إيران: صراعاتُ الثّورة الواهِنة ومستقبلُ السّلطويّة
بدرخان علي*
تتّصل الوقائع والحوادث الإيرانيّة المُندلِعَة منذ شهور غداة انتخابات رئاسيّة، مشكوكٌ في نزاهتها إلى حدّ بعيد، بالعديد من العوامل “الداخليّة” بصورة رئيسيّة، ما برحت مفاعيلها تشكّل وقود المعركة الانتخابيّة والسياسيّة المُحتدَمة، فيما بدا من اللحظات الأولى أنّها لن تتوقّف عند حدود العمليّة الانتخابيّة وحسب. وهذا ما حصل في الواقع حيث مدى التفاعل الاجتماعيّ والسياسيّ الذي تولّد من جرّاء المنافسة الانتخابيّة شكّل ثورة في حدّ ذاتها و نواة لتحوّلات مستقبليّة عميقة، سوف ترسم مستقبل النظام السياسيّ وصورة “الجمهورية الإسلاميّة” في طور مغاير وحقبة متمايزة عمّا عاشتها طيلة ثلاثة عقود.
لقد كانت الأسئلة تتكرّر حول مدى قابليّة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، للشروع في إصلاحاتٍ سياسيّة وقانونيّة وثقافيّة واقتصاديّة بعد عقودٍ من حكمٍ “دينيّ” متزمّت، فجاءت الأحداث الإيرانيّة الرّاهنة لتمتحن الجدل السياسيّ الداخليّ والصراع بين السلطة السياسيّة- الدينيّة النافذة من جهة وقوى المجتمَعين الأهليّ والمدنيّ اللذين يختزنا بؤراً حيويّة نابضة وروحٍ احتجاجيّة عاليّة، لم تفلح التسلّطيّة السياسيّة- الأمنيّة المدجّجة بسطوة دينيّة هائلة في القضاء عليها و محوها وتدميرها نهائيّاً (كما في نموذج التسلّطيّة العربيّة “العلمانيّة” مثلاً)، وسلّطت أشعةً كاشفة على قوّة كلا القطبَين، كما على البؤرة الحسّاسة في نظام الجمهورية الإسلاميّة؛ الأكثر حَسْماً في تصريف الشؤون الداخليّة والخارجيّة، أي دائرة التقاطع بين الدينيّ والمجتمعيّ والسياسيّ.
أوّل العوامل، كما أشير مِراراً، هو وَهَن الثورة التي قام على أساسها مُجمل النظام السياسيّ الذي بنيت عليه أركان الجمهورية الإسلامية في إيران بعد ثورة العام1979 الشعبيّة التي قادها الإمام الخميني؛ الفقيه ورجل الدين المثير الذي استطاع تكييف مبادئ عقيدية (ولاية الفقيه) – لا تحوز إجماعاً كبيراً في المجمّع الفقهيّ الشيعيّ ذاته – تُجيز لرجال الدين لعب دور سياسيّ مباشر وأساسيّ في حكم الجمهوريّة الإسلاميّة بصفته واجباً شرعيّاً لقيادة الأمّة حتّى ظهور الإمام (المهدي) “الغائب” المنتظر، وإعمال “ولاية الفقيه” وما يتفرّع منها في سبيل تثبيت حكم دينيّ لنظام سياسيّ هجين متنافر في بنيانه (ثيوقراطي – جمهوريّ)، الغلبةُ فيه للمكوّن الإكليروسيّ المُهيمِن في المجال الوطنيّ العامّ.
وبفعل التقادم التاريخيّ ومنطق الأشياء وَهَنت الثورة وضعفت جاذبيتها المعنويّة لأجيال ما بعد الثورة (وهم الجيل الثالث والرابع الآن)، فبرزت الاحتياجات الواقعيّة والحياتيّة الملموسة للمجتمع المدنيّ الإيرانيّ ؛ لا سيما الفئات المدينيّة ومجتمع البازار وأصحاب الكفاءات العلميّة والأكاديميّة وطلبة الجامعات (في العاصمة طهران والمدن الكبيرة خصوصاً)؛ الجمهور الأكثر تواصلاً مع العالم الخارجيّ والمنخرِط في شبكات التواصل العولميّ الإعلاميّة والثقافيّة( جماعات حقوق الإنسان- طلبة الجامعات-جمعيات نسويّة- منظمات مدنيّة متنوّعة…) تلك المحرومة من الحراك والنشاط الطبيعيّ والمدنيّ بسبب القوانين الجائرة والبيروقراطية المقيمَة والتسلّط السّياسيّ- الدينيّ الضاغط. ومن جهة أخرى تزايدَ التهميش الاقتصاديّ والاجتماعيّ بحقّ قطاعاتٍ واسعة من سكان الأرياف وأطراف المدن؛ لكن بنفس الوقت خيبة أملها في إجراء إصلاحاتٍ اقتصاديّة لصالحها كما وُعدت مراراً في العهد الإصلاحيّ، سنوات حكم الرئيس الأسبق محمد خاتمي الثمانيّة(1997 – 2005) الذي مهدّ بفشله في الإيفاء بوعوده المقطوعة لتنصيب أحمدي نجاد من بعده؛ الذي استغلّ مجمل الظروف الإقليميّة ، وطبيعة الاقتصاد الريعيّ المموّل من عائدات النفط الكبيرة المُستعمَلة كرشوة وهِبَات لقطاعات اجتماعيّة واسعة من الفقراء و”المُستَضعَفِين” و”المحرومين” وعناصر الجيش والشرطة والحرس الثوريّ؛ التي مكنّت الرئيس أحمدي نجاد من استمالتها إلى جانبه كقوّة انتخابيّة أساسيّة (وهي ظاهرة كانت ملحوظة في بلدان أخرى مشابهة، حيثما أُتيحَ للسلطة المركزيّة تأطير المجتمع المحكوم وفق أواليات الاقتصاد الأوامري command economy فتحوز – أي السلطة- تبعاً ولاءً سياسيّاً قويّاً حتّى نفاذ القدرة الأبويّة تلك أو نفوق الموارد الطبيعيّة وتضعضع الدور الأبويّ للدولة، وهو ما بدأ في الواقع وغدا من الصعوبة الفائقة هيكلة المجتمع وفق تلك الآليات الآفِلة، غير المتاحة على نطاق واسع في النطاق الاقتصادي العالمي المعولَم). وهو قد زَعم تمثيلها “الطبقيّ” في الانتخابات الأخيرة، عن طريق استنهاض خطاب شعبويّ تعبويّ واستنفار الغرائز والشعارات الدينيّة فيما يتعلّق بموقفها العصابيّ من (الغرب الكافر) وقوى (الاستكبار العالمي) وإنكار المحرقة اليهوديّة من خلال نظرة دينيّة اصطراعيّة مع العالم بغية خلق إجماع قوميّ والحفاظ على ثوابت (الثورة الإسلاميّة) التي تخدم في نهاية المطاف تثبيت طبقة الحكم في طهران المتمحورة حول سلطة رجال الدين أساساً و تثبيت السّلطة حول المقدّس في الداخل، مع إظهار ملامح قويّة لقوميّة إيرانيّة؛ يشكّل التديّن الشيعيّ عنصراً مندمجاً في تكوينها، وهي لا تخفي طموحاتها الإقليميّة الواسعة ، المشروعة منها وغير المشروعة.
غير أنّ الشعارات الهادرة لا تقوى على التصدّي العمليّ للمشكلات الحقيقيّة وتقديم حلول واقعيّة لها وهي إنْ فعلت فإلى حينٍ، فالوقائع عنيدة في كلّ مكان. وبالفعل فإنّ جملة إشارات كانت تشير إلى تململ الداخل الإيرانيّ وتذمّره من الأوضاع الداخليّة المتدهورة والسياسات الخارجيّة الانعزاليّة والصداميّة مع الغرب والجوار الإقليميّ التي دفعت بهما القيادتان الدينيّة والسياسيّة البلاد إلى حدود متوتّرة. كما كان مأمولاً من قبل مراقبين كثيرين ألاّ تتكرّر مفاجئة انتخابات العام 2005 التي أوصلت محمود أحمدي نجاد، عمدة بلدية طهران القادم من صفوف الحرس الثوريّ ( الجهاز العسكريّ والأمنيّ الذي يتمتّع بنفوذ ماليّ واقتصاديّ وسياسيّ في البلاد)، إلى سدّة الرئاسة بتزكية ودعم فائقَين من قبل مرشد الثورة الإسلاميّة الإمام الخامنئي الذي يواصل اليوم السياسة ذاتها أي دعمه لنجادي في مواجهة منافسيه الآخرين الأمتَنْ صِلة بالثورة الإسلاميّة والمؤسّسة الدينيّة في إيران التي يترأّسها الخامنئي بالمقارنة مع أحمدي نجاد ، ابن السلك الديبلوماسيّ والأمنيّ. مع ملاحظة أن كِلا الرجلين يتشاركان ،على الأقل، في تحدّرهما من المنبت الاجتماعيّ والاقتصاديّ الواحد والتوافق في التوجّه السياسيّ، فضلاً عن خضوع ” التلميذ الصغير” لسلطة الإمام الدينيّة.
لكن من غير الواقعيّ تماماً قصر وهن الثورة على سنّي حكم نجادي. فالواقع أن الثورة ولدَت وشاخَت بسرعة قصوى ونالَ منها ما نالَ الثورات الشعبيّة (الحقيقيّة، لا المدعاة مثل الانقلابات الشلليّة العربيّة) في أمكنة أخرى في زمن قصير للغاية. فانكفأت الرغبة الثوريّة الشعبويّة باكراً إلى تثبيت سلطة ضيّقة تحصّنت بالمزيد من التشدّد حيال “الشعب” الذي أنجبها(الثورة – السلطة). لكن لن يسهل عزل “الشعب” عن الحياة العامة نظراً للحركيّة السياسيّة العالية في المجتمع الإيرانيّ الذي لم يَغْب عنه الصراع السياسيّ والاجتماعيّ؛ وهو اليوم خميرة الاحتجاجات الإيرانيّة المتمادية بصورٍ شتّى. وهذا الصراع الدائر بقوّة في ثنايا المجتمع الناجم عن توازن القوى الاجتماعيّة الجديد وانشقاق النظام، لن يُحسم لصالح تعزيز سلطويّة النظام السياسيّ والإيديولوجيّ وتمكينه لفترة طويلة على ما قد تشير معطيات الداخل الإيرانيّ راهناً نتيجة الإفراط في استعمال القوّة والقمع وإرهاب المحتجّين والمعارضين. بل يمكن المجادلة في أنّ الشعب الإيرانيّ يخوض معركة بناء الديمقراطيّة (“من الداخل”)، وأنّ إيران صارت على سكّة الانتقال الديمقراطيّ ( في شروطه الإيرانيّة “الخاصّة”) العسير كنتيجة مُحْتملة راجِحة وحصيلة موضوعيّة للمخاض الطويل في البنى السياسيّة والاجتماعيّة لمجتمعٍ حيّ وإرثٍ من الخبرة المكرّسة في ممارسة السياسة والانخراط العميق في الشّأن العام لدى الجمهور الإيرانيّ ( ” الإرث ما قبل السلطويّ ” في لغة دارسِيْ نماذج الانتقالات من الحكم السلطويّ)، سليل أوّل ” ثورة دستوريّة ” في المنطقة، والممانِع للاستبداد والتسلّط ” إلى الأبد”، أيّاً كان مصدره “دينيّاً” أم “علمانيّاً”…
*كاتب كردي سوري.
© منبر الحرية ، 20 ماي /أيار2010
http://www.minbaralhurriyya.org/content/view/1068/703/