25 أيار: لحظة مفصلية
ميشيل كيلو
ثمة رأي يقول إن انسحاب العدو من معظم أراضي لبنان المحتلة دون قيد أو شرط يوم الخامس والعشرين من أيار لعام 2000 كان لحظة مفصلية في تاريخ الصراع العربي/ الإسرائيلي، وقطيعة مع كل ما سبق لهذا الصراع أو شهده من هزائم ونكبات. يؤيد أصحاب هذا الرأي أقوالهم بالحديث عن صمود حزب الله في تموز من عام 2006 طيلة ثلاثة وثلاثين يوما في وجه آلة حرب إسرائيلية، كانت تتحين فرص الانقضاض على لبنان والحزب، لجعلهما يواجهان مصير عدد من البلدان والجيوش العربية، التي عجزت عن مواجهة الصهاينة وتعرضت لهزائم على أيديهم. لكن حساب البيدر الصهيوني لم يتطابق مع حساب حقل حزب الله، الذي صمد ورد الصاع صاعين، طيلة فترة الحرب، دون أن تتراجع قدراته أو يتكبد خسائر تتناسب وحجم النيران التي انصبت على مواقعه ومقاتليه، ودون أن يتمكن العدو من تحقيق أهدافه في ميادين القتال، أو من تقديم جيشه في الصورة الدعائية التقليدية، التي كرستها حروبه السابقة كجيش منتصر لا يقوى أحد على الصمود أمامه، يبدأ الحرب متى شاء ويوقفها عندما يقرر، بينما يفر العرب ويهزمون.
في حرب تموز عام 2006، تبدلت الصورة، فرأى العالم دبابات إسرائيلية، قيل إنها غير قابلة للتدمير، تحترق أو تفر من أرض المعركة، وشاهد جنودا يبكون أو يهيمون في البراري والذهول باد على وجوههم، وراقب أفواجا عسكرية كاملة في حالة فوضى ظاهرة، وهي تعاني الانكسار والخوف، بينما اعترف عدد كبير من صحافيي إسرائيل بحجم المرارة التي غمرت الجنود والضباط المهزومين، وقال جنرالات كبار إن جيشهم لم يكن مستعدا للحرب أو مؤهلا لخوضها، وإنه كان مترهلا كفريق من الكشافة. كما تبادل هؤلاء ورئيس وزرائهم التهم وغاصوا في مهاترات على مرأى ومسمع من العالم حول المسؤولية عما حدث.
ماذا استنتج العدو من الحرب؟. قال جنرالاته إن جيشهم ارتكب غلطتين فادحتين جعلتا صمود حزب الله ممكنا:
ـ سمحوا بأن يتسلح الحزب ويتدرب دون إزعاج، وبالقدر الذي خطط له وتطلبته استراتيجية حرب العصابات.
ـ قصروا في إعداد جيشهم للحرب، وتدريبه على منازلة قوة مقتدرة وذات شكيمة، مصممة على محاربة إسرائيل دون خوف أو تردد، يتشوق مقاتلوها للموت في سبيل قضيتهم، فلا ينفع معهم بعض القصف المدفعي والجوي، ولا يفرون عندما يرون دبابة أو عربة مدرعة، وإنما يتشبثون بالأرض، ويدافعون ويهاجمون، ويختفون ويظهرون، ويقدمون أرواحهم، عند الضرورة، دفاعا عن وطنهم.
قال الجنرالات: إنهم لن يسمحوا بعد الحرب بأن يعيد الحزب تسليح نفسه، وسيضربون أولا بأول ما قد يصله من إمدادات، أو يقيمه من منشآت عسكرية. وقالوا: إنهم سيعلمون جنودهم القتل بقسوة، وسيجعلونهم مؤهلين لشرب دم أعدائهم ـ من خطاب لأشكنازي رئيس أركان جيش العدو ـ وهو ما حدث فعلا خلال العدوان على غزة، التي اعتبرت أول تطبيق لعقيدة رئيس الأركان الصهيوني بعد فشل تموز.
لم يطبق العدو البند الأول من خطته، لسبب جلي: إنه لم يتجرأ على مهاجمة مواقع الحزب، الذي خرج من الحرب بروح معنوية عالية ووضع ميداني جيد، بينما كان هو يلملم وضعه العسكري والداخلي، ويخشى أن تثير هجماته ردود فعل مدمرة وقوية إلى درجة لا تتفق مع حاجته إلى التهدئة، في فترة إعادة بناء جيشه، الذي سيتعرض لتصدع معنوي قد لا يقوى على تحمل نتائجه. هكذا، وجد العدو نفسه عاجزا عن فعل شيء ضد الحزب، الذي كان يزيد مخزونه من السلاح، باعتراف جنرالات العدو، الذين أقروا أن حزب الله يمتلك من الأسلحة ما يتفوق في الكم والنوع على ما كان لديه خلال حرب تموز من عام 2006، وما يتفوق أيضا على ما لدى بعض دول المنطقة.
خلال فترة الهدوء، القائمة منذ حوالى أربع سنوات، حاول العدو تحصين داخله عبر ابتكار منظومات صاروخية أرادها قادرة على حماية مدنه وقراه ومرافقه العسكرية الهامة، وخاصة منها مطاراته ومفاعله الذري في ديمونا. بينما زاد المكونات التكنولوجية المتطورة في أسلحته، وخاصة منها دباباته وعرباته المدرعة، وأعاد تنظيم وحداته المقاتلة، وزاد عدد الملاجئ والمخابئ المخصصة للسكان في مختلف أرجاء فلسطين المحتلة، لاعتقاده أن الجولة القادمة من الحرب ستكون أشد هولا على جيشه ومستوطنيه من أي جولة عرفها الكيان الصهيوني منذ قيامه، وأن معنويات سكانه ستنهار حتما، إذا تكرر فشل جيشه في ظروف منطقة عربية ذاهبة نحو مزيد الفرز السياسي الرسمي، وظروف عالمية غير ملائمة إلى حد بعيد.
طبق العدو خلال تدريباته البند الثاني: تحويل جيشه إلى قوة من القتلة، سيكون المدنيون من عرب لبنان وفلسطين هدفها المباشر والرئيس في أي صدام عسكري. لن يوفر جيش أشكنازي بشرا أو حجرا في الحرب القادمة، وسيدمر كل ما ستقع عيناه عليه، إن استطاع تدميره، في إطار خطة غير معلنة لجعل الحرب شاملة بحسب الصيغة الهتلرية، التي طبقتها ألمانيا النازية في شرق أوروبا والاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، وانطلقت من رؤية تقول: يجب أن تنتهي الحرب إلى بقائنا وفنائهم.
السؤال الآن: هل قطعت خطة التحصين شوطا يكفي لإطلاق الحرب من عقالها، تأخذ شكل عمليات يختبر العدو خلالها قوته، على أن يصعّدها تدريجا إلى حرب شاملة، إذا ما وجد علامات ميدانية تشجع على ذلك؟. أم أنه سيندفع، بمجرد إكمال شبكات الصواريخ والاستعدادات العسكرية، إلى خوض حرب يتوعد بجعلها حرب إبادة وتدمير شاملين بكل معنى الكلمة؟. أظن أننا سنشهد من الآن إلى نهاية هذا العام تطبيق واحد من هذين الاحتمالين، وأعتقد أن الوقت الذي يفصلنا عن الحرب سيكون مشحونا بتوترات شديدة تقبل التحول إلى تفجر مباغت، ليس فقط لأن المنطقة العربية وجوارها في حالة قلق يمزق الأعصاب، بل كذلك لأن العدو يرى في الحرب فرصة أخيرة لقصم ظهر المقاومة، ولفرض أمر واقع نهائي على العرب وإيران، يعطيه حصة كبيرة جدا في أي نظام إقليمي جديد، كائنا ما كانت دوله وقواه.
هل هذه الاحتمالات هي كل الخيارات الممكنة ؟. كلا. إذا حدثت مفاجأة ما في الموقف الإيراني، أو وقع تطور في علاقات أميركا مع طهران، يقر بدور الثانية في الإقليم، لكن بالتوافق والتفاهم مع واشنطن، أو إذا تورطت إيران في حرب أهلية عراقية، أو حدثت تطورات سلمية جدية بين دول المنطقة، فإن بديل الحرب سيكون ترك قوة حزب الله تتآكل، خاصة إن نجح أعداؤه بتوريطه في مشاكل لبنانية داخلية تحوله من قوة مقاومة تحظى بتأييد وطني يكاد يكون عاما، إلى فريق في صراع داخلي، طائفي ومدمر.
يبقى على كل حال موقف الحزب، الذي يستطيع المبادرة إلى فتح النار على إسرائيل وتحديد نمط المواجهة العسكرية التي يريدها، قبل أن يفرض العدو الحرب التي تناسبه على لبنان وعليه. إلى هذا، يستطيع الحزب رفع وتيرة تحصين وضعه الداخلي، بإقامة إطار لبناني وطني متوافق عليه وجامع، مناهض للطائفية وقادر على تعطيل أو تقليص فاعليتها.
إن جميع الخيارات مطروحة على الأطراف جميعها، لسبب يتصل بنتائج انسحاب العدو يوم 25 أيار عام 2000 بدون قيد أو شرط، وبدون أن يفاوضه أحد، من أراض لبنانية، وبما ترتب على ذلك من نتائج بعيدة المدى، نقلت الصراع من أيدي جهات رسمية عربية إلى يد جهة شعبية، غير رسمية، هي حزب الله، الذي يجمع في ذاته الحزب السياسي وحركة المقاومة، وأثبتت فاعليته في ظروف تراجع عربي شامل، ما أضفى معاني جديدة على الصراع ضد العدو بدلت بعض وجوهه، وتركت آثارا إيجابية على قطاعات واسعة من العرب العاديين، أشعرتهم بأنهم لم يعودوا مكشوفين للعدو ومهزومين، وأن إخراجهم من السياسة على ايدي نظمهم ليس نهاية المطاف والكلمة الأخيرة، ما دامت هناك مقاومة تدافع عنهم وعن أوطانهم، وما داموا قادرين على الانخراط فيها، أو محاكاتها والنسج على منوالها!.
دخلت المنطقة العربية، مع 25 أيار عام 2000، وكذلك القوى الدولية والإقليمية، في مدارات سياسية وعسكرية مختلفة، هي التي ستحدد مستقبلها ومصيرها. تقول تجربة الصراعات التاريخية الحديثة: إن من ينتصر في الصراع هو عادة الطرف الذي يقترف قدرا من الأخطاء أقل من القدر الذي يقترفه عدوه أو خصمه. في حالتنا الراهنة، وإلى أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود: تراهن أميركا وإسرائيل على دفع خصومهما إلى اقتراف أخطاء قاتلة. هل سينجح مسعاهما؟. هذا هو السؤال، الذي سيقرر شكل الرد عليه ما إذا كنا ذاهبين إلى النصر أم إلى الهزيمة !.
السفير