مِحنَة القراءة وفَهم المقروء
وهيب أيوب
“ما جادلت جاهلا إلا وغلبني، وما جادلت عالما ًإلا غلبته”
الشافعي
إن أكثر ما ألحظه من خلال قراءتي للتعقيبات الواردة على بعض المقالات والمواضيع، أن أصحابها لا يكترثون كثيراً للتدقيق والقراءة المُتأنّية لِما يوَدّون التعليق عليه، فإما أن يقتطعوا جُملة أو فقرة من السياق، ثم يُسارعون للإدلاء بدلوهم دون إلمامٍ أو فهمٍ للنص المكتوب، وبالتالي تأتي مداخلاتهم وتعقيباتهم كردّة فعلٍ متوتّرة ومتشنّجة أو تكون بعيدة عن صلب الموضوع وفهم المقروء.
فيوقعون كاتب النصّ والقرّاء في إرباك يحتار المرء بكيفية الردّ عليه، والأنكى من ذلك أن غالبيتهم يكتبون بأسماء مُستعارة، وبهذا يفرّون بوجوهِهم من معرفة الناس لهم، وينسلّون تحت جنح الاسم المُستعار من تحمّل المسؤولية الأخلاقية ومستواهم الثقافي أمام القرّاء والجمهور، ما يجعلهم يعيدون الكرّة مثنىً وثلاثٍ ورباع، فلا عَتَب على مَن تجهله.
والحقيقة الأخرى أنّ الركاكة والضحالة في الثقافة والمعرفة والاطّلاع والجهل التام لماهية “النقد الحقيقي”، تجعله عند الكثيرين مجرد “هجوم” مدفوع بالغيرة أو بالحسد أو بهدف التحطيم، أو لاستهداف شخصي.. لذلك يتجاهلون صلب الموضوع وينكبون للرد بحسب ما افترضوه، هم أنفسهم، لا بما تناوله النص حقيقة.
في المجتمعات ذات التجربة التي ما زالت تحبو في مسائل النقد والحوار والمفهوم الديمقراطي لهما، تختلط الأمور والمفاهيم والمصطلحات على كثيرين، فيعبثون بها كما تعبث الصبية بالألعاب، فيُخرِّبون بعضها ويشوّهون البعض ويحطمون بعضها الآخر، لقلّة إدراكهم لما بين يديهم.
يظن البعض أن النقد أو حتى الهجوم اللاذع على أيّ موضوع أدبي أو فني أو ما شابه، هو بمثابة تحطيم للمعنويات أو انتقاص من جهد أصحابه. وتجد الغالبيةَ العظمى، مِن نُخَب مَن يسمّوَن كُتّاباً وشعراء وأدباء وفنانين في المجتمعات العربية، ما زالت تعتبر النقد عِداءً. وبالمقابل يستهويها التصفيق والزعيق والتصفير والمبالغة المفرطة في المديح والدلال وكلمات الإطراء، حتى لو كانت نفاقاً أو نابعة عن جهلٍ وضحالة.
خدعوها بقولِهم حَسناءُ والغواني يغرّهنَ الثناءُ
لا يمكن ولم يحصل، في تاريخ الآداب والشعر والفنون والفلسفة والعلوم الطبيعية، أن نجا مُجتهدُ أو مُبدعٌ، في تلك المجالات، من هجومٍ أو نقد لاذعٍ أو اضطهادٍ أو حتى تآمر. وما كان ذلك إلا ليساهم في مزيدٍ من التحدّي والمثابرة من قِبل من يحملون مواهب حقيقية أثبتوا فيها أنفسهم رغم كل ما تعرّضوا له. فمن الصعوبة بمكان أن تُلغي أو تُحطّم موهوباً أو مبدعاً حقيقياً بجرّة قلم أو مُداخلة أو مقال أو حتى بكِتاب، فالإبداع الحقيقي الصادق عصيٌّ على التحطيم.
ولولا النقد والمنافسة في كل تلك المجالات لما تقدّم وتطوّر أي منها على النحو الذي نسمعه ونراه.
في كتابين للأديب طه حسين هُما “خِصام ونقد” و “من بعيد”، يشنُّ هجوماً ونقداً عنيفين على أقرانه الكتاب والأدباء في مصر والعالم العربي، ويُبيّن لهم مدى خطلهم وإخفاقهم في معالجة وتناول بعض القضايا الأدبية والفكرية بلهجة لاذعة، يظن من يقرؤها بأن هؤلاء الذين يهاجمهم هم من تسبّبوا بفقدانه بصره وعماه.
وهكذا فعل ميخائيل نُعيمة بأصدقائه وزملائه، إيليا أبي ماضي وخليل مطران وأحمد شوقي وسواهم في كتابه الذي أسماه “الغربال” قاصداً غربلة القمح من الزوان والغثِّ من السمين.
ولا ننسى كيف أن جورج طرابيشي المُفكر، قد صبّ جامَ نقده وهجومه على المفكر الجابري وعلى الكاتبة نوال السعداوي وكُثُرٍ سواهم، مُستخدماً التحليل النفسي في نقده لمنطلقاتهم في الكتابة والتحليل.
وصادق جلال العظم ومن تعرّض لهم في كتابه “ذهنية التحريم” كالمُفكر إدوارد سعيد والعديد من الكتاب العرب الذين يتهمهم بالجهل والكتابة عن مواضيع لم يقرءوها أو يطّلعوا عليها، على طريقة قال لي فُلان، أو نشرت جريدة علاّن. وهكذا كان العديد من الكتاب والنقاد أمثال العقاد وغالي شكري ولويس عوض وجابر عصفور وآخرين.
ولا تحيد عن مسألة النقد والهجوم والصراع، حتى النظريات العلمية التي غيّرت وجه العالم، من خلال تلك المناكفات والتحديات المتبادلة، لاستخلاص حقائق لا يرقى إليها الشك.
فمثلاً خاض علماء الفيزياء في بداية القرن العشرين معارك نظرية علمية ضارية، حول مسألة الذرّة والضوء والنسبية وميكانيك الكَمّ؛ كان أحد أقطابها العالم الشهير أينشتاين الذي كان ينعت نفسه أحياناً بالغباء. وقد تصادم أينشتاين مع العديد من علماء الفيزياء في عصره أمثال ريتشارد فاينمن وديراك وغايغر وهايزنبرغ، حتى سعى بعضهم لتحطيم نظرية الآخر، لكن في النهاية ثبتَ أن أينشتاين أصاب في أشياء وأخطأ بأخرى كما الآخرين، وما نتج عن الصراع أخيراً نظريات غيّرت فهم العالم إلى الأبد.
إذن فليهدأ بعض المتشنّجين إزاء النقد والصراحة الموضوعية التي تتناول شؤون الثقافة والفنون والإبداع، وليجتهد كلٌ في مجاله وإبراز مواهبه التي إن ارتقت إلى المستوى الفني والإبداعي الرفيع، فلا أحد يستطيع ردّها أو التقليل من شأنها. وليدركوا أنّه لا مجال للمسايرات والمجاملات والصداقات وذوي القربى في التعاطي مع هذه الأمور، وإلا وقعنا في السطحية والسذاجة والاستعراضات الخالية من المضمون والمعرفة والإبداع، وساهمنا في بعض ما نسمعه ونشاهده من ابتذال وارتزاق وهرطقة وانحطاط، في شتى صنوف الفكر والأدب والشعر والفنون عموماً.
الجولان المحتل/ مجدل شمس
waheeb_ayoub@hotmail.com
خاص – صفحات سورية –