يتحرر فيه اللاوعي من رقابة الوعي، وكثيرًا ما نعثر – بجانب النكت – على حكايات وأغانٍ تخترق المحظور في القيم السائدة، سواء على الصعيد الديني أو الجنسي أو السياسي. لقد كانت المحرمات والنواهي حاضرتين في كل العلاقات: الأسرية، والاجتماعية، والسياسية، وعلاقات العمل، والعلاقة بالكون وبالطبيعة. ومن ثم، أنتجت الثقافة الشعبية كمًّا نوعيًّا من المنتج الثقافي: قصةً ومثلاً ونكتةً وسيرةً… إلخ، للتعبير عن موقف الجماعات من العالم والحياة، إدراكًا أو تفسيرًا أو تبريرًا أو سخريةً، حسب الموقف والسياق وطبيعة كل نوع ووظيفته، مما يجعل من الأنواع الأدبية الفولكلورية أنواعًا حتمية، لإحداث التوازن والمقاومة، في واقع تاريخي يقع داخل دائرة التسلط، والاختلال الاجتماعي16.
ليس ثمة امتياز للثقافة المكتوبة (العالمة) على الثقافة الشعبية (الشفهية) في مضمار التعبير عن الذات، فكلاهما يشكل طريقة من طرائق هذا التعبير، اللهم إلا في ما بينهما من تفاوت في درجة النظام والتعقيد، حيث تبدو الثقافة المكتوبة أكثر تراكمًا. غير أن المحنة لا تكمن في هذا الجانب، نعني ليست في وجود فوارق في أنماط التعبير وفي درجات النظام فيه؛ بل تكمن في مستوى التمثل لدى كل منهما؛ ذلك لأن هناك قدرًا من التفاوت في وعي كل من الثقافة المكتوبة (العالمة) والثقافة الشفهية (الشعبية)17 .
يتبدى ذلك – بوضوح أكبر – في مجال كتابة تاريخ كل منهما، حيث يبدو، حتى الآن، أن التـاريخ الوحيد الذي حُفظ بعناية فائقة في معظم المجتمعات هو تاريخ الثقافة المكتوبة، فيما لم يحظَ تاريخ الثقافة الشعبية (أو ما يعرف بالتاريخ الشفهي) بكبير اهتمام يليق بمكانته في بناء المجتمع الثقافي. وقد يعود ذلك إلى قداسة المكتوب لدى مجتمعات بعينها كالمجتمع العربي ـ الإسلامي، لكن هذه القداسة لم تتأسس على قاعدة الحداثة على نحو ما حدث في المجتمعات الغربية – أو ما يسمى بمجتمعات الشمال – بل قامت على النهج الخاص الذي انتقل به العقل العربي من حالة الكلام الشفهي إلى حالة النص المكتوب مطلع العصر العباسي، حيث نجم عن هذا التحول/الانتقال: تعديل أو تغيير عميق في بِنَى المجتمعات التقليدية وفي موازيين القوى بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وبات العقل الإسلامي (الكتابي) مرتبطًا بالدولة (السلطان) ورجال الفقه والطبقات الحاكمة18.
لقد تم تثبيت التاريخ “العربي ـ الإسلامي” بالكتابة19، ناهيك عن الأسئلة الخاصة بكيفية كتابته، ومن كتبه، وعمن كُتب، ولمن كُتب؟ الملاحظة الجديرة بالانتباه هنا، هي أنه بات إسقاط زمكانية هذا التاريخ المكتوب واقعًا دومًا على أزمنة وأمكنة أخرى ذات بنية وأبعاد وظروف مختلفة ومتغيرة بالضرورة.
إن الذي يدفع دومًا الثمن الفادح لقاءَ هذا النهـج في التحول، هو ذاكـرة المجتمعات وتراكمها الثقافي، و – استطرادًا – معرفتنا له. فحين لا يكون في إمكاننا أن نكتب تاريـخ قسم هائل من التعبـير الثقافي لمجتمع أو لشعب ما، فنـحن بذلك نفتقد القـدرة على – والحق في – بناء وعي تاريخي بتراكمه الرمزي. الأفدح حقًا، والأنكى من كل ذلك، أن الجانب الأعظم من التعبير في مجتمعاتنا، إنما هو الذي يشغله التعبير الثقافي الشفوي الشعبي20.
كما أن قصر اهتمام المؤرخين على الوثائق المكتوبة، دون سواها، أغفل أهمية الدور الذي ينهض به الصوت في الحفاظ على المجتمعات البشرية والذي غدا اليوم أمرًا ثابتًا لا جدال فيه؛ ذلك لأن مجموع ما يسمى بالمأثورات الشفهية لمجتمع ما يشكل فيه شبكة من المبادلات الصوتية التي تمثل أعرافًا وتقاليد سلوكية ثابتة بدرجة أو بأخرى، وتتمثل وظيفتها الأولى في تأمين استمرار إدراك للحياة وتجربة يقع الفرد بدونها في شَرَك الوحدة، إن لم يكن في غياهب اليأس21 .
إذا انتقلنا من مجال التاريخ إلى مجال الأدب، فإن القياس على ما أحدثته الكتابة من تغير في المفاهيم النقدية هو الجذر الأساس للمشكلة التي يعاني منها الباحثون في دراسة الأنواع الأدبية الشعبية.
وجه من وجوه محنة الشفهية – على الصعيد الثقافي العام – يتمثل في وضعها خطرًا وخصمًا وتهديدًا للكتابية، وهي المحنة التي يعوزها العمق الذي يمكِّننا من تدمير هذا التصور المخادع. فالواقع أن أحدهما لا – ولم – يكتسب مناعة ضد الآخر، بل ظلت عمليات التبادل بينهما متصلة قديمًا وحديثًا ومعاصرًا، وهذا لا يخص العربية فحسب؛ بل ينسحب أيضًا على اللغات جميعها: قديمها وحديثها ومعاصرها. وإذا ضربنا أمثالاً لذلك، فقد عرف الشعر العربي القديم شعرًا شفويًا موازيًا له، ومنه الكان وكان والقوما والمواليا والدوبيت والزجل في المشرق والمغرب العربيين، والموشح الجامع بين الفصيح والعامي والأجنبي في الأندلس، ذلك ما قعَّده ابن سناء المُلك في “دار الطراز”، وصاغ في شأنه ابن خلدون نظريته المعروفة عنه في “المقدمة”. وبعد ذلك، عرفت العربية الفصحى في الأقطار العربية شعرًا شفويًا موازيًا، منه الملحون في المغرب، والزجل في كثير من البلاد العربية، والنبطي في الخليج العربي، والحساني في الصحراء المغربية وموريتانيا، والموال وأشكال شعرية شعبية أخرى في مصر. كذلك عرف الأدب الرسمي الفصيح في اللغات الأوروبية أدبًا شفويًا موازيًا كأناشيد المآثر والتروبادور والتروفير في فرنسا، والرومانثي في إسبانيا، وقد أثَّر الزجل الأندلسي القزماني في كل من فرنسا وانجلترا وألمانيا وإيطاليا والبرتغال22 .
بمعنى آخر، صاغه عبدالحميد يونس قائلاً: بالرغم من الانفصام الحاد – المفتعل – بين الشعبي والرسمي، فإن المأثورات الشعبية ظلت تقتحم الثقافة الرسمية، والفن الرسمي، والأدب الرسمي، وغيرها من الفعاليات الرسمية، في كثير من العصور. كما أن التراث الشعبي قد أفاد من ثمرات العقول والقرائح التي ازدهرت في حواضر العالم العربي، وفي كنف الحياة الرسمية. ومن الواجب على القوَّامين على الثقافة – تخطيطًا ومتابعة – أن يعاونوا الحياة الشعبية على التخلص من كل أثر من آثار ذلك الانفصام23.
لكن هذا الواجب، الذي أشار إليه يونس، مطلع السبعينيات من القرن العشرين، قد بدا عسيرًا على التحقق الفعلي، حيث لاتزال آثار ذلك الانفصال غائرة.
لقد عانت الثقافة الغربية نفسها من هيمنة المفاهيم النقدية الحديثة – التي اختزلت الإنسان وحضاراته وإبداعه في الكتابة فحسب – على أنواع الأدب الشفهي التي ظلت تلتهمها مجرة جوتنبرج والحضارة التكنولوجية الغربية. لم يجد بول زومتور بدًّا من أن يطلق حكمًا يبدو متسمًا بنوع من القسوة المضادة للمقولات النقدية التي نقلها عدد من النقاد العرب عن الإنجازات النقدية الأوروبية، حيث يقول زومتور: “ليس حال المفاهيم التي ينقلها التحليل النصي، منذ عشرين عامًا، علميًا في شيء”24.
الهوامش
1. أمينة رشيد (محررًا)، جرامشي وقضايا المجتمع المدني، مركز البحوث العربية (القاهرة)، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر (نيقوسيا)، الطبعة الأولى، 1991، (انظر: عبد القادر الزغل، مفهوم المجتمع المدني والتحول نحو التعددية الحزبية، ص 136).
2. كريشان كومار، حول مصطلح المجتمع المدني، ترجمة: عدنان جرجس، الثقافة العالمية (الكويت)، العدد 7، يوليو – أغسطس 2001، ص 36.
3. الطاهر لبيب، جرامشي في الفكر العربي، في كتاب: جرامشي…، مرجع سبق ذكره، ص ص 164 – 176.
4. عصام فوزي، آليات الهيمنة والمقاومة في الخطاب الشعبي، ضمن كتاب: جرامشي…، المرجع نفسه، ص 241.
5. فيصل دراج: الثقافة الشعبية في سياسة جرامشي، ضمن: جرامشي…، مرجع سبق ذكره، ص 204، 205.
6. عصام فوزي، مرجع سبق ذكره، ص ص 243 : 246.
7. فيصل دراج، مرجع سبق ذكره، ص 211.
8. حسونة المصباحي، بيار بورديو.. هل كان آخر المثقفين الملتزمين، الشرق الأوسط (لندن)، السبـت 23 مارس 2002.
9. انظر: جاك شاربترو و رنيه كايس، الثقافة الشعبية في فرنسا، ترجمة: بهيج شعبان، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة 1، 1969، ص 73، 74.
10. مارلين بومار، سعيد بو خليط، من فلسفة بسيطة إلى أسئلة الحضارة: أين هي الثقافة العامة إذن؟، العرب الأسبوعي (لندن) السبت 14/11/2009.
الآبتوس Habitus: كلمة يونانية مشتقة من الفعل اللاتيني Habere، ويعني فعل الملكية/التملك Avoir. استعمله أرسطو (384-322 ق.م) والذي أعطاه معنى طريقة الوجود الثابتة والتي يصعب تعديلها أو تحويلها. كما استعمله طوما الاكويني (1225-1274) الذي أعطاه معنى العادة. وفي الميدان الطبي، يستعمل بمعنى العرض كآبتوس السل Teberculeux، آبتوس البلورات لوصف شكلها الهندسي، آبتوس الكوارتز مثلا. أما في الحقل السوسيولوجي، فقد استعمله إميل دوركهايم (1858-1917) في كتابه التطور البيداغوجي بفرنسا بمعنى الطبع واستخدمه مارسيل ماوس (1872-1950) في حديثه عن تقنيات الجسد ضمن مؤلفه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا بمعنى العادة Habitude، وعادة الاكتسابHabitude d- acquisition. الآبتوس بالنسبة لبورديو نسق من الاستعدادات الدائمة والقابلة للتحويل أو النقل Transposable، بنى مبنية مستعدة للاشتغال بصفتها بانية، أي كمبادئ مولدة ومنظمة لممارسات وتمثلات…-” (le sens pratique p88). وبصيغته العامة هو المجتمع وقد حل واستقر في الجسم عن طريق سيرورة التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض، المجتمع (هنا)، بكل قيمه وأخلاقياته، بكل محددات السلوك والتفكير والاختيار… إنه ذلك التاريخ الذي يسكن الأشخاص في صورة نظام قار للمؤهلات والمواقف-” الأبتوس إذن نسق من استعدادات دائمة وقابلة للتناقل Transposable، اكتسبت اجتماعيا وتجدرت عميقا في الذات، تشمل على الأقل ثلاثة أبعاد أساسية: بعد نفسي وجداني (الاختيار، الميولات، الأذواق) بعد عقلي منطقي (الأفكار، مبادئ الفهم والتفسير…)، بعد أخلاقي عملي (الأفعال، القيم…) إنه مؤشر على الأصل أو الوسط الاجتماعي، يقول بورديو حول وظيفة هذا المفهوم: إن إحدى وظائف مفهوم الآبتوس الأساسية هي التخلص من منزلقين متكاملين Complémentaires (…): النزعة الآلية Mécanisme، والتي تعتبر أن الفعل action هو نتيجة آلية لإكراهات أسباب خارجية، ومن ناحية أخرى النزعة الغائية le finalisme، والتي تعتبر خصوصا مع نظرية الفعل العقلاني أن المفوض Agent، يتصرف بشكل حر وواع.
الرأسمال le capital: تتنافس في الحقول الاجتماعية مجموعة من الرساميل، والكل يراهن على تحصيلها ومراكمتها قصد استثمارها، ليقع الاعتراف بها اجتماعيًّا حيث تصبح رأسمالاً رمزيًّا، يخول لصاحبه موقعًا معينًا ضمن لعبة التمايز. وأهم أنماط الرأسمال:
أ- الرأسمال الاجتماعي le capital sociale: يمثل مجموع اللقاءات Contacts، والعلاقات والمعارف، والصداقات التي تمنح المفوض Agent مقدرًا معينًا من المكانة الاجتماعية، وسلطة الفعل ورد الفعل الملائم بفضل كم ونوعية هذه العلائق والروابط. والرأسمال الاجتماعي هو مجموع الموارد الفعلية Actuelles أو الكامنة Potentielles والتي ترتبط بحيازة شبكة دائمة durable من العلاقات شبه المؤسساتية Institutionnalisés من التعارفات والاعترافات المتبادلة inter-reconnaisance، أو، بعبارة أخرى، الانتماء إلى مجموعة معينة أو مجموعة مفوضين Agents يتوحدون بروابط دائمة ومنفعية Utile.
ب- الرأسمال الثقافي Capital Culturelle le: هو مجموعة المعارف والقدرات والمهارات النظرية والعملية في إطار ثقافة معينة، ويتألف من الشواهد المدرسية والألقاب الثقافية التي تخول لمالكها مراكز ووضعيات تتحدد بحجمها ونوعها.
ج- الرأسمال الرمزي le capital symbolique: ليس شيئًا آخر سوى الرأسمال الاقتصادي أو الثقافي عندما يصبح ذائع الصيت، حسب أنواع التمييز التي تفرضه.
11. حساين المأمون، بيير بورديو: نحو سوسيولوجيا الكشف عن الهيمنة: الحقل التربوي نموذجًا، الشبكة الدولية للمعلومات.
12. انظر: الشبكة الدولية للمعلومات: محمد المزوغي، العقل السكولاستيكيّ، مجلة أوان الالكترونية، الثلثاء 13 نيسان (أبريل) 2010،
13. عبد الإله بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، نحو وعي عربي متجدد بالمسألة الثقافية، أفريقيا للشرق، الدار البيضاء/ بيروت، 1998، ص 45.
14. المرجع نفسه، ص 46.
15. لا بد من الإشارة – هنا – إلى أن الخصيصة الشفهية للثقافة الشعبية لا توحي باختزالها في الذاكرة الشفهية فحسب، فمفهوم الكتابة لا ينبغي أن يُنظر إليه من منظور لغوي وكفى، حيث إن هناك جماعات تكتب على الجسد، “الوشم” مثلاً، كما هو ملاحظ في مصر والسودان والمغرب. كما أن هناك من المأثورات الشعبية التشكيلية ما يتوسل بالخط، وباللغة المكتوبة. انظر: محمد حسن عبدالحافظ، المأثورات الشعبية والمجتمع المدني: المدخل الفولكلوري للتنمية، ضمن كتاب: المجتمع المدني؛ رؤية ثقافية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002، ص 74 – 76.
16. راجع:
أ. مجموعة باحثين، ثقافة الطفل بين التغريب والأصالة، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، 1998، (انظر: مصطفى حجازي، مفهوم الثقافة: خصائصها ووظائفها، ص 27).
ب. فاوبار محمد، في الثقافة الشعبية والحدث الاجتماعي، الفكر العربي (بيروت)، شتاء 1997، ص ص 84-88.
17. بلقزيز، مرجع سبق ذكره، ص 46-47.
18. بسام بركة، الحدث الاجتماعي وذاكرة الشعوب، الفكر العربي (بيروت)، 1997، ص 71.
19. حول هذا الموضوع، راجع: محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986.
20. بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، مرجع سبق ذكره، ص 47.
21. زومتور، خلود الصوت، رسالة اليونسكو (القاهرة)، العدد 291، أغسطس1985، ص 4.
22. محمد السرغيني، عن تجنيس الشعر الشفوي، عالم الفكر (الكويت)، المجلد التاسع والعشرون، العدد الثاني، أكتوبر/ديسمبر 2000، ص 249.
23. عبد الحميد يونس، دفاع عن الفولكلور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1971، ص 14- 15.
24. زومتور، مدخل إلى الشعر الشفاهي، ترجمة: وليد الخشاب، دار شرقيات، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999، ص 38.
الحوار المتمدن