أبعاد الهجوم على أسطول الحرية وتداعياته: مجموعة مقالات
«أسطول الحرية» ينتصر على إسرائيل
إخفاق عسكري وسياسي لا يحتمل
حلمي موسى
عجزت إسرائيل عن تسويق رواية الدفاع عن النفس كمبرر للسيطرة الدموية على سفن «أسطول الحرية»، وعجزت أكثر عن تبرير دمويتها في استهداف العزل. وبدلا من محاولة تقليص الأضرار بالإقرار في الخطأ، اندفعت إلى تبرير «الإفراط» في استخدام القوة، ووجدت نفسها في مواجهة مع الأسرة الدولية بأسرها. لكن الخيبة الأخلاقية والعملانية أفرزت ارتباكا سياسيا داخليا يصعب تقدير عواقبه خلال وقت قصير، إذ بدأت على الفور مواجهة كلامية مستترة حول أسباب الإخفاق بين كل المستويات تقريبا: السياسية والعسكرية. ورغم أن الإسرائيليين يلتفون في كل الأحوال حول الجيش، «الذي لا جيش لهم سواه»، إلا أن الإخفاق أكبر مما يحتمل.
فالموضوع يتعلق بمكانة إسرائيل في لحظة تاريخية بالغة الحرج. وقد اضطر الإخفاق أحد كبار المؤيدين لإسرائيل، الفيلسوف الفرنسي اليهودي برنار هنري ليفي للإعلان في تل أبيب عن صدمته من العملية، وقال انه كان بوسع إسرائيل أن تتصرف بشكل مغاير، «فالصور التي رأينا هي أكثر تدميرا، ليس فقط لصورة إسرائيل وحكومة إسرائيل، وإنما أيضا للدولة التي أحب كثيرا، من أعداء إسرائيل الفعليين».
غير أن ما يهم إسرائيل ليس فقط المكانة لدى محبيها من اليهود، ولا حتى لدى نفسها، وإنما أيضا مكانتها لدى القوى الأكثر تأثيرا في العالم، وهي مكانة تضررت بشدة بهذه الأحداث، فجريمة قتل نشطاء السلام في أسطول الحرية جرت قبل يوم واحد من موعد مقرر «لإصلاح» ما تضرر من علاقات أميركية إسرائيلية وبعد وقت قصير من مكافأة حكومة نتنياهو بضمها إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وأثناء زيارة رسمية لكندا. كما أن هذه الجريمة وقعت في وقت تحاول فيه إسرائيل عبثا ادعاء قدرتها على التظاهر بتحريك العملية السياسية مع الفلسطينيين. ولا يقل أهمية عن ذلك أن هذه الجريمة تمت في وقت تكاد إسرائيل تخرج فيه عن طورها لتظهر اصطفافها في معسكر «المتنورين» في العالم مقابل معسكر «الظلاميين».
والأدهى أنها أوحت للعالم بأنها أعدت للأمر عدته وأنها قادرة على التعامل مع التحدي الجديد الرامي لكسر الحصار عن غزة بطريقة «حضارية» وأنها جهزت «تذاكر السفر» والسندويشات وفناجين القهوة. وظهر منذ الدقائق الأولى لعملية السيطرة على سفينة «مرمرة» أن كل ما أعدته واستعدت له، كان بعيدا عن الواقع.
فقد هاجمت بقوة وحشية أذهلت أغلب العالم، مدنيين في سفينتهم في عرض البحر وفي مياه دولية مدعية أنها تعرضت لكمين. وبعدما قتلت من قتلت وجرحت من جرحت حاججت بأنها من تعرض للاعتداء. وعندما لم تجد من يشتري الرواية سارعت إلى الاندفاع أكثر في الأكاذيب وتحدثت عن أسلحة كانت ستصل للقطاع وعن انتماء النشطاء الأتراك للقاعدة أو لحماس. وبدت أنها تغرق أكثر فأكثر في الكذبة.
لكن، لا تصدقوا أن إسرائيل تصدق نفسها. فقد اجتمع وزير الدفاع ورئيس الأركان وقائد البحرية وأطلقوا الكذبة. لكنهم جميعا كانوا يعرفون أنها كذبة. تبارى المسؤولون الإسرائيليون، وعلى رأسهم نتنياهو في الحديث عن تأييده للجيش «الأكثر أخلاقية في العالم». لكنهم خلف هذا التأييد يوجهون الانتقاد. ورغم أن نتنياهو في البداية حاول الإيحاء بأن الوضع تحت السيطرة إلا أنه اضطر لإلغاء زيارته لواشنطن ولقائه مع الرئيس أوباما. وتختلف الأسباب في تفسير هذه الخطوة: هل هي ثمرة غضب أميركي أم خشية من تدهور الوضع الإسرائيلي؟
لكن لا حاجة للذهاب بعيدا في تقدير الوضع. فالانتباه لكلمات بعض القادة الإسرائيليين فيه ما يشير إلى ما سوف يحدث. في المؤتمر الصحافي أعلن رئيس الأركان أنه بسبب افتقار الجيش لوسائل تفريق التظاهرات اضطر الجنود لاستخدام الرصاص الحي. أي أنه لو كانت لدى الجيش ميزانية إضافية لوضع الجيش بعهدة «شييطت 13» وسائل تفريق تظاهرات للسيطرة على السفن. وفي مقابلة مع القناة الثانية أعلن نائب وزير الدفاع متان فلنائي أن الحكومة صادقت بالكامل على «الخطة التي عرضها سلاح البحرية». وهذا يعني أن الجيش هو من يتحمل المسؤولية عما جرى. ثم ان نتنياهو أبلغ مقربيه أن تقديرات الموقف لم تشر إلى احتمال سقوط قتلى في العملية.
وقد بدت الخيبة واضحة على رجال الإعلام الإسرائيليين الذين وجدوا أنفسهم في ورطة. فمحطات التلفزة الإسرائيلية عنونت نشراتها بعناوين من قبيل «السيطرة والورطة» أو «دماء في البحر». ومثلت عبارة «سوء التقدير» كلمة السر التي ترد على كل لسان. وتزايدت الأسئلة حول «الخطأ المفهومي» و«الخطأ الاستخباراتي». وكيف أن الاستخبارات الإسرائيلية لم تكن تتوقع ما جرى، وبالتالي لم تعلم القوات بما سوف يحدث.
باختصار، كل جهة تحاول منذ الآن حماية ظهرها وإبعاد التهمة عن نفسها بعد أن بدا أن ما تحقق لم يكن نصرا كما يريدون. فمن الوجهة العملية تبين أن العملية الإسرائيلية سوف تدفع المزيد من القوى لتسيير أساطيل لفك الحصار عن غزة. ومن المقرر أن تصل السفينة «راشيل كوري» إلى غزة بعد غد على أبعد تقدير. فما الذي ستفعله إسرائيل؟ وماذا ستفعل إذا قرر الأتراك وعدد من الدول العربية تسيير خمسين سفينة إلى غزة وليس ستاً فقط؟
وكل ما كانت ترمي إليه إسرائيل هو تعزيز يأس الفلسطينيين من الأسرة الدولية ودفعهم نحو الاستكانة للحصار أو التجاوب مع مطالبها. ويبدو أن هذا لم يتحقق، بل إنه بات على وشك التحطم. لهذا السبب فإن إسرائيل تحاول اليوم العمل دفعة واحدة على عدة جبهات لمنع خروج الوضع عن دائرة السيطرة. وهي تقدّر أن النقطة الأخطر هي انفجار الوضع لدى الفلسطينيين في أراضي العام 1948، يليه انفجار الوضع في قطاع غزة، ما يهدد بانزلاق المنطقة نحو الحرب. وبعد ذلك يتركز الاهتمام الإسرائيلي على منع نشوء حالة دولية تلزمها بإنهاء الحصار المفروض على غزة، ما يمكن أن يعتبر عنوان نجاح الحملة الدولية من ناحية ونجاح حركة حماس في البقاء من ناحية أخرى. ولا يقل أهمية عن ذلك السعي لمنع تبلور حالة دولية تدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية في ما جرى.
وبحساب الربح والخسارة، فإن إسرائيل ترى في عملية السيطرة على أسطول الحرية فشلا ذريعا. وتعتقد أن تركيا باتت «خسارة لا تعوض»، وأن هناك احتمالات بإضعاف التحالف الذي كان قائما تجاه حكومة حماس في غزة مع كل من حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله والحكومة المصرية.
لقد أظهرت مجزرة «مرمرة» مستوى الحماقة الذي يمكن أن تقدم عليه حكومة يرأسها نتنياهو ويقودها في غيابه موشي يعلون وإيهود باراك. وتزداد الحماقة حدة حين يكون مطلوبا من أفيغدور ليبرمان وداني أيالون تفسير كل ما جرى.
السفير
الخطط المسبقة والنتيجة الدموية
بقلم رنده حيدر
المواجهة الدموية التي وقعت بين جنود البحرية الإسرائيلية و”أسطول الحرية”، أدخلت إسرائيل في مأزق كبير وأزمة ديبلوماسية وورطة دولية من الصعب معرفة كيف ستتطور.
طوال الأسبوع الماضي عكفت الأجهزة الأمنية في إسرائيل على وضع خطط التدخل لمنع “أسطول الحرية” من كسر الحصار والوصول الى غزة. وجاء قرار التصدي بالقوة للأسطول، ليصب في جوهر الخط السياسي الذي تنتهجه إسرائيل مع كل التحركات الإحتجاجية الدولية المؤيدة لحركة “حماس” والقائم على عدم التساهل أو التسامح معها، لاسيما بعد تكاثر المحاولات لكسر الحصار، واتساع دائرة الإحتجاج الدولي عليه، والدخول القوي لتركيا على هذا الخط. فأراد المسؤولون الأمنيون أن “يلقنوا” الجميع درساً قاسياً، لكن ما كان ينبغي أن يكون مجرد عرض “عضلات”، سرعان ما تحول مواجهة شرسة، أوقعت عدداً كبيراً من القتلى وأربكت إسرائيل، وأدخلتها في حالة من التأهب القصوى مثل تلك التي تسبق نشوب الحرب.
من الصعب تصديق ما يقوله الناطق العسكري للجيش الإسرائيلي، وما تردده الصحف الإسرائيلية على صفحاتها في هذا الوقت بالذات حيث تفرض الرقابة العسكرية على وسائل الإعلام التقيد الًصارم بالرواية الرسمية. فالجميع في إسرائيل يدرك أن ما حدث هو حرب اعلامية بين “حماس” ومؤيديها وإسرائيل على كسب الرأي العام العالمي، ومع مشاهد القتل واطلاق الجيش الإسرائيلي النار على المحتجين العُزل، تبدو إسرائيل الخاسر الأكبر و”حماس” المنتصر، فلقد كشفت أمام أنظار العالم أجمع توحش القوة الإسرائيلية. كل التعليقات الإسرائيلية على ما حدث تشير الى أنه لم يكن ثمرة تخطيط مسبق، وإنما جاء نتيجة المفاجأة التي كانت تنتظر قوة التدخل الإسرائيلية من جانب المحتجين الذين كانوا قد أعدوا العدة لمواجهة بالسلاح الأبيض، مما أخذ الجنود على حين غرة، وكاد الوضع برمته أن يخرج عن السيطرة، من هنا لجوؤهم الى استخدام الرصاص الحي. وكل الكلام الإسرائيلي عن وجود سلاح في أيدي المحتجين لم يتأكد، فالسلاح الوحيد الذي كان في حوزة هؤلاء هو مسدس أخذوه بالقوة من أحد الجنود.
أمران أساسيان يقلقان الإسرائيليين في هذا الوقت بالذات: انعكاسات ما حدث على العلاقة مع تركيا التي سارعت الى استدعاء سفيرها من إسرائيل، وعلى العلاقة مع دول الإتحاد الأوروبي؛ أما الثاني فانعكاسات ذلك داخل إسرائيل لا سيما وسط “عرب 48″، وعلى الوضع في غزة والضفة الغربية، وكذلك على الحدود الشمالية مع لبنان. ومن أبرز المظاهر التي تعبر عن القلق الإسرائيلي الشديد وضع الجيش الإسرائيلي في حالة من التأهب القصوى، وهي خطوة تتخذ لمواجهة خطر نشوب الحرب. فكيف يمكن أن تتحول عملية عسكرية بسيطة أقرب الى تدريب بحري على السيطرة على تظاهرة احتجاجية أزمة ديبلوماسية هي الأخطر في تاريخ إسرائيل، وقد تتحول الى مواجهة عسكرية؟
بعض المعلقين الإسرائيليين وصفوا ما حصل ب”السلوك الغبي والمأسوي”، والبعض الآخر لم يحمل المسؤولية للجنود أو للقيادة العسكرية والسياسية وإنما للمجتمع الإسرائيلي الذي أخذ ينحو أكثر فأكثر نحو التطرف. البعض منهم بدأ منذ الآن يطالب بلجنة تحقيق رسمية في ما حدث، والبعض اعتبر أن الساعات المقبلة مصيرية في تحديد المسار الذي ستتجه نحوه الأحداث، وأن المعركة هي حول من سيربح إعلامياً.
لكن غالبية المعلقين الإسرائيليين يعترفون بأن “حماس” استطاعت أن تسجل انجازاً كبيراً، وهذه المرة لم يدفع الفلسطينيون فقط ثمنه، وإنما بصورة خاصة الأتراك.
المعلقون الاسرائيليون تساءلوا بالأمس كيف يمكن اسرائيل الخروج من هذه الورطة؟ وماذا عليها أن تفعله من دون أن تبرر ما حدث أو تدافع عن سلوكها. فالجميع، في اسرائيل، متفق على أن اطلاق النار كان دفاعاً عن سلامة الجنود الذين تعرضت حياتهم للخطر. ولكن لماذا تسبب هذا الدفاع عن النفس بمقتل هذا العدد الكبير من المحتجين؟ وما مبرر الاستمرار في استخدام القوة مع سائر الركاب واجبارهم على النزول بالقوة عن السفن؟ وكيف ستتعامل إسرائيل مع الارتدادت الدولية والعربية والفلسطينية؟ أسئلة تنتظر الحكومة الإسرائيلية قبل أن تتدهور الأمور.
النهار
اقتحام اسطول التضامن / جريمة حرب بامتياز ..
راسم عبيدات
….إسرائيل ليست بحاجة الى شهادة من أحد على ما ترتكبه من جرائم وما تقوم به من زعرنات وعربدات وممارسات خارجة عن القانون الدولي،بل هي تحتل المرتبة الأولى على هذا الصعيد،وهي ربما أول من دخل كتاب :دينس” من حيث عدد ما ارتكبته من جرائم وأعمال وأفعال خارجة عن القانون الدولي،وهي بأعمالها الإجرامية والبربرية هذه،تجد دائماً من يشكل لها حاضنة ومدافعاً وحامياً من أية عقوبات قد تفرض عليها جراء تلك الجرائم والأفعال،فأمريكا وأوروبا الغربية كانتا دائماً تختلقان الحجج والذرائع لما تقوم به إسرائيل من جرائم وممارسات همجية ووحشية ومخالفة للقانون الدولي بحق المدنيين العزل،في ازدواجية وتعهير واضحين للمعايير والقوانين الدولية وانتقائية في التطبيق،ولعل المثال الساطع والواضح في هذا المجال هو ما ارتكبته إسرائيل من جرائم في حربها العدوانية على قطاع غزة في كانون أول/2008،حيث استخدمت الأسلحة المحرمة دولياً،وقتلت الأطفال والشيوخ والنساء من المدنيين العزل،واستباحت كل شيء ولم توفر لا مشفى ولا مسجد ولا مدرسة،حتى مقرات الأمم المتحدة تم قصفها وتدميرها،ورغم أن تقرير هيئة الأمم المتحدة أو ما عرف بتقرير غولدستون أدان إسرائيل بتلك الجرائم،إلا أننا وجدنا أمريكا ودول أوروبا الغربية،استخدمت كل ثقلها ونفوذها لمنع تلك الإدانة أو إحالة التقرير إلى مجلس الأمن الدولي من أجل محاكمة قادة إسرائيل وجلبهم للمحاكم الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب .
إن هذه الاستباحة والخروج عن القانون الدولي والفرعنة غير المسبوقة والصلف والعنجهية،ليست نتاج الدعم اللامحدود الذي تتلقاه إسرائيل من أمريكا وأوروبا الغربية فقط،بل هو نتاج حالة ضعف وانهيار عربي شامل،لم يرتقي ولو مرة واضحة إلى مستوى الحدث،بل في أكثر من مرة كانت دول النظام الرسمي ليس فقط في موقف المتفرج،بل الداعم والمؤيد لما تقوم به إسرائيل من جرائم وممارسات خارجة عن القانون الدولي والإنساني،وكلنا يستذكر جيداً مواقف العديد من دول النظام الرسمي العربي إبان الحروب العدوانية التي شنتها إسرائيل على لبنان في تموز/ 2006 وقطاع غزة كانون أول/2008،كيف شكلت دعماً وغطاءً لإسرائيل في مواقفها المنتقدة للمقاومة لكي تستمر وتتمادى في عدوانها.
واليوم وإسرائيل ترتكب جريمة واضحة وبينة بحق أسطول التضامن الدولي الذي ضم المئات من المتضامين العزل والذين جاؤوا من أكثر من بلد ودولة لكسر الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من أربع سنوات،وتقديم مساعدات إنسانية لهؤلاء المحاصرين،وفي رسالة واضحة للعالم أجمع بأنه يجب وضع حد لمعاناة أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني،ليس لهم أي ذنب أو جريمة اقترفوها إلا أنهم يطالبون ككل بني البشر بالحرية والاستقلال والعيش بكرامة،ليأتي الرد الإسرائيلي على ذلك بالاقتحام والرصاص والقتل،حيث استشهد حوالي عشرين متضامناً وعشرات الجرحى.
إن هذه الجريمة الإسرائيلية بحاجة إلى أكثر من بيان شجب واستنكار ولازمة “الجعجعات” الكلامية والشعارات الفارغة والطنانة،فهي بحاجة إلى فعل جاد وحقيقي،وحذاري من مواقف المنهارين والمتخاذلين من دول النظام الرسمي العربي،والذين سيتحفوننا بلازمة الواقعية والعقلانية والمصلحة العربية،والقائلة بأن طرد سفراء إسرائيل من العواصم العربية وإغلاق مصالحها وممثلياتها التجارية ليس في الصالح العربي،فهؤلاء كانوا العراب دوماً لمثل هذه الممارسات وهذه المواقف المخزية والمذلة،وهي التي جعلت إسرائيل تتمادى ووتفرعن وترتكب جرائمها دون حسيب أو رقيب أو تتوقع رد عربي مؤلم وموجع،وعلى الجماهير والحركة الشعبية وكل القوى والأحزاب العربية الممسكة بخيار المقاومة بمختلف ألوان طيفها السياسي،أن تخطو خطوات نوعية نحو التهديد الجدي لمواقع وعروش هذه الأنظمة،من أجل تتخذ مواقف عملية ترتقي إلى مستوى الحدث والمسؤولية،وان تغادر موقع الذل والعار الذي جعلته يلف هذه الأمة،وحولتها إلى مستجدين على عتبات الأمم المتحدة والبيت الأبيض،وأيضاً على المتشدقين بحقوق الإنسان وما يسمى بالقانون الدولي،أن يخرجوا عن إطار صمتهم،ليس فقط بإدانة واستنكار ما أقدمت عليه إسرائيل من جريمة حرب بحق المتضامنين العزل،بل بملاحقة مجرمي الحرب الآسرائيلين الذين ارتكبوا هذه الجريمة وغيرها من الجرائم من أجل جلبهم ومحاكمتهم أمام المحاكم الدولية كمجرمي حرب،كما أنه على العالم أن يخرج عن صمته وعماه وطرشه،وأن يقول كلمة حق ولو مرة واحدة بأن الحصار على غزة يجب أن ينتهي،وإسرائيل يجب أن يضع حد لغطرستها وعنجهيتها وخروجها السافر على القانون الدولي،وأيضاً على من يشارك من العرب في هذا الحصار،أن يعود ويثوب إلى رشده،ويعلن عن فتح المعابر إلى قطاع غزة المحاصر،بدلاً من بناء الجدران الفولاذية على حدودها من أجل تشديد الحصار،فالتاريخ والشعب لن يغفر مثل هذه المواقف،فمثل هذه المواقف تشجع العدوان والغطرسة الإسرائيلية،وأيضاً ما ارتكبته إسرائيل من جريمة حرب بحق أسطول المتضامنين،يجب أن يكون ضوء أحمر وناقوس خطر لكل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني وبالذات حركتي فتح وحماس،بأن هذا الاحتلال العنجهي والمتفرعن،يستهدف شعبنا الفلسطيني كشعب وليس كموالاة او معارضة،وهو يريد لشعبنا وفصائلنا أن تبقى في حالة ضعف وانقسام،من أجل أن يستمر في تنفيذ مشاريعه ومخططاته وتكريس الأمر الواقع على الأرض بتأبيد وتخليد الاحتلال.
ومن هنا فإنه المطلوب العمل بشكل فوري على إنهاء ظاهرة الانقسام،وتوحد كل فصائل شعبنا الفلسطيني على برنامج واحد وإستراتيجية موحدة،تمكن شعبنا الفلسطيني من الصمود والمقاومة والتصدي لكل ما يقوم به الاحتلال من مخططات وممارسات تستهدف شعبنا في كل مناحي حياته ووجوده وحقوقه.
الجريمة كبيرة وواضحة ولا تحتاج إلى أدلة وإثباتات،ولكن ستجد إسرائيل من يدافع عنها ويحميها من معهري القانون والمعايير الدولية،فأمريكا وأوربا الغربية جاهزتين لهذه المهمة وهذا الدور باستمرار،فهما لم تواجهان بمواقف عربية وصلبة تهدد مصالحهم في المنطقة،بحيث تجعلهم يحسبون الف حساب لأي موقف منحاز لإسرائيل يتخذونه،ولكن ما هو مطلوب منه حسم الأمور ومغادرة نهج التفاوض من أجل التفاوض، هم ما يسمى بدعاة نهج الاعتدال والواقعية،فإسرائيل بجرائمها وممارساتها لم تترك أي مجال لمثل هذا الخيار في النجاح،وعليهم أن يجربوا الخيارات الأخرى التي كانت دائماً وأبدً قاطرة الشعوب للحرية والاستقلال.
القدس- فلسطين
أبعاد الهجوم على أسطول الحرية وتداعياته
1- السياق الحاكم لحادث أسطول الحرية
2- مبررات الموقف الإسرائيلي
3- تداعيات الهجوم على الصراع العربي الإسرائيلي
قامت القوات الإسرائيلية فجر يوم 31 مايو/أيار 2010 بعملية عسكرية جوية ومظلية وبحرية بقرار وزير الدفاع سانده رئيس الوزراء وشارك فيه رئيس الأركان وقيادات البحرية والطيران ضد أسطول الحرية المتجه لكسر الحصار عن غزة، وأسفرت العملية عن وقف مسيرة الأسطول وإحباط مهمته واقتياد سفنه وحمولتها والركاب للمساءلة في إسرائيل، فضلاً عن حوالي عشرين شهيداً وضعف العدد من الجرحى.
ضم الأسطول متطوعين من أربعين دولة يجمعهم هدف واحد هو إيصال المعونات إلى سكان غزة وإعلان كسر الحصار بعد أن عجز العالم كله عن دفع إسرائيل طوعاً أو كرها إلى رفع الحصار، وإعلان فشل السياسة الإسرائيلية بكاملها ضد سكان غزة.
في هذه المقالة نعالج أبعاد هذا الحادث الخطير وتداعياته على أوضاع القضية الفلسطينية وسياق الصراع العربي الإسرائيلي.
1- السياق الحاكم لحادث أسطول الحرية
الأصل أن إسرائيل دولة محتلة لغزة حتى دون تواجد عسكري دائم لأن الاحتلال في القانون هو مجرد السيطرة الفعلية على الإقليم، وأن سحب إسرائيل لقواتها ومستوطنيها من غزة صيف 2005 ليس انسحاباً وإن فسر في غزة على أنه تحرير لغزة من الوجود الجاثم عليهم.
وكان مخطط إسرائيل واضحاً حتى قبل أن تسيطر سلطة حماس على غزة عام 2007 بعد حصول حماس على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات 2006 ولم يغير في طبيعة غزة المحتلة إعلان إسرائيل أنها إقليم متمرد ومعاد حتى تبرر فرض برنامج إبادة شامل عرف بالحصار، حده الأدنى إسقاط حماس، وحده الأقصى إبادة السكان عوضاً عن ابتلاع البحر لهم كما تمنى بيريز من قبل.
وقد أصرت إسرائيل على الحصار الذي تفرد عن سائر الإجراءات المماثلة في العمل الدولي، فهو حصر بحري وجوي وبري وإغلاق لمنافذ الحياة على السكان، وهو إجراء إبادة لا يمكن تبريره في القانون الدولي، كما لا يجوز قياسه على أحكام اتفاقية جنيف الرابعة، التي فرضت على سلطة الاحتلال تبعات بالعمل والتزامات بالامتناع عن العمل، وذلك كله لصالح السكان المدنيين في غزة، ولذلك فإن حصار غزة لا يعرفه القانون الدولي الإنساني، وكسر حصار غزة هو تصحيح لجريمة الحصار، تستند إلى سلسلة طويلة من الأحكام القانونية، أما التصدي لمحاولات كسر الحصار فهي جريمة جديدة أفدح من جريمة الحصار التي تعتبر عملاً مستمراً متعمداً لإبادة شعب في نطاق جغرافي محصور، حرم حتى من حق الفرار من قدره الذي فرضته إسرائيل.
فالصراع بين إسرائيل وأسطول الحرية هو صراع بين طرفين، الطرف الدولي الذي يتسلح بالوازع الإنساني لاستنقاذ سكان غزة من مصير تصر عليه إسرائيل منذ ثلاث سنوات، وبين إسرائيل التي تريد أن تكون اللاعب الوحيد الفاعل حتى في تقرير موقف سكان غزة من الحياة والموت.
وما دام هدف إسرائيل هو منع الأسطول من الوصول إلى غايته، فإن الأسطول حتى دون أن يصل قد حقق الجزء الأهم في رحلته وهو لفت نظر العالم إلى جريمة تصر إسرائيل على أن تسدل عليها ستار النسيان والإغفال.
ويبدو أن إسرائيل قدرت أن نجاح رحلة الأسطول بتسليم المعونات والاختلاط بأهل غزة وهو لهم شريان الحياة بعد أن جففت الشرايين الأخرى من الجانبين المصري والإسرائيلي، سيؤدى إلى نكسة أخرى لإسرائيل ونجاح لأعدائها، وإحباط لمخطط الإبادة ودعم للمقاومة وإكسابها الشرعية، بعد أن نجحت إسرائيل حتى الآن في محاصرتها إعلامياً وسياسياً بمساندة واضحة من وسط عربي أصابه الفزع من إسرائيل وجبروتها.
فكان الخيار الآخر هو التصدي بالمنع، ولكن اللافت أن المنع كان بالغ العنف، وكان القتل مخططا هو الآخر، وأن يتم إحداث أكبر قدر من الضرر للجانب التركي لأنه رأس الحربة بعد إخضاع النظم العربية، وهو المتصدر للحملة ورافع علم تركيا بمباركة حكومة أردوغان ودعمها، ولذلك فإن قرار العملية العسكرية في حساباته يستهدف الصدام مع تركيا.
وفي تقديرنا أن إسرائيل أرادت بهذه المواجهة الدامية أن تفرض واقعاً ليظل بيدها وحدها زمام السيطرة على غزة، وأن دموية العملية تهدف إلى دفع تركيا إلى أقصى نقطة إلى الحائط حتى تستبين أقصى ما تصل إليه في رد الفعل ومدى استعداد تركيا للتضحية بكل العلاقات مع إسرائيل.
بعبارة أخرى أن هدف العملية تدرج من حفظ زمام المبادرة إلى ردع كل من يفكر في المستقبل في تحدى إرادة إسرائيل في إبادة غزة، ثم اختبار رد الفعل التركي. وقد لوحظ في تركيا أن رد الفعل الشعبي كان تلقائياً لأسباب كثيرة أهمها أن وحشية إسرائيل التي استفزت مشاعر الأتراك في محرقة غزة، قد وصلت الآن إلى التجاسر على إراقة دماء أبنائهم، فانقلب الحال من تعاطف مع إخوان في الإنسانية، والدين ضد قهار فتاك ظالم، إلى ثأر ممن أراق دماء أبنائهم. ويلفت النظر في كلمة وزير خارجية تركيا الغاضبة في مجلس الأمن مساء يوم 31/5/2010 أنها ركزت على مساعي نزع الشرعية عن إسرائيل.
ولكن الاحتكاك الإسرائيلي بتركيا على خلفية موقف أميركي داعم وموقف أوروبي مساند للموقف الإسرائيلي هو أيضاً رسالة لتركيا وعليها أن تحدد هي إطار حركتها وما تراه جديراً بالحفاظ عليه في علاقتها بإسرائيل على أساس أن إسرائيل هي التحالف الغربي، وأن فصم العلاقات معها هو خروج من هذا التحالف.
هكذا قررت إسرائيل عملية عسكرية ودموية عوضاً عن اعتراض سلمي، وعوضاً عن ترك الأسطول يخرج المسألة من نطاق المطالبة برفع الحصار. ولذلك يلفت النظر الفارق بين حرص إسرائيل على أن يعالج حصار غزة في نطاق مطالبة إسرائيل برفع الحصار حتى يظل قرار الحصار وقرار رفعه بمشيئتها، وبين كسر الحصار أي إفراغ الحصار من مضمونه وكشفه وفضحه فيدفع إسرائيل إلى ابتلاع الإهانة.
ولذلك فإن التفسير المنطقي الممكن لخيار المواجهة العسكرية الدموية هو حرص إسرائيل على الخيار الإسرائيلي الذي يشمل الحصار وغيره، كما أنه يعبر عن إصرار على تفرد إسرائيل بتقرير كل ما يتعلق بالفلسطينيين دون مزاحمة أو انتزاع من الغير المساند لهم ضد إسرائيل، وهو منهج أصرت عليه إسرائيل في التفاوض وتثق في دعم واشنطن المطلق لها فيه.
ولا شك أن إسرائيل قدرت أن للعملية العسكرية تداعياتها، ولكنها قدرت أيضاً أن هذه التداعيات يمكن احتواؤها ولو بعد حين، كما حدث في تقرير غولد ستون الذي حاصرته حصاراً مخيفاً، واعتماداً على إعلام الأكاذيب والتبرير.
2- مبررات الموقف الإسرائيلي
ساقت إسرائيل عددا من المبررات لعمليتها الإجرامية ضد أسطول الحرية، كما قدمت عدداً من الاعتراضات على فكرة الأسطول ومهمته قبل العملية، وكان اللافت للنظر هو التكامل بين المنطق القانوني الإسرائيلي والسلوك الدموي الإسرائيلي، المخطط والمبرمج واعتبرت إصرار القافلة عدواناً عليها من جانب “منظمات إرهابية” يتعين صدها لكن إسرائيل اختارت العمل العسكري إمعاناً في إغلاق أي محاولة لمجرد الحديث عن حصار غزة.
ولذلك أكدت إسرائيل أن الحصار مشروع لأنها تحاصر شعباً إرهابياً يستهدف سكانها وأن حرصها على أمن سكانها يبرر لها أن ترتكب أي شيء ما دام هدفها أمنياً ونبيلاً مهما كان عدد الضحايا أو جنسياتهم، وإنما يهم إسرائيل أن تفرض على العالم واقعاً لا بد من ابتلاعه، ولذلك طالب المتحدثون باسمها بضرورة السعي إلى التهدئة وتجاوز الجريمة.
اعتبرت إسرائيل مجرد المطالبة بكسر الحصار تحدياً لوجودها بما يبرر لها أي إجراء للحفاظ على هذا الوجود. فاعتبرت إسرائيل أن القافلة هي تدخل في شؤونها الداخلية وانتهاك لقانون إسرائيل، وهو في نظر إسرائيل انتهاك للقانون الدولي، مما يعوق إسرائيل عن مكافحة الإرهاب بالحصار والإبادة.
فكأن إسرائيل تعتبر غزة جزءاً من أراضيها وتحت سلطانها وأن حصارها عمل من أعمال السيادة الإسرائيلية، حتى تمكنت إسرائيل من إرغام بعض الدول العربية -فيما يرى البعض- على هذا المفهوم لدرجة أن البعض فهم علاقة الاحتلال بين إسرائيل وغزة على أنها ترخص لإسرائيل بأن تفعل في غزة ما تشاء وأنها المسؤولة عن توفير احتياجاتها، ولذلك لا حاجة مطلقاً لفتح معبر رفح، لأن فتح المعبر يشجع إسرائيل على إغفال التزاماتها كسلطة محتلة.
وقد عجزت إسرائيل عن تبرير الخيار العسكري ضد سفن مدنية وفي أعالي البحار وبهذه القسوة إذا كان هدفها قاصراً على منع التواصل مع غزة بدون أدنى سند قانوني أو أخلاقي. والواضح أن الخيار العسكري أصلاً قرار سياسي نفذه الجيش وأشادوا ببطولات الجنود وشجاعتهم وإقدامهم في هذه المعركة الحربية.
وقد تهافتت المبررات الإسرائيلية إلى حد السفه ولم تستر هذه الجريمة الكبرى كالقول بأن الجنود قد اعتدي عليهم بالسكاكين أو أنهم خشوا أن تكون السفينة تحمل إرهابيين من القاعدة لإفراغهم في غزة. فكان الهجوم العسكري أول حالة لقرصنة رسمية (خلافا لتعريف القرصنة في المادة 101 من اتفاقية قانون البحار لعام 1982 وتعريف المكتب البحري الدولي للقرصنة).
ولذلك فإن عمل إسرائيل انتهاك أيضاً للمادة 97/3 من ذات الاتفاقية التي تحظر توقيف أو احتجاز السفن المدنية أو التجارية التي ترفع علم دولة أخرى، ولو بهدف التحري والتحقيق. فكان مهاجمة سفن القافلة والاعتداء على ركابها، وقطرها واستجواب ركابها وقتل بعضهم انتهاكات قانونية صارخة واغتصاب من جانب إسرائيل لسلطة الأمر الواقع القائم على القوة المسلحة ويدخل في عمل العصابات وليس الجيوش النظامية، وهو ما ألمح إليه البيان الرئاسي في مجلس الأمن صباح 1/6/2010 الذي أدان إسرائيل وهجومها وآثاره.
3- تداعيات الهجوم على الصراع العربي الإسرائيلي
لا بد أن نقرر أن الأعمال الإسرائيلية الإجرامية ضد قافلة الحرية قد حققت سياسيا وإعلاميا وأخلاقيا نتائج لم تكن متوقعة أبرزها أن حصار غزة قد حظي بزخم دولي على النحو الذي أكده أردوغان في كلمته إلى الشعب التركي ظهر يوم أول يونيو/حزيران, والتزام العالم وتركيا بدعم حقوق الفلسطينيين وتحرير أهل غزة من مخطط الحصار والإبادة.
ترتب على الهجوم دعم خيار المقاومة وسقوط خيار المفاوضات العبثية ورفع أسهم حماس وظهور لافتات في كل دول العالم تقول كلنا حماس بما تمثله من مبادئ وليس كتنظيم وهو أقسى ما كانت تخشاه إسرائيل، فأحيا الحادث جرائم إسرائيل في غزة وسلط الضوء مجدداً على سجل الجرائم، فضلاً عن أن تركيا سوف تلاحق إسرائيل وتحرض المجتمع الدولي والعربي في هذه الملاحقة.
ترتب على الجريمة أن إسرائيل تفكر جدياً في مدى القدرة على استمرار سياستها في فلسطين في ظل تعهد تركيا في خطاب أردوغان. قد يؤدي الحادث إلى تقارب بين الفلسطينيين إذا تجاوزوا بعض الخطوط صوب المصالحة والوفاق.
فيما يتعلق بمعبر رفح سيكون صعباً على مصر أن تمعن في إغلاقه، الأمر الذي كان يعد مساندة للحصار خاصة المطالبات الصينية والروسية وغيرها.
نخلص مما تقدم إلى أن الحادث سيؤدي إلى المزيد من الضغوط على إسرائيل وتطوير آليات المحاكمة الجنائية لها والمتورطين فيه، خاصة إذا استعانت تركيا بسلطات الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد انكشاف صورة إسرائيل البشعة وسقوط القناع وإحراج واشنطن والحلفاء، وأكاذيب إسرائيل ووحشيتها، ولكن لا نظن أن الحادث سيؤثر على مجرى الصراع أو جمود السلام، بل ربما أدى إلى توقف المفاوضات غير المباشرة، وقد تقضي أزمة العلاقات التركية الإسرائيلية على فرص استئناف دورها في المفاوضات.
الحادث باختصار كان نكسة كبرى لإسرائيل وانتصاراً لتركيا وقضية حصار غزة، ولكنه لن يؤثر بشكل مباشر على معطيات الصراع أو السلام العربي الإسرائيلي.
الجزيرة نت
آسفون… ولكن!
خالد صاغية
«أسطول الكراهية والعنف يدعم منظّمة حماس الإرهابية، وهو يمثّل استفزازاً فظيعاً لإسرائيل»… «المنظّمون معروفون بارتباطهم بالجهاد العالمي والقاعدة وحماس. لديهم تاريخ في تهريب الأسلحة والإرهاب القاتل»… «على متن السفينة وجدنا أسلحة أُعدّت مسبقاً واستخدمت ضدّ قوّاتنا. المنظّمون كانت نيّتهم عنيفة، ووسائلهم عنيفة، والنتيجة جاءت مع الأسف عنيفة»…
هذه مقتطفات من تعليقات لداني أيالون، نائب وزير الخارجيّة الإسرائيلي، إثر الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية المتّجه إلى غزّة.
أمّا وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، فأسف للخسائر في الأرواح، لكنّه أضاف إنّ الأسطول كان استفزازاً مدعوماً من متطرّفين يدعمون منظمة إرهابية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أسف لسقوط قتلى، لكنّه أكد أنّ الجنود الإسرائيليين «اضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم». وأضاف نتنياهو إنّ الناشطين على متن السفن «تعمّدوا مهاجمة الجنود، وتعرّض هؤلاء للضرب بالعصيّ وطعنوا بالسكاكين. حتى إن البعض أطلق عيارات نارية، واضطر جنودنا إلى الدفاع عن أنفسهم حماية لحياتهم».
إذاً، تفاوتت المفردات التي استخدمها المسؤولون الإسرائيليون في وصفهم لطاقم السفينة. لكنّهم أجمعوا على اعتبار الركاب إرهابيين، أو متعاونين مع الإرهاب، أو مؤيّدين له. وهذا ليس صدفة.
فحين يأسف المسؤولون الإسرائيليون، ويضيفون إلى أسفهم عبارة تبدأ بـ«ولكن…»، إنّما يحاولون تذكير العالم بأنّ الذين أريقت دماؤهم ليسوا بشراً تماماً. إنّهم من أولئك الصنف الذي اعتادت إسرائيل (والمجتمع الدولي) وصفه بالإرهابي، لكونه لا يؤمن بالقيم «البيضاء» نفسها. ولنتذكّر أنّ الجريمة لا تكون جريمة حقاً، ما لم تُرتكَب ضدّ «شريك في الإنسانية».
هذه الشراكة أُخرج منها باكراً كلّ من يدعم حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه، وكلّ من أدان حصار غزّة. فمَن لا يذكر كيف اجتمع ممثّلو الإنسانية على مائدة العشاء مع إيهود أولمرت ليباركوا له بانتهاء الحرب على غزّة، وكيف صفّق ممثّلو الإنسانية للقذائف الإسرائيلية حين كانت تنهال على المواطنين في لبنان؟ بعضهم صفّق، وبعضهم قدّم الذخيرة، وبعضهم سمح بنقلها. وحين كنّا نُقتَل هنا، كان يقال في العالم الأوّل: إنّه مخاض الشرق الأوسط الجديد.
الألم يؤلم دائماً. لكنّه لا يكفي لسماع أصوات المتألّمين.
الأخبار
بحر الدم والجريمة
الياس خوري
جريمة ضد الانسانية، لا اكثر ولا اقل. كل وصف آخر للجريمة التي ارتكبت على متن ‘سفينة مرمرة’، باطل ولا معنى له.
فالجنون الاسرائيلي وصل الى ذروته. ما اطلق عليه الاسرائيليون اسم ‘عقيدة الضاحية’، وصل اليوم الى البحر الأبيض. هبط القتلة الذين يلبسون ثياب جيش نظامي الى السفينة وتصرفوا كالقراصنة المجرمين. قتلوا تسعة عشر متضامنا وجرحوا العشرات، وحتى كتابة هذه السطور لا يزال مصير الشيخ رائد صلاح مجهولا.
المذبحة التي اراد الاسرائيليون منها ان تكون رسالة موجهة الى جميع دول العالم تقول بصريح العبارة ان اسرائيل دولة تتصرف بجنون، ولا يردعها اي قانون دولي، او اي اعتبارات انسانية. الرسالة واضحة، اسرائيل لا تبالي بالقانون الدولي، وهي لا تتكلم سوى لغة واحدة اسمها لغة القوة.
يجب ان نضع الجنون الاسرائيلي في اطاره، فدولة الاحتلال تشعر انها لم تعد قادرة على فكّ عزلتها الدولية. فالرأي العام العالمي، بما فيه الرأي العام اليهودي في امريكا واوروبا انفلق ولم يعد قادرا على ابتلاع ممارسات الاحتلال وتسويغها. لذا جاء القرار الأحمق بارتكاب الجريمة في البحر الأبيض، كي تنقل اسرائيل مأزقها الى مرحلة اعلى. ايالون، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي لم يعد يكتفي باهانة السفير التركي، عبر اجلاسه على مقعد منخفض، بل يريد اسالة الدم التركي واحتلال السفينة التركية، في الوقت الذي ترسل فيه اسرائيل غواصتين نوويتين الى مياه الخليج العربي، بهدف تهديد ايران.
هذا الجنون هو بداية رأس الجليد. فالجنون لا يقود الا الى مزيد من الجنون. اسرائيل عاجزة عن السلام ولا تريده. الصهيونية تكشف عن وجهها العنصري والاستعماري، ولم تعد تجد ما تختبىء خلفه من حجج. انها احتلال عار ودولة عنصرية، تحاصر شعبا يقع تحت احتلالها، تقتل بلا هوادة، ولا ترتوي من دم ضحاياها.
هل يعتقد الاسرائيليون انهم يستطيعون عبر هذا النوع من الممارسات وقف احتمال تدفق اساطيل الحرية الى غزة؟ وان القتل العشوائي سوف يمنع مناضلي العالم من التفكير بالتضامن مع غزة المحاصرة؟ ام انهم يسعون عبر الجريمة الى التهديد بحرب اقليمية شاملة، تعيد خلط جميع الاوراق؟ ام انهم يتصرفون في شكل عشوائي؟
لا ادري ماذا يخططون، لكن اغلب الظــــــن ان الجنرالين اللذين قادا عملية الاندحار والهروب من لبنان، اشكنازي وباراك، يحاولان عبر القرصنة والتشبيح والتهديد اعادة الاعتبار للنجوم الدموية التي تزين اكتافهما. وهما في ذلك يقودان دولة الاحتلال الى المجهول الذي لن يكون سوى بلون الدم.
السؤال اليوم ليس ماذا ستفعل تركيا؟ تركيا لن تسكت لأنها دولة تحترم نفسها، السؤال هو ماذا سيفعل العرب؟ وماذا سيفعل الفلسطينيون في شكل محدد؟
لم يعد الصمت العربي مسموحاً، لأنه صار جزءا من الجريمة، لكن من غير المنطقي التعويل على النظام العربي. فالنظام العربي مات من زمان، وكل رهان عليه وهم بوهم. لكن على النظام العربي ان يفهم مرة والى الأبد ان استمراره في تجاهل فلسطين ومأساتها سوف يعني نهايته الكاملة.
لكن الموقف الفلسطيني هو الأساس. اقل ما يجب ان تقوم به السلطة الفلسطينية هو نقل القضية الى مجلس الأمن، ووقف المفاوضات الى حين الوصول الى امرين:
1- فك الحصار عن قطاع غزة بشكل شامل ونهائي. اذ لا معنى للمفاوضات في ظل تجويع غزة وخنقها.
2- تشكيل لجنة قضائية دولية، واحالة مرتبكي جريمة البحر الأبيض الى محكمة الجنايات الدولية.
من دون تحقيق الشرطين معاً، فان استمرار المفاوضات هو سكوت عن الجريمة، واعطاء المجرم صك براءة، وغسل يديه الملوثتين بالدم البريء.
فوق ذلك وربما قبله، فإن قيام رئيس السلطة الفلسطينية بزيارة تضامنية الى غزة، من دون اي شرط، سوى الاحساس بضرورة توحيد الموقف الفلسطيني في مواجهة الجريمة، سوف يضع المجتمع الدولي امام الحاح وضرورة فك الحصار، وسوف يفتح صفحة فلسطينية جديدة، آن لها ان تفتح وسط المأزق الذي صنعه الانقسام الفلسطيني.
اسرائيل في فخ مرمرة وليس العكس. هؤلاء الرجال والنساء، الذين حملوا المساعدات الانسانية الى اهل غزة المحاصرة، ليسوا نموذجا للشجاعة والنبل والكبر الاخلاقي فقط، بل رسموا، بشهدائهم وجرحاهم، الطريق الذي يجب ان يحتذى. مئات من المناضلات والمناضلين العرب والأمميين، اسسوا للحرية اسطولها، ورسموا لفلسطين افقها الذي لن يكون سوى افق الحرية.
البحر الأبيض، بحرنا، ينحني على الدم الذي سُفك، ويفتح صدره المتشح بالأسى، لسفن الحرية، التي صارت شموسا تشرق على فلسطين، وتكسر ظلام الاحتلال.
القدس العربي
الجريمة إسرائيلية لكن المأزق تركي
جهاد الزين
لا دور كبيراً بدون اكلاف. بل لا دور كبيراً بدون مجازفات.
بدأت تركيا بدفع الكلفة الجدية اعتبارا من فجر امس الاول.
السؤال، أو أحد الاسئلة الرئيسية الآن ليس ما اذا كانت تركيا قد وصلت الى هذه الدرجة الخطرة من المجازفة السياسية بمحض تراكم الاحداث، فلا شك ان رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان وفريقه في الحكومة مصممان على هذه السياسة المتصاعدة وعنوانها الانخراط في نمط تبنٍ من نوع جديد وسلمي وديبلوماسي للقضية الفلسطينية… من ضمن استراتيجية شاملة في الشرق الاوسط وعدد من المناطق الاخرى في العالم…
السؤال اذن ليس حول هذه النقطة… وانما حول ما اذا كانت اسرائيل قد قررت بدون تردد منع تركيا من لعب هذا الدور والاحتفاظ بعلاقات جيدة مع اسرائيل في آن معا؟
يبدو بدون الايغال في تفاصيل التطور الدموي لجريمة قتل وجرح عدد من البحارة والناشطين الاتراك وغير الاتراك الموجودين في “اسطول الحرية”، ان ما حدث يعبر عن قرار اسرائيلي آخر واقوى بنسف اية امكانية لدور تركي في الصيغة التي تريدها حكومة “حزب العدالة والتنمية”: علاقات طبيعية مع اسرائيل وقيادة سياسية للمنطقة!
بعثت اسرائيل الرسالة الاولى الى تركيا بانها لن تقبل حدود الدور كما يريده رجب طيب اردوغان وانه على تركيا ان تختار بين صداقة اسرائيل كما تريدها اسرائيل او العداوة معها ولا خيار ثالثا، عندما اهانت السفير التركي لديها في الحادثة الشهيرة مع نائب وزير خارجيتها… لكن امس الاول وفوق مياه المتوسط الدولية المقابلة لسواحلها اطلقت الدولة العبرية مع رصاصاتها القاتلة رسالة اقوى، لا شك انها تعبر بصورة دراماتيكية عن رفضها الدور التركي الجديد في مجالاته المختلفة. وبهذا المعنى تحاول اسرائيل نسف كل توازنات الدور التي لا يمثلها الدور التركي فحسب، بل هي ميزته اصلا قياسا بما عرفناه من ادوار اقليمية سابقة: النموذج الناصري المصري القتالي، الى النموذج الايراني الخميني الممانع وما بينهما من نماذج. بينما نحن هنا مع تركيا في القرن الحادي والعشرين امام محاولة ارساء دور لدولة اقليمية تقدم نفسها كقوة استقرار سياسي واقتصادي، بين العرب والاسرائيليين، وقبل ذلك بينها وبين اعدائها “السابقين” اليونانيين والارمن والقبارصة اليونانيين والمشكلة الوحيدة التي تبقي على صورتها العسكرية بشكل اضطراري هي المشكلة الكردية كونها مشكلة داخلية لا خارجية بينما معادلة “الازمات صفر” التي بلغتها هي ازمات “سابقة” خارجية على معظم حدودها البرية والمائية وفي حدها الادنى لم تعد مشاكل امنية متوترة، وإن كانت لم تحل كليا بعد.
في العمق، ورغم العزلة الاسرائيلية المتمادية بعد الهجوم على سفينة “مرمرة” بل رغم الانكشاف الاخلاقي الاعلامي العالمي لحكومة بنيامين نتنياهو الذي ولّدته المجزرة، فان المأزق السياسي الفعلي هو مأزق تركي، وتحديدا زعامة رجب طيب اردوغان وحكومته الحزبية.
اسرائيل معتادة تقليديا على العيش في نوع دائم من العزلة السياسية رغم مكانتها العضوية في النظام العالمي الذي يقوده الغرب. بينما تركيا، ورغم المكاسب الهائلة المتولدة عن تبلور حضورها الاقليمي والدولي كقوة تحديثية اقتصادية وديموقراطية فانها الآن في طور “صناعة” توازن دقيق وغير مألوف كمركز استقطاب سلمي في العالم المسلم. ولهذا فان الجلافة العنفية الاسرائيلية التي ظهرت – والاكيد انها متعمدة في هذا الاتجاه بالذات – من شأنها على المدى الابعد ان تربك مبكرا قدرة القيادة التركية على صياغة هذه التوازنات المميزة لشخصيتها الصاعدة.
من الصعب الآن بعد المجزرة تصور عودة طبيعية للعلاقات التركية الاسرائيلية. حتى ان بعض المعلقين الاتراك يعتبرون ان “اعلان الحرب” الذي قامت به حكومة نتنياهو سيجعل اي تطبيع مع انقرة صعبا جدا طالما الحكومتان الليكودية و”العدالة والتنمية” في تل ابيب وانقرة موجودتان؟
هذا الوضع سيضيف مدى عزلة “آخر” على اسرائيل. مدى مهم ولكنه واحد آخر يضاف. اما بالنسبة لتركيا فالخيارات بسبب حافة “القطيعة” التي بلغتها العلاقات فستكون اصعب:
1 – تأجل الآن الى أمد غير معروف، إن لم يكن “مات” مشروع الوساطة التركية بين اسرائيل وسوريا.
2 – لا شك ان دوراً تركياً بين الفلسطينيين – خصوصا “حماس” – واسرائيل اصبح غير ممكن في الظرف الحالي (ربما علينا ان نتوقع دورا مصريا “أفعل” في هذا الاتجاه!).
لكن هذا جزء من الموضوع. فاللهجة التركية حيال اسرائيل هي بالنتيجة جزء من توازن “لهجتها” مع اوروبا والولايات المتحدة. كذلك الوضع الداخلي التركي الذي وإن كان يعيش حاليا حالة وطنية عامة من رد الفعل الغاضب على السلوك الاسرائيلي لطالما – اي هذه الوطنية – اشتهر بها الاتراك كدولة – امة في العصور الحديثة، الا ان الزعيم اردوغان سيكون تحت ضغط نقاش داخلي بين النخب التركية سيتبلور عاجلا ام آجلا. ففي النتيجة النخب التركية مدربة على السجال حول الخيارات الكبرى وهذا “التدريب” جزء من كفاءتها التحديثية، بل من شخصية تركيا نفسها التي صنعت صورتها المتقدمة.
لهذا من المنطقي توقع ان يحاول رئيس الوزراء التركي السعي الى امرين متلازمين في المرحلة المقبلة:
1 – امتصاص بلغة قوية وحاسمة الضربة الاسرائيلية ومفاعيلها الداخلية والخارجية مع التأكيد على الخط الاستقطابي الجديد لتركيا باعتباره خيارا استراتيجيا.
2 – الدخول – بعد تراجع العاصفة – في مرحلة “هدوء” سلوكي داخلي وخارجي بالقدر المتاح، “هدوء” باتت تحتاجه الاندفاعة التركية السياسية في السنوات الاخيرة. وهذه حساباتها اقتصادية ايضاً.
لهذا، من المنطقي ايضا ان نتوقع سياسة الحد من “خطوط تماس” غير مبررة تسمح لاسرائيل برمي المزيد من الارباكات… امام ما هو، بشكل شامل، اكبر من مجرد دور:
ولادة دولة ديموقراطية حديثة في العالم المسلم، صاحبة “رسالة” سلمية اقليمية في منطقة متفجرة.
… والدور التركي… ناشئ بالنتيجة…
فلا يجب ان يوضع بشكل عشوائي امام اختبارات متسرعة لحدود قدرته على الاحتمال.
لكن نعرف من التجربة التركية المعاصرة، ان طاقة الدولة التركية على استيعاب الصدمات هي طاقة مُجرَّبة في اكثر من مجال وازمة كبيرين خلال العقود الأربعة الاخيرة… وهناك اكثر من مثل على قرارها السياسي الدقيق والحاسم في اللحظة المناسبة ولو بعد طول انتظار…
النهار
رسائل كبرى وراء الغارة “الإسرائيلية”
سعد محيو
هل كان الاعتداء “الإسرائيلي” على المواطنين المدنيين الأتراك في القافلة البحرية الدولية، “خطأ متعمداً”؟
كل المؤشرات تؤكد ذلك . “فالاسرائيليون” كانوا يعلمون بالطبع أن السفن الثلاث الأولى من أسطول المساعدات لغزة كانت تركية، كما يعرفون جيداً أن الأتراك شعب مُقاتل لايقبل أن يُستفز من دون أن يرد .
لكن، هل اطلاق العيارات النارية الحيّة كان حتمياً أيضاً؟ ألم يكن في مقدور الكوماندوس “ الإسرائيلي” المُدرّب تدريباً عالياً على احتلال السفن في عرض البحر، قادراً على احتواء الموقف من دون إسالة هذا السيل من الدماء؟
الجواب هو “نعم، بالتأكيد” على كل هذه الأسئلة الثلاثة، ولذا لاتبقى سوى الفرضية بأن تل أبيب تعمّدت افتعال هذا الخرق الفاضح لكل معايير القانون الدولي الإنساني والمعاهدات الدولية الخاصة بحرية الملاحة في أعالي البحار، لتحقيق ثلاثة أهداف تتضمن في ثناياها ثلاث رسائل إلى كلٍ من تركيا وأمريكا والأسرة الدولية .
– الرسالة إلى تركيا:
لاتحاولي ثانية التدخّل في غزة والضفة، فهاتان المنطقتان مستعمرتنا الخاصة للغاية وحديقتنا الخلفية، وإذا ما كنّا اليوم قتلنا بعض مواطنيك لمنعكِ من تحقيق نصر دبلوماسي عبر كسر الحصار الذي نفرضه على غزة، فغداً قد نفعل أكثر من ذلك إذا تطلب الأمر، ولتذهب إلى الجحيم حينها مناوراتنا العسكرية المشتركة ومعها الثلاثة بلايين دولار من التبادلات السنوية التجارية معكِ .
ثم لاتنسي يا بلاد الأناضول أنكِ لست الخلافة العثمانية الجديدة (ليس بعد على الأقل)، بل “الخلافة الأطلسية” التي تتربع على عرشها حليفتنا الكبرى أمريكا، وبالتالي، أي محاولة للمس بسيطرتنا على نظام الشرق الاوسط، ستلقى مصير أسطول غزة نفسه .
الرسالة إلى الولايات المتحدة:
تلقينا مؤخراً تلميحات منكِ تهدد بتركنا من دون غطائك الدولي المعهود، كما استلمنا رسائل مماثلة من تحت الماء خلال المؤتمر النووي . حسناً . هانحن نرد التحية بمثلها، ونتحداك الآن أن تشتركي في أي بيان رئاسي في مجلس الأمن يمكن أن يُشكّل إدانة حقيقية لنا أو تهديداً جدّياً لأمننا المطلق . سنعرف عما قريب مْنْ يجب أن يهدد مَنْ : أنتِ وبيتك الأبيض أم نحن و”كونغرسنا” الأبيض .
الرسالة إلى الأسرة الدولية:
عملية الكوماندوس في أعالي البحار تذكرة لكِ، ومعكِ “جي ستريت” و”جي كول” وأكاديميي هارفارد ويهود جنوب إفريقيا، بأن رصاصنا هو الرد الوحيد على كلماتكم وقوانينكم ومعاهداتكم . هكذا كنّا منذ العام 1948 وهكذا سنبقى الآن، ومن لايعجبه فليشرب من مياه البحر المتوسط أو المحيط الأطلسي .
ثم هناك رسالة رابعة أقل وضوحاً لكن اكثر خطرا: مخططو العملية في المتوسط ليسوا “المجانين السبعة” (وزراء اليمين المتطرف في الحكومة “الإسرائيلية”) بل حزبا العمل والليكود وبموافقة كل أطياف اللون “الإسرائيلي” . وهذا يعني أن “إسرائيل” كلها، وليس الصقور الدينيون والقوميون وحدهم، هم من قرّر القيام بهذه المغامرة البحرية الفاقعة في جنونها .
وهذا وحده يجب أن يقرع أجراس الانذار في كل العواصم العربية، لأنه يعني أن تل أبيب تسير بالفعل في خط مستقيم نحو حروب جديدة، فيما المنطقة برمتها تلهج بأحاديث السلام والتسويات .
وهذا لايجب أن يُثير العجب: فمن شبّ على الحروب وإرهاب الدولة، شاب عليه .
ورأس الدولة الصهيونية يعج هذه الأيام بالشيب .
الخليج
الدولة العبرية المارقة تتحدى إرادة المجتمع الدولي في كسر الحصار على غزة
محمد فاروق الإمام
تابعت باهتمام فصول الجريمة النكراء التي أقدمت عليها الدولة العبرية المارقة متحدية مشاعر المجتمع الدولي الإنساني بوحشية فاقت كل ما قامت به النازية والفاشية في القرن العشرين.. تابعت تلك الجريمة التي لا يقدم عليها إلا الوحوش الضارية الجائعة في غابة ما سلكها إنسان أو عرفها بشر.
يتندر العالم على حفنة من القراصنة الصوماليين الجائعين المنسيين، فيشمر لهؤلاء العراة البدائيين الساعد ويحدق البصر ويجيش الغواصات والفرقاطات والطوربيدات والمدمرات والأقمار الصناعية والزوارق الحربية وفرق الكوماندوس لملاحقتهم في أعالي البحار، أما الدولة العبرية المارقة فليس هناك من يجرأ أن يقف في وجه قرصنتها، وقد بيتت لجريمتها في وضح النهار دون أن تعطي أي حساب أو وزن لكل الدول الأعضاء في المنظمة الدولية ولا مجلس الأمن بكل أعضائه الدائمين وغير الدائمين ولا للقوانين الدولية والأعراف الإنسانية، وقد تعودت فعل ذلك منذ أقدم العالم على الاعتراف بتلك الدولة المارقة المغتصبة عام 1948 لتقوم على أرض ليست أرضها بعد أن طردت من تلك الأرض شعبها الذي عاش منذ خُلقت البشرية عليها، وكانت لهؤلاء حضارة زاهية أضاءت منارت المدنية لقرون طويلة!!
لقد ارتكبت هذه الدولة المارقة جريمة نكراء عندما انقضّت بجيوشها وغواصاتها ومدمراتها وزوارقها وطائراتها الحربية على أسطول الحرية المسالم، الذي كان يتوجه إلى غزة العربية المحاصرة لفك الحصار الغاشم عنها، يحمل في بطون سفنه الدواء والغذاء لمليوني فلسطيني جائع ومريض يبيت جلهم في العراء، بعد أن أقدمت عصابات هذه الدولة المارقة أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009 على عدوانها الغاشم على غزة بكل أنواع الأسلحة الفتاكة والمدمرة والتي كانت من أحدث ما أنتجته الترسانة الحربية الأمريكية، ودمرت الحياة والماء والهواء والإنسان والحجر والشجر فيها، لتقتل بدم بارد بعض نشطاء الحرية المدنيين الذين كانوا على ظهر سفن تلك القافلة الإنسانية العزل وتجرح العشرات منهم، وهم ينتمون لنحو أربعين دولة كلها بلا استثناء دولاً عريقة ذات شأن وتاريخ قبل أن تولد الدولة العبرية المارقة المنبتة ويعرفها العالم بقرون.
لقد تابعت كل الكلمات التي ألقاها مندوبو الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين وقد أجمع الكل على وصف ما قامت به الدولة العبرية المارقة بالجريمة النكراء، وعبروا عن إصابتهم بالصدمة المروعة التي فاجأتهم بها هذه الدولة، باستثناء الولايات المتحدة التي هي من يقف وراء هذه الدولة المارقة ويساندها في صلفها وغرورها وتحديها للمجتمع الدولي وجعلها دولة فوق القانون لا يجرأ أحد على محاسبتها أو التصدي لها أو كف يدها.
ولم يكن الموقف الأمريكي بمستغرب، فقد تعود العالم عليه منذ بعثه الحياة في شرايين هذه الدولة المارقة عام 1948.
ولكن ما يدمي القلب ويحز في النفس هو موقف النظام العربي اللامبالي بكل ما جرى مع بعض الاستثناء، وقد عبر بعضهم عن استيائه من أن الدولة العبرية قد استعملت القوة المفرطة في استيلائها على سفن الحرية التي تحمل الدواء والغذاء لبني جلدتهم في غزة المحاصرة، وقد تخلوا عنها وشاركوا في حصارها.
البحر المتوسط الذي تحول إلى بحيرة صهيونية بامتياز لم تحرك دول سبع عربية تطل عليه من الشرق والجنوب سفينة من أساطيلها الحربية التي صدئت أسلحتها في موانئها لتنقذ هؤلاء الناشطين، وقد تعرضوا لقرصنة صهيونية مبيتة في أعالي البحار الدولية، الذين يقومون بما لم تقم به الدول العربية الاثنين والعشرين مجتمعة.
وفي هذا السياق تحضرني حادثة اختطاف السفينة الإيطالية (أكيلي لاورو) في 8 تشرين الأول عام 1985 وكيف تعاملت إيطاليا مع الحكومة الأمريكية عندما حاولت أن تفرض قانون الغاب للقبض على مختطفي السفينة الإيطالية.
ومن المعروف أن تلك العملية الفلسطينية كانت محاولة للرد على قيام إسرائيل بقصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس في الأول من تشرين الأول من نفس العام.
وقد نجحت الدبلوماسية الإيطالية والدبلوماسية المصرية في إقناع الخاطفين في إطلاق سراح جميع ركاب السفينة وتسليم أنفسهم للسلطات المصرية، وبالتالي اعتبرت الحكومة الإيطالية أن القضية منتهية، فقد كان الهدف سلامة ركاب السفينة وعودتهم إلى إيطاليا.
وجاء استسلام الخاطفين بناء على اتفاق الإيطاليين مع الحكومة المصرية على ترحيلهم إلى قيادة المنظمة في تونس حيث تتم محاكمتهم هناك داخلياً، وهكذا أعدت الحكومة المصرية طائرة خاصة لهذا الغرض وتوجهت بهم إلى حيث الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في تونس.
وفى الجو حصلت المفاجأة حيث تم اعتراض الطائرة المدنية المصرية من قبل 14 طائرة حربية أمريكية انطلقت من حاملة الطائرات في الأسطول الأمريكي السادس، وأجبرت الطائرة المصرية على الهبوط في قاعدة أطلسية في صقلية.
ومن الواضح أن الأميركيين أرادوا القبض على الخاطفين واقتيادهم إلى أمريكا، لكن الحكومة الإيطالية وجدت أن في العملية الأمريكية قرصنة وخرق للقانون الدولي على مرأى ومسمع من العالم وأنه ليس بالطريقة الصحيحة لفعل ذلك.
تطورت الأحداث سريعاً عندما هبطت طائرتي نقل أمريكية من طراز سي 141 في القاعدة بشكل استفزازي منتهكة السيادة الإيطالية على أراضيها، فما كان من رئيس الوزراء الإيطالي (بيتوني كراكسي) إلا أن أكد على السيادة الإيطالية، وحوصرت الطائرة المصرية أولاً من قبل المارينز الأميركيين لتحاصر بعد ذلك برجال الكاربينري الإيطاليين بنا على أوامر من وزير الدفاع الإيطالي، ثم حوصرت مرة ثانية من قبل الجنود الأميركيين، وأوشك هذا الوضع أن يؤدي إلى مواجهة بين المارينز والكاربينري، إلا أن الأميركيين أدركوا أنه لا يمكن الوصول بالأمر إلى المواجهة فقرروا الانسحاب.
ورغم إلحاح أمريكا في الطلب من إيطاليا التحفظ على الخاطفين، إلا أن إيطاليا واصلت خطواتها التي لا تتجاوز القوانين، ورأت وزارة العدل الإيطالية أن الطلب الأميركي لا يتضمن ما يتماشى مع المعايير التي يضعها القانون الإيطالي حول تقديم التفسيرات والأدلة التي يمكنها تبرير إلقاء القبض على أشخاص وهم في طائرة لا تخضع رسمياً لقوانين الدول الأخرى، فأمرت بالسماح للطائرة المصرية بمغادرة إيطاليا إلى وجهتها في تونس، احتراماً للقوانين الدولية ومراعاة للشرعية الدولية، وكان من الممكن أن تتحول القاعدة الأطلسية في صقلية إلى ساحة حرب بين الأمريكيين القراصنة وبين الإيطاليين الذين رفضوا أن تنتهك أراضيهم وينتهك القانون الدولي من قبل أقوى حليف وصديق لهم، مغلبين القانون الدولي على شريعة الغاب والقرصنة، وكنا نتمنى أن تتحرك بعض قطع أساطيل الدول العربية السبع التي تطل على البحر المتوسط للتصدي للقرصنة الصهيونية وتفادي وقوع المجزرة الدموية التي ارتكبتها الدولة العبرية المارقة بحق نشطاء السلام الذين كانوا على متن سفن هذا الأسطول!!
خاص – صفحات سورية –
عندك بحريّة.. يا وزير الحربية…
سهيل كيوان
لحسن الحظ أن المجزرة لم تكن أكبر وأعظم ولم يقع ما هو أسوأ بكثير، فقد تقلصت واختصرت إلى الحد الأدنى حتى كادت أن تفقد صفة المجزرة المتعارف عليها حسب المقاييس الإسرائيلية ـ التركية.
ونقول لحسن الحظ لأن هناك قرارا قد اتخذ لمنع دخول القافلة بأي ثمن. هذا القرار(بأي ثمن) اتفق عليه وبلا أدنى شك بين عمر سليمان وزير المخابرات المصري وإيهود باراك وزير الحربية الإسرائيلي في اجتماعهما الأخير في الأسبوع الأسبق.
فلا يمكن لوزير مخابرات دولة بحجم مصر أن يأتي خصيصاً للاجتماع بوزير حربية لدولة بحجم إسرائيل لبحث مشكلة العنوسة المتفشية في الأردن وفلسطين مثلاً، أو لبحث الأسباب التي أدت الى فوز ريما الفقيه الشيعية اللبنانية بلقب ملكة جمال أمريكا وطرق سحب اللقب منها! وبالتأكيد أن باراك لم يشكُ لعمر سليمان عن ارتفاع أسعار الخبز غير المنطقي في إسرائيل واعتقال أصحاب المخابز الكبيرة لتنسيقهم رفع الأسعار فيما بينهم، ولكن بإمكان أي مراقب ملاحظة أن الزيارة تزامنت مع اقتراب خروج قافلة الحرية من تركيا ميممة بحر غزة المحاصر.
وإذا عدنا الى الخبر في وسائل الإعلام سنقرأ أنهما تباحثا في كيفية دفع عجلة المفاوضات وإنضاجها لتصبح مباشرة وكذلك قضية الأسير شليط ومواضيع أخرى تهم الطرفين.
وإذا كنت أنا وصديقي مصور الأعراس قد وجدنا فسحة من الوقت للتحدث عن قافلة الحرية خلال أحلى زفة شعبية لعريسين شقيقين في قرية جليلية نائية فلا بد أن يكون موضوع القافلة قد شغل حيزا محترما أو غير محترم من لقاء وزير مخابرات ووزير حربية مدمن على الأمجاد العسكرية وخصوصاً العمليات الخاصة.
سيبقى ما دار بينهما من الأسرار الأمنية للطرفين، وسوف يتجاهل كلاهما الموضوع في الحاضر والمستقبل القريب، وإسرائيل ستتحمل جحود المصريين، ولكن لا بد وأن يأتي يوم ويكتب رئيس الموساد الحالي بعد خروجه إلى التقاعد في مذكراته (كما هي العادة) عن التنسيق والتفاهم التام الذي جرى بين الطرفين في ما يتعلق بقافلة الحرية وإسقاطاتها، وأهمّها الدور التركي بقيادة رجب طيب أردوغان غير المرغوب فيه والذي لا يخدم ‘المسيرة السلمية’! وهذا يعني أن كسر الحصار بوسائط تركية يضعف ‘فرص السلام’! لأنه يشكل نموذجاً وقوة للإسلاميين و’المتطرفين’ في كل المنطقة على حساب قوى’الخير والسلام’،وهذا عكس المطلوب تماماً، ولهذا فإن عدم السماح للقافلة بتحقيق هدفها بأي ثمن هو مصلحة إسرائيلية مصرية فلسطينية إقليمية وعالمية.
هكذا نفهم إعلان مصر وإسرائيل بالتزامن عن استعدادهما لاستقبال المساعدات المحملة في ميناءي أشدود والعريش قبيل الإنقضاض على القافلة في محاولة استباقية لامتصاص الوهج التركي، أي أن المساعدات ممكن لها أن تصل ولكن تحت رقابة هاتين الدولتين فقط، وهذا يعني تلقائياً أن الحصار أو عدم الحصار هو مشترك وبالتنسيق الكامل بين الطرفين ولا تلوموا أحداً جراء ما قد يحدث!
فشل الكوماندو البحري في مهمته كان مفاجئاً ومدوياً لأصدقاء إسرائيل ولأعدائها ولها هي نفسها ولي شخصياً ولصديقي مصوّر الأعراس!
الجميع توقع أن يتم وقف القافلة في عرض البحر والسيطرة عليها بهدوء وسلاسة بوسائل (هايتيكية) مبهرة من خلال شلّ محركات السفن الكترونياً من بعيد ثم يتم شحنها إلى ميناء أشدود بينما تبث إذاعة إسرائيل العربية أغنية وديع الصافي ‘عندك بحرية يا ريّس’ بالتزامن مع مؤتمر صحافي يعقده باراك يبث إلى العالم، ثم اعتقال من عليها ومصادرة الشحنات التي تحملها وحفظها في ‘الصون والأمان’ في ميناء أشدود ريثما يفتشونها، وبعد ستة أشهر سنقرأ خبرا صغيراً عابراً يقول إن المواد التي صودرت ما زالت في المخازن وأن أجرة تخزينها وتحريرها تكلف ضعف قيمتها وحماس ترفض دفع الرسوم ولهذا قد يتم تحويلها الى جمعيات خيرية وبعضها تلف ولم يعد صالحاً للاستعمال، ولا بأس من القول إن بعضها قد اختفى وتجري تحقيقات مع عدد من موظفي الميناء في الموضوع، وسيقول مسؤول إسرائيلي إنه لحسن الحظ أن إسرائيل صادرت الأدوية فقد تبين بعد فحصها أن معظمهما لم يكن صالحاً للاستعمال البشري وبهذا تكون إسرائيل قد أنقذت حيوات الكثيرين من الأبرياء!
لو نجح باراك بمهمته لما سمعنا تنديدا ولا احتجاحا ولا امتعاضاً! بل إن بعضهم أو أحدهم كان سيتصل به لتهنئته وكان سيضيف ملاحظة واحدة فقط وهي:’لماذا لم تعرضوا هؤلاء ‘الإرهابيين’ على الشاشات وهم مستسلمون عراة إلا من ملابسهم الداخلية كما فعلتم قبل خمس سنوات مع شرطة أريحا!’؟
النتيجة جاءت عكسية بفضل بطولة ويقظة ودماء هؤلاء الذين كانوا فوق السفينة من أتراك وعرب وآخرين قرروا الدفاع عن أنفسهم وعن كرامتهم بما تيسر لهم من أدوات بسيطة وإرادة وإيمان قلبت هدف العملية إلى ضده على مستوى عالمي، فاضطرت السلطات المصرية كخطوة إسعاف أولية ومن باب إنقاذ ما يمكن إنقاذه لفتح معبر رفح في الإتجاهين حتى إشعار آخر وذلك لامتصاص نقمة الشعب المصري والعالم الذي خرج منددا بالجريمة النكراء وكذلك لإخفاء فكرة التنسيق الأمني بما يخص القافلة بين الطرفين عن الأنظار…
مشكلة الأنظمة وبعض أصحاب الفتاوى مع قافلة الحرية انها لم تخرج من ميناء عباس أو بوشهر ولا في ظل عمائم سوداء من لبنان ولا من اللاذقية أو طرطوس ‘وحلف الشر’ بل من تركيا السنية والعضو في حلف شمال الأطلسي والتي كانت ستجري مناورات عسكرية ‘خيرية’ بعد أيام قليلة مع إسرائيل وتم الغاؤها! ثم أن هناك مئات من الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس من عشرات الدول ولا يمكن لأكبر نصّاب فتاوى أن يتهمهم بنشرالتشيّع…
لا أعتقد أن أحداً من سكان الكرة الأرضية قد فوجئ من الاستنكارات والإمتعاضات والاحتجاجات العربية الرسمية فكلها متوقعة! بل هناك من يتوقع بعد هذه الحادثة تكليف المجمع اللغوي العربي بالبحث عن تعابير أكثر تركيباً وأشد وقعاً على النفس من الاستنكار والتنديد والاحتجاج ورفعها إلى مستوى الغثيان والرغبة بالتقيؤ!
ورغم هذا فقد جاءت المفاجأة الكبرى من القاهرة بدعوة السفير الإسرائيلي (الذي ما زال في العمارة) لتقديم احتجاج مباشر ولطعه في وجهه! وهذه بلا شك طعنة مصرية رسمية غادرة في ظهر الحليفة الاستراتيجية إسرائيل..ولا تعني شيئاً سوى التخلي عن الصديق بالضبط في وقت الضيق ومحاولة رسمية لإنكار التنسيق الكامل معه…
القدس العربي
الكيان الصهيوني في مواجهة قافلة الحرية ثقافة الوحشية والهمجية .. في مواجهة ثقافة الإنسانية والنبل
تجمع اليسار الماركسي في سوريا
(بيان من تجمع اليسار الماركسي في سوريا – تيم)
رجال ونساء أحرار وشجعان حقا
أصحاب ضمائر حية حقا
ثمان مئة إنسان من أربعين دولة من أصقاع العالم ، يدعمهم جهد ومساهمات عشرات آلاف النشطاء الأحرار ، ويؤيد مسعاهم الملايين.
حملوا لأهل غزة الصامدة الطحين واللباس والخيام والمنازل الجاهزة والإسمنت والخشب …. وخمس مئة كرسي متحرك للمعاقين جسديا .
قطعوا آلاف الأميال للقيام بما أيقنوا حق اليقين أنه واجبهم تجاه إخوتهم في الإنسانية، غير مبالين بالعناء الشديد والخطر الذي يعرفون أنه ينتظرهم، فإرضاء ضمائرهم الحية أهم عندهم من ذلك كله ،وخرق الحصار الهمجي على مليون وسبع مئة ألف إنسان من الرجال والنساء والأطفال، واجب يستحق كل ما يقتضيه الأمر لتحقيقه، دماء وأرواح و وقتا وجهدا وكفاءة ومالا.
مناضلون أحرار حقا، وشجعان حقا، قل مثالهم في زمن تسيدت فيه الإمبريالية المتوحشة العالم واستفردت فيه بشعوب بلدانها وأكثر منها بالشعوب المستضعفة مجازر واستعمارا جديدا وحصارا، وتدميرا للطبيعة وهتكا للقيم الإنسانية والثقافات ومسخا لها ، بما فيها قيم وثقافة الرأسمالية نفسها زمن صعودها قبل أكثر من قرن، وقبل أن تدخل في طور تعفنها الراهن ، بزعم العولمة ومكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية وغير ذلك من الشعارات الكاذبة التي توظف لخدمة عكس ما تقول، والهدف دائما واحد: المال والأرباح، وضمان المزيد من المال والأرباح … في نهم مجنون لا حدود له.
حين هاجمت( قوات النخبة) الصهيونية قافلة الحرية ،وارتكبت مجزرتها الدولية الأشد عريا و انفضاحا في تاريخها، لم تهاجم فحسب هؤلاء البشر النبلاء الذين يشكل ما قاموا به وسام شرف على صدر الإنسانية جمعاء ، بل هاجمت أيضا ما يجسدونه من قيم وثقافة عند الجنس البشري كله. كانت تريد قتل هذه القيم وتدميرها وإرهاب كل من يحملها وردعه عن محاولة تجسيدها في سلوكه وحياته، لكي لا تتكرر ظاهرة ( أسطول الحرية) ، ولكي يستمر الحصار الوحشي على غزة( دون منغصات) حتى يركع كل أهلها ويستجدون الرحمة من الصهيونية والإمبريالية، خاضعين لشروطهما المذلة . وبهجومها هذا جسدت بأقصى وضوح تناقض قيم وثقافة الكيان الصهيوني وحكومته وجيشه، مع قيم وثقافة البشرية الحرة والنبيلة، وفي قلب هذه البشرية وقاعدتها: الشعوب المضطهدة والمحتلة أراضيها، لاسيما الشعب الفلسطيني.
بهذا ارتكب هذا الكيان أمام البشرية كلها الجريمة ـ الفضيحة، الأشد تعبيرا عن طبيعته كاستعمار عنصري لا حدود لوحشيته وغطرسته وعدائه لكل ما هو إنساني عند البشر، ولاستهتاره بالقوانين والمواثيق والشرائع الدولية. ولم يدرك مجلس الوزراء المصغر الذي اتخذ القرار بالهجوم على سفن مدنية في المياه الدولية، ولا قائد البحرية الذي أعطى الأوامر بإطلاق النار على بشر عزل ينقلون مساعدات إنسانية ولا شيء غيرها، لم يدرك هؤلاء المجرمون أنهم بفعلتهم هذه يكشفون قبح و همجية الوجه الحقيقي لكيانهم الغاصب ولثقافته وقيمه، أمام العالم كله، بعد أن بذلت الصهيونية جهودا هائلة لترويج سياق كامل من الأكاذيب المدروسة والمخططة، و أنفقت مليارات الدولارات على مدى عقود من السنين، لإخفاء ذلك الوجه باتقان، خلف قناع زائف من ( التمدن والحضارة و الرقي الإنساني).
وبهذه الجريمة ـ الفضيحة، اندفع الكيان الصهيوني المأزوم تاريخيا اندفاعة واسعة على طريق كشف أوراقه وحقيقته العنصرية المتوحشة أمام البشرية كلها، وسيدفع غاليا ، وأكثر بكثير مما توقع قادته ، ثمن جريمته هذه. وليست الاحتجاجات والإدانات والتظاهرات واجتماعات الجهات الرسمية وغير الرسمية في العالم، إلا بداية متواضعة لما سيعقبها من نتائج ، أول ما اتضح منها هو مؤشرات تحول عميق في العلاقات التركية الإسرائيلية، في حين يرتبط كثير منها بحجم الضغوط والتحركات الشعبية المتصاعدة في سائر أرجاء العالم.
يعيد الفعل الشجاع الذي قام به مناضلو أسطول الحرية الاعتبار للقيم الإنسانية الرفيعة، قيم النضال و المسؤولية الحقة تجاه المضطهدين من شعوب الجنس البشري والتضامن الأممي معهم، وقيم الضمير الحي والشجاعة والاستعداد للتضحية من أجل الواجب. ويفضح في الوقت نفسه ثقافة وممارسة التخاذل والجبن والاستسلام والاستجداء من قوى البغي والقهر ، تحت حجة أن العين لا تقاوم المخرز، وأن النضال والتضحية لا يجديان ما دام العدو قويا و قادرا على السيطرة بالقوة والعنف ….. فها هي العين تقاوم المخرز … وتنتصر !
ويضع هذا الفعل كل قوى العالم أمام الامتحان، منظمات دولية ( الأمم المتحدة، محكمة الجنايات الدولية، منظمات حقوق الإنسان وسائر المنظمات الحقوقية … الخ) و حكومات وأحزابا بل وأفرادا أيضا، وهو يفضح بقوة هائلة تواطؤ المتواطئين مع جريمة حصار غزة، وتخاذل المتخاذلين أيضا، بقدر ما يفضح بصورة لا سابقة لها ، الوجه المتوحش والهمجي للكيان الصهيوني وحصاره لغزة الباسلة بتواطؤ بعض الأنظمة والقوى العربية وتخاذل بعضها الآخر.
وفي الوقت نفسه ، يشكل هذا الفعل النضالي الشجاع علامة كبرى جديدة لبداية النهاية لحصار إجرامي عنصري يفرض على شعب غزة الباسل، رغم أنف القوة الإسرائيلية العاتية والدعم الإمبريالي و الرجعي العربي الواسع لها.
إن القضية الأبرز الآن هي كسر الحصار الصهيوني ـ العربي الرسمي عن غزة، وإسقاط كل الذرائع الإجرامية المستخدمة لتبريره، سواء كانت ذريعة سيطرة حماس عليها أو ذريعة الإرهاب أو أي ذريعة أخرى، في سياق المواجهة التاريخية مع المشروع الصهيوني العنصري ، واستعادة الشعب الفلسطيني في كل موقع لكامل حقوقه المشروعة على تراب بلاده، واستعادته قبل هذا لوحدته الوطنية بنبذ نهج أوسلو العقيم ، و إيقاف المفاوضات التي لا تنتهي ولا تثمرإلا خدمات للكيان الصهيوني ،مما يفتح الباب لالتفاف كل أبناء الشعب حول برنامج وطني كفاحي يجمع غزة والضفة والشتات في إطار موحد، يصب طاقات هذا الشعب المكافح في مواجهة المشروع الصهيوني العنصري المجرم.
فليكسر الحصار عن غزة الباسلة وليفتح معبر رفح فورا.
فلترتفع عاليا رايات الإنسانية الأممية وقيم النضال والتضحية في مواجهة المشروع و الكيان الصهيوني العنصري.
كل الإجلال لشهداء وجرحى ومناضلي أسطول الحرية البواسل، أتراكا وعربا وأوربيين ومن كل البلدان.
الحرية لغزة الصامدة … النصر للشعب الفلسطيني و كفاحه وقضيته العادلة.
تجمع اليسار الماركسي في سوريا ـ تيم
1/ 6/ 2010
خاص – صفحات سورية –
تحت المجهر الأخلاقي
منى فياض
هل جنّت إسرائيل كي تقدم هذه الهدية الى الفلسطينيين والعالم العربي؟ لا شك أن المريض الإسرائيلي قد بلغ مرضه مرحلة متقدمة جداً بحيث لم يعد إقدامه على الانتحار بعيداً. وإلا فما الذي يفسر الهجوم على “أسطول الحرية” المكوّن من ناشطين مدنيين وعزّل ينقلون مؤناً ومساعدات لبشر محاصرين، لا لسبب إلا لأنهم فلسطينيون خضعوا لأنواع الخطف والإهانات والقمع المتعددة الأشكال. هؤلاء الناشطون يمثلون طيفاً واسعاً من المهن والانتماءات والجنسيات بحيث يصعب إطلاق أي نعوت عليهم لشدة تنوعهم، مع تأكيد الطابع السلمي والإنساني لتحركهم، الأمر الذي تحفظه لهم جميع المواثيق والمعاهدات الدولية في زمن سيادة حقوق الإنسان وإدانة اللجوء إلى استخدام العنف والنفور من ثقافة إراقة الدماء التي صارت الثقافة شبه السائدة في أنحاء الكرة الأرضية.
عدا أن سلوكها هذا أعطى – من حيث لا تدري ربما – قيمة مضافة في تظهير أهمية دور لبنان في رئاسته لمجلس الأمن وإلقاء الضوء على الدور المستقبلي الرائد لهذا البلد الصغير التعددي الذي يحاول الحفاظ على ديموقراطيته وصحته وتوازنه في محيط متشدد وغير متوازن. علماً أن التناقض يبدو صارخاً بين وضع لبنان على الصعيد الداخلي، في اللعبة الداخلية القزمة والقاصرة من ناحية، والدور العالمي والقيادي الذي ينجح في أدائه، سواء تعلق الأمر بالمنطقة العربية المتعثرة أو على المستوى الدولي.
المثير للغضب منذ احتلال إسرائيل لفلسطين حتى الآن، هو التعامل مع الدولة اليهودية كدولة شرعية وعادية نشأت على أرض تاريخية تعود اليها. ومع أن اسرائيل تحولت منذ عام 1967 من “دولة ضعيفة وخائفة من محيطها وضحية”، كما كانت تدّعي، إلى دولة محتلة ومعتدية وغاصبة تمارس الإرهاب والعنصرية وتستخدم القوة الغاشمة والعنف الدموي كحل وحيد للتعامل مع الفلسطينيين والجوار العربي بشكل مفضوح؛ إلا أن هذه الصورة لم تجعل منها دولة عنصرية ومحتلة بالنسبة إلى الرأي العام العالمي، بل ظلت في نظر الأوروبيين والغربيين، ضحية تحتاج إلى الحماية في محيط معادٍ.
لكن الجديد الحاصل أن هذه الصورة بدأت تهتز لتتحول إسرائيل دولة مارقة معتدية تتسبب بالإحراج حتى لحلفائها من الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة، بدليل رفض واشنطن استقبال نتنياهو بعد المجزرة التي قامت بها قواته المسلحة بغطاء تام منه، وبسبب ازدياد شيوع ثقافة حقوق الإنسان وتجذرها.
تتعدد المحاولات لإبعاد صفة الإرهاب عن ممارسات إسرائيل عبر اعتماد تعريف غير كامل لمفهوم الإرهاب على أنه كل تهديد أو ممارسة للعنف المقترف بشكل غير شرعي من فاعل – غير دولتي- من أجل هدف سياسي، ونلاحظ أن هذا التعريف مخصص لكي لا يطاول ممارسات إسرائيل المتمادية. من هنا الحاجة إلى العمل الدؤوب على إرساء تعريف يدين ممارسات إسرائيل الشاذة ويدخلها ضمن تعريف الإرهاب السياسي. السؤال الذي يدور الآن: ما الذي يجعل إسرائيل دولة تتمتع بالحصانة وفي إمكانها الإفلات من العقاب؟ وهل تتمتع بنظام قانوني خاص بها يضعها فوق قوانين البشر؟ إذا كان هذا صحيحاً في الممارسة العملية، فيجب كشف المسؤول الأول عن ذلك، وهو الغطاء غير المشروط الذي ظلت تمنحه لها الولايات المتحدة الأميركية.
يتوضح للرأي العام العالمي يوماً بعد يوم أن ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة تتعارض مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان، حيث تتمادى اسرائيل في ممارسة إرهاب الدولة السياسي وتضرب بعرض الحائط كل المواثيق والمعاهدات الدولية.
إن خطورة ما قامت به، تجعل محاسبتها ممكنة على الرغم من رفضها الخضوع لمنطق القانون الدولي وتوقيع المعاهدات المتعلقة بحقوق الإنسان. إن فلسفة هذه الحقوق تجعل منها امتيازات للأفراد والجماعات، بما يجبر الدول والمؤسسات على احترامها وفرض احترامها على الآخرين. وهي حقوق غير قابلة للتصرف ولعدم الاحترام، وهي من ضمن المعايير الدولية التي تجيز التدخل في حال تعرضها لمثل هذه الانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل، وتنتهك أبسط المبادئ الأولية التي حفظها أول إعلان لحقوق الإنسان منذ عام 1789 حول الحق في الحرية والأمن والملكية ومقاومة القمع، وهنا الاحتلال.
لا نستطيع أن نبقى بمنأى من هذا الاتجاه العالمي، والمقاومة لا تكون فقط بالدم والافتخار بالقدرة على تحمل أشلاء الضحايا وبذل المزيد منهم، بل باستخدام جميع الوسائل المتاحة بما فيها تلك التي تلبّي الحساسية العالمية المتزايدة لرفض منطق العنف واللجوء إليه، طالما يمكن استخدام وسائل الضغط القانونية في زمن يتحول فيه مفهوم حقوق الإنسان ممارسة تأثيرية تشبه تأثير الدين بما هو اتفاق عفوي وفطري على حقيقة اجتماعية جوهرية وبديهية.
في هذا المعنى تتخذ فكرة ثقافة السلام التي نشأت في عام 1989 المزيد من الاهتمام والدعم من الرأي العام العالمي المتجه نحو المزيد من التطلب للعدالة وتأمين حقوق الإنسان. صحيح أن علينا عدم الغرق في الأوهام والاعتقاد أن العدالة المطلقة ستنجز غداً، لكن لا يمكن تجاهل حقيقة الاتجاه المتزايد نحو فرض احترام حقوق الإنسان وعدم القبول بانتهاك هذه الحقوق من دون اتخاذ رد فعل مناسب.
يكثر تداول فكرة حكومة عالمية، والقانون الدولي يفرض نفسه أكثر فأكثر. لم يعد رؤساء الدول بمنأى من المحاسبة. من هنا علينا استغلال سقوط إسرائيل الأخلاقي أمام الضمير العالمي وإعطاء دور للقانون الدولي وللدراسات القانونية المتعلقة بحقوق الإنسان من أجل المساعدة في رفع الاحتلال عن الشعب الفلسطيني وتأمين حقوقه البديهية عبر الاعتراف له بحقه في دولته السيدة المستقلة. لقد حصلت قفزات في وعي الضمير العالمي في كل مرة تم فيها استغلال وحشية إسرائيل على المستوى القانوني والقضائي، من مجزرة قانا إلى ثورة الحجارة الأولى .
لكن للأسف، إن فضح سقوط إسرائيل الأخلاقي لا يعفينا من إدانة السقوط الفلسطيني في الانقسام وممارسة العنف ضد الذات ¶
النهار
لنقتلـــهم مـــن أجلـــهم
عباس بيضون
نزلوا من الفضاء على سطوح السفن التي لم تغادر المياه الدولية. ليس في هذه الجملة أي تناقض. من نزلوا بالمظلات لم يهاجموا والمياه الدولية ليست حمى ولا حداً. المعتدون هم الذين واجهوا ولأنهم صدوا بأيديهم وبالقضبان التي جعلوا منها عصياً. لقد رفعوا سلاحاً على الدولة وعلى الجنود وعلى النظام. أما البنادق التي أردت منهم 20 قتيلاً فهي نظامية ومشروعة لأنها اسلحة الجنود والنظام. إذا احتج المجرمون بأنهم أتوا لكسر الحصار الذي أوصت بالغائه الأمم المتحدة ومجلس الأمن فالحصار مع ذلك قانوني لأن اسرائيل صرحت به ولأنها صرحت به صار قانونا وغدت المحاولة لكسره تعدياً على القانون. ليس هذا من ارتجالي، انه تقريباً كلام مندوب اسرائيل في مجلس الأمن وهو معبّر. الدولة هي اسرائيل والنظام هو اسرائيل والشرعية هي اسرائيل وهي بالطبع الحق والقانون. معارضوها، فلسطينيين وأجانب هم دائما معتدون. سمعت مسرحيا اسرائيليا يقول ان اليهود في المعتقلات كانوا يبكون خشية من أن يكرهوا معذبيهم. الآن يقتلون خصومهم خشية أن يكرهوهم. الخصوم هم المعتدون، هم الذين يتوسلون بكل حيلة لكي يزرعوا الكراهية في قلب الاسرائيلي. لنقتلهم قبل ان يفعلوا ذلك. ربما سيقول المسرحي الاسرائيلي، لنقتلهم قبل ان نكرههم. لنقتلهم وخاصة حين يواجهون لأن مواجهتهم إذا طالت فربما جرت كرهنا وربما غيرت قلوبنا ولربما جعلتنا بالقوة معتدين. لنقتلهم قبل يجعلونا كذلك. ربما يقول ذلك المسرحي او مندوب مجلس الأمن، يقول ان من يرمينا بحجر يعرضنا للتجربة وعلينا ان نقتله قبل ان نسقط في التجربة. ربما من يحمل علينا عصا يجعل منا اعداء وعلينا أن نقتله قبل ان يفعل ذلك، علينا أن نقتل ونقتل كثيرا لتبقى لنا رحمتنا ولنبكي مجدداً من أجل أعدائنا، سيكلفنا هذا كثيرا لكن التجربة لن تنتهي، كل الذين حشوا كراهية سيفعلون كل شيء، سيموتون حتى سيجازفون بأنفسهم، فقط من أجل ان يجعلونا مثلهم أنانيين وقساة، ولن نسمح لهم قبل ان يفعلوا ذلك، سنقتلهم قبل ان ينجحوا. سنقتلهم لكي لا نصير مثلهم. سنقتلهم من أجلهم. من أجل أن لا يذهبوا شططاً في كرهنا. من أجل ان لا تتحجر قلوبهم من عداوتنا، نقتلهم برحمة واسعة. وعن رحمة واسعة، نقتلهم ونحن نبكي من أجلهم، ولكي لا يرفعوا بعد حجراً على أخ، أو قضيباً أو عصا على شريك.
ليست جملة متناقضة هي التي تقول «في مياهنا الدولية». ليست عبارة متناقضة هي التي تقول هم الذين مارسوا العنف فقتلنا منهم 20، هم الذين اعتدوا فقتلناهم. هم الذين رفعوا علينا عصا فأرديناهم بالرصاص، ليست جملة متناقضة التي تقول: ليس الحصار غير قانوني ما دمنا أعلناه. ليست هذه جملا متناقضة الا لمن يغتر بالظواهر، انها متناقضة في منطق شكلي، في العمق ليس الأمر كذلك، في العمق أن المياه دولية لسوانا أما اسرائيل فليست من هذا العالم. في العمق ان العنف والاعتداء طبع الآخرين، أما الاسرائيلي فيرد الاعتداء. عنف الاسرائيلي ليس عنفاً انه فقط عاقبة عنف الآخرين، اعتداء الاسرائيلي ليست اعتداء، انه فقط لجم اعتداء الغير. ثم ان الدولة فوق الدولة هي اسرائيل، والنظام فوق النظام والقانون فوق القانون هما هي. حيث تكون تكون الشرعية ومن يواجهها لأي سبب هو الخارج على الشرعية وهو العاصي وهو القاتل.
ثم ان الذين واجهوا لم يقدروا كما ينبغي المعجزة التكنولوجية. لم يذهلوا أمام الجنود المتساقطين عليهم كالمطر. لم يبغتوا او يستسلموا فورا. لقد واجهوا، المفاجأة لم تبغتهم، حملوا عصيهم ومداهم وهذا بالطبع عقوق لا يحتمل. انهم متخلفون وشرقيون إلى حد أن يواجهوا المظلات والبنادق السريعة الطلقات بالعصي. متخلفون إلى حد أن المعجزة التكنولوجية لم تخرسهم. بقي لهم صوت والأسوأ ان بقيت له يد وذراع. انهم برابرة وكان عليهم أن يستسلموا على الأقل للعلم الهابط عليهم من السماء. عليهم على الأقل ان يركعوا للاستعراض الفضائي. انهم بائسون وعليهم على الاقل ان يقدروا حياتهم ولا يجازفوا بها إلى حد مواجهة البندقية بالعصا، من أجل العلم ومن أجل الغرب ومن أجل الفن كان ينبغي قتلهم. كان على العلم والغرب والفن الانتصار ولو بثمن عشرين قتيلاً. هذا ثمن بسيط بالطبع، كل خطوة تقدم كلفت البشرية إضعافاً مضاعفة. عشرون قتيلا، لا شيء بالطبع في سبيل طرد العصا والبربرية وإعادتهما إلى الكهوف.
انتظرنا ولا زلنا ننتظر ان يقول العالم كلمته، قلنا أن الاسرائيليين هذه المرة لن ينجوا، لقد بالغوا كثيرا في تحدي الاجماع الدولي، ولن تستطيع دولة أو مؤسسة ان تتجاهل. قلنا مغتبطين ان الاسرائيليين أوقعوا أنفسهم في ورطة. الآن لن يجدوا نصيراً. كل هذا قد يكون صحيحا. مع أن الردود قد لا تكون كلها في المستوى الا أن العالم كله رأى. واسرائيل التي هي «الدولة العالمية» الوحيدة في العالم. الدولة التي وجدت بإرادة دولية تجازف هكذا بواحدة من دعائم وجودها. الرعاية الدولية ضمانتها الكبرى وهي هكذا تعرضها لمخاطر. هذا صحيح حتى حين يقوله حكام غزة، وهو صحيح أكثر حين يقولونه. ذلك يعني ان هذا الدرس ماثل بحيث لا يمكن انكاره. الاسرائيليون في ورطة مع العالم وهذا إيجابي لفلسطينيي غزة وفلسطينيي رام الله. انه صحيح هذه اللحظة لكن متى كان ذلك يعنينا. ألم نعتبر على الدوام ان العالم لا يعنينا. ألم نعتبر أننا في غنى عنه، أو أن لا سبيل إلى استرداده. الآن فقط نرى ورطة اسرائيل مع العالم. لكنها ورطة ليست ابنة اللحظة، لو كنا أدركنا أهميتها لكنا ساهمنا في تعميقها، لكنا وضعناها في حسابنا ولما اعتبرنا ان العالم لا يهمنا، وأن حقنا في ذراعنا وحده. لما كنا بشرنا بأنه ضدنا مهما حاولنا ولن نستطيع استرداده. لو كنا وضعناه في حسابنا اما كان هذا طوّق جملة تصرفات لم تنفع الا في مساعدة الاسرائيليين على النجاة من ورطتهم، أو على الأقل في حلحلتها. اسرائيل وجدت كاستحقاق عالمي. هذا صحيح، ستكون صعبة للغاية مواجهة العالم بحقيقتها. لو كان الأمر علينا لما تحقق شيء، لكن اسرائيل هي التي تفعل ذلك. انها تظهر حقيقتها بفظاظة، ليس علينا الا ان نتركها تتابع، ان لا نسارع إلى نجدتها. ان لا نقدم لها كلما زاد تورطها حجة واهية من عندنا تفك عنها طوقها. ان لا نقدم لها بمكابرة غير مجدية غالباً عذراً. العالم مهم، إذا فهمنا ذلك الآن فينبغي أن لا ننساه. إذا وضعناه في حسابنا قد نجد أمامنا أفضل من اليأس.
السفير الثقافي
«صدمة وعي»
اسكندر حبش
لماذا انتظر العالم بأسره تقريبا، كلّ هذا الوقت والزمن، ليعبرّ عن ردّ فعله وغضبه (الشديدين) إزاء الدولة العبرية؟ علمتنا التجارب، التي علينا الاعتراف بها، أننا لا نشكل أيّ همّ – ولو إنساني صغير – لصانعي المفكرات و«الأجندات» السياسية الدولية، كما لصانعي «التواريخ الجدد». فحتى لو سالت دماؤنا، وتهدّمت بلادنا، واقتلعنا من أرضنا، فإننا نجدهم يتركوننا على هامش التاريخ، ولا يوجهون إلا العبارات المعاتبة والعابرة، لدولة العدو، بينما يديرون ظهورهم في الواقع، منذ سنين، لكلّ الأهوال والصعوبات التي نعاني منها.
ما الذي تغير الآن؟ بالتأكيد ثمة سبب تعرفونه: اعتراض جيش العدو لـ «أسطول الحرية»، الأسبوع الفائت، الذي كان متجها إلى غزة المحاصرة، حاملا معه المساعدات الغذائية والطبيّة وما شابه، معتقدا أنه يستطيع فك الحصار عن ذاك الشعب الذي يُعاني الأمرّين.
لكن المحاولة (كما العديد من المحاولات الأخرى، التي جرت في الفترات الأخيرة) لم تنجح. إذ تمّ اعتراض الأسطول، بالنار الكثيفة هذه المرة، ليسقط شهداء وجرحى. من هنا، نستطيع القول إن ما جعل «هذا التبدل» قائما، هم هؤلاء الشهداء والجرحى، الذين كانت أغلبيتهم، تنتمي إلى جنسيات أخرى. بالتأكيد، لا أفرّق بين الشهداء، لكن تعالوا نسأل: هل لو كان الذين سقطوا في هذه العملية الوسخة (سمّوها ما شئتم) من الفلسطينيين أو العرب وحدهم، أكان العالم قد حرّك ساكنا، ليعلن عن غضبه، حتى المدروس منه؟
ماذا لو قلنا ان العالم تحرك، لا بسبب الشهداء فقط، بل لأنه ـ ربما ـ وجد أن صورة الدولة الاستعمارية الجديدة، التي اخترعها، قد اهتزت. بمعنى آخر، هل لو لم يسقط الشهداء، هل كان تحرّك ليقول الكلام عينه؟ نذكر بالتأكيد الباخرة اليونانية التي حاولت اختراق الحصار منذ شهور، والتي أصيبت بأضرار مادية فقط، ولم نسمع أي كلمة تدين دولة النظام العنصري الجديد.
بالتأكيد كان يجب أن نسمع هذا الصوت المندد، وأن تقوم التظاهرات المتضامنة، وأن نصرخ بالموت للعدو، الخ.. لكن الأخطر في هذا الأمر، أن تتحول قضية «أسطول الحرية» إلى القضيّة الرئيسية وننسى القضية الأهم: بقاء أهل غزة تحت الحصار، وما زالوا يعاملون كأنهم فئة لا تنتمي إلى المجتمع الإنساني. والأهم من ذلك كلّه، ليست غزة وحدها، بل فلسطين بأسرها، فلسطين الوطن النهائي لكل الشعب الفلسطيني ولا لأحد يشاركه فيه.
مرة أخرى، نسأل: هل كان يجب أن تتعرض السفينة التركية التي قادت «أسطول الحرية» بحرا، لفك الحصار عن غزة، لما تعرضت له، كي يسمع العالم تلك الصرخات المنبعثة والمستغيثة، من هناك؟
لنكن انتهازيين ولو لمرة، كي نعرف كيف نحول الأمور إلى صالحنا، في سبيل القضية الأهم: فلسطين. ولنأمل أيضا أن يكون ما حصل مع «أسطول الحرية»، بداية «صدمة وعي» ما، عند العديد من هذه الدول، على الرغم من المحاولات التي بدأت لتبرئة القاتل.
السفير
الإسرائيلي انتحارياً
سامر أبو هواش
من كان حقاً أولئك الجنود الذين هبطوا بالحبال من السماء على “سفينة مرمرة”؟ الانطباع الأول: إنهم أولاد يلعبون لعبة الجنود والحرب. وهم يجيدون هذه اللعبة جيداً، إنما مع لمسة من السخرية أو ما يسمّى في اللغة الإنكليزية Irony. المفارقة الساخرة، التي من تعريفاتها: “التباين أو التناقض بين الواقع وما هو متوقّع”. ذلك أنك عندما تهبط بعتادك العسكري الكامل على مجموعة من الناشطين المدنيين، وكأنك تهبط على مجموعة إرهابية، أو على عصابة من الخاطفين، بغية تحرير الرهائن، فلا بدّ من أن ينتابك إحساس ما بهذه السخرية، أو بهذه المفارقة، بهذا التناقض بين الواقع والمتوقّع. لا بدّ من أن تشعر في مكان ما من رأسك، ومهما بلغت درجة اندماجك في الدور الذي تتقمصه، والاستعداد النفسي لديك، بأنك تمارس لعبة ما. الفرق الوحيد هنا: أن الطرف الآخر لا يمثّل أنه ميت عندما تطلق عليه الرصاص. إنه يموت حقاً. يُقتل بالأحرى. هنا تنتهي اللعبة. والآن: إذا كنت بالفعل ولداً يمارس بكل إخلاص لعبته المفضلة، فلا بدّ من أن تقف مشدوهاً أمام حقيقة أن اللاعب الآخر لم ينهض عن الأرض، ضاحكاً ونافضاً الغبار عن نفسه، مردداً على سبيل المجاز أغنية فرانك سيناترا “لقد أرديتني!”، أو ربما – لِمَ لا – أغنية أحمد عدوية ورامي عياش “وبحب الناس الرايقة، اللي بتضحك على طول…”.
انطباع خاطئ إذاً. صحيح أنهم أولاد، لكنهم لا يلعبون مع أحد. بل مع أنفسهم.
الانطباع الثاني إذاً: إنهم أشبه بزعران الحيّ، “الغانغسترز” الذين يتحركون دوماً معاً، في الشوارع الخلفية، بعيداً من أعين الرقباء، محدثين بجنازيرهم وسكاكينهم وتكشيرات وجوههم الرعب في نفوس المارة والسكان. وربما – على غرار أولاد “البرتقالة الآلية” – يبرّحون عجوزاً مدنياً ضرباً، حتى الموت، لمجرد أنه عجوز، ومدني. الملابس تختلف، وبدلاً من المطوى أو سكين المطبخ أو السلسلة الحديد، هناك الرشاش الأوتوماتيكي، والمنظار الليلي، والسترات الواقية. إنهم إذاً زعران من نوع آخر. زعران على مستوى أكبر من الحيّ. هم لا يعانون في الضرورة من مشكلات تربوية معقّدة. لم يضربهم أب ولا عنّفتهم أم. بالعكس تماماً، هؤلاء أفسدهم الدلال الزائد. الأب لا يطبّق عليهم حتى عقوبة الجلوس في الزاوية، بل كلّ مرة يرتكبون فيها خطأ يكافئهم بالهدايا التشجيعية والآيس كريم.
هذا انطباع خاطئ أيضاً.
قراصنة إذاً؟ ربما. سمعتُ كثيراً هذا الوصف في معرض التعليق على ما فعله أولئك الأولاد في عرض البحر. لو كان في عرض البرّ لكان اسمهم “قطاع طرق”. لا فرق. لكنّ الوصفين ينطويان على شيء من الرومنطيقية والبراءة أيضاً. ليسوا القبطان الحالم جاك سبارو في “قراصنة الكاريبي”:
[لورد بكيت: أنت مجنون!
جاك سبارو: جيد! لأنني لو لم أكن كذلك لما كان الأمر لينجح على الأرجح!]
لا، هذا كلام يقوله قرصان حالم، يمشي كالمخمور طوال الوقت، أو كالمسرنم، لا يقوله جندي بسترة معدنية كاملة، يضع على أذنه سماعة تصله بقائد المجموعة الذي يهتف به: “أطلق! أطلق! أطلق!”.
أما “قطاع الطرق”، فتعبير ينطوي على إحساس غريب أيضاً، يذكّر على الغالب بالأربعين حرامي – هم أتراك في المناسبة – الذين تمكّن ولد يدعى علي بابا من الضحك عليهم، ضحكته التاريخية التي ما زالت ترنّ عبر العصور. علي بابا تركيّ أيضاً. لكن هذا موضوع آخر.
في الحالين هناك من يبحث عن الكنز. هذه أيضاً من براءات الطفولة. أولئك الذين هبطوا بالحبال إلى السفينة، لم يجدوا الفانوس السحري، ولا كهف المجوهرات، ولا الأميرات الفاتنات الأسيرات في البئر. وإذا كانت تلك المساعدات التي حملتها “القافلة” معها هي بالفعل بمثابة كنز بالنسبة إلى أولاد غزة ومحروميها وفقرائها ومحاصريها، فإن الأولاد القراصنة لم تكن تحدوهم الرغبة للحصول على الكنز. بل تدميره بكل بساطة.
انطباع خاطئ أيضاً، ناهيك بأنه يلحق الأذية بكلّ حكايات الطفولة عن الأبطال والحرامية، وإن تكن هذه العبارة الأخيرة تليق عنواناً فعلياً لما حدث على سطح “سفينة مرمرة”.
ما شعرت به حقاً حيال المذبحة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون، ما ارتسم أمامي فعلاً، ليس صورة الأولاد، ولا زعران الحيّ ولا القراصنة أو قطّاع الطرق ولا الأبطال والحرامية. بل صورة الانتحاريّ. الفرق أيضاً أن أولئك الجنود لم يفجّروا أنفسهم والعدو في آن واحد، وأنهم لا يبرّرون ذلك بحالة الاختناق واليأس وعدالة القضية والوصول إلى جدار مسدود. غير أن المشترك الواضح يتمثّل في سمتين أساسيتين: النزعة الانتقامية كدافع سياسي، والجنون، كآلة تقود تلك النزعة. ذلك الهزال الشديد الذي حاول من خلاله قادة إسرائيل تبرير الهجوم الدموي على ناشطي “قافلة الحرية”، يعكس بالطبع حالة الكبرياء القومية وشعور إسرائيل بالفعل أنها دولة فوق القانون، إلا أنه يعكس أيضاً تلك الرغبة في الانتقام، لا من الفلسطينيين وحدهم، بل من العالم الذي يتجرأ على الوقوف إلى جانبهم ومساندة – لا قضيتهم – بل حقهم الإنساني البسيط في العيش. ردّ فعل العالم المصدوم على هذه الجريمة، يشبه تماماً ردّ الفعل على أيّ عملية تفجير انتحارية يذهب ضحيتها مدنيون. ردّ الفعل هذا ما كان ليكون كذلك، لو أن إسرائيل نفسها ما زالت تتعرض لهذا النوع من العمليات الانتحارية. عندئذ كان سيسود منطق الذرائعية والتسوية والمساواة بين الطرفين، بصرف النظر عمن هو الظالم الفعلي، ومن هو صاحب الحقّ، من المحتل ومن الواقع تحت الاحتلال.
[مذيعة سي أن أن: “فقط لكي نكون عادلين يجب أن نقول إن نسبة واحد إلى عشرة من الذين يرسلون بآرائهم إلينا فقط يؤيدون إسرائيل”. هذا بعد ساعات من الاعتداء الذي نفذته القوات الخاصة الإسرائيلية].
هذه النسبة – وإن كانت لا تصرّف سياسياً في الضرورة – ما كانت لتطرح أساساً لو كان ثمة في الأسبوع الماضي مثلاً تفجير في حافلة أو مركز تجاري إسرائيلي.
ربما المقلق في مثل هذا الاستنتاج أن نستسلم لإحساس الضحية، وأن نستجدي سقوط الضحايا من طرفنا أو من طرف من يؤيدنا، فقط لكي نثبت للعالم وحشية العدو.
[اسماعيل هنية: في حال وصلت القافلة فنحن منتصرون لأننا نكون قد كسرنا الحصار، وفي حال لم تصل فنحن منتصرون لأننا نكون قد كشفنا للعالم حقيقة إسرائيل].
هذا قبل ساعات من حدوث المجزرة. يستطيع القول أيضاً إننا منتصرون لأن إسرائيل أقدمت على قتل عدد من النشطاء المدنيين. ما يجدر به قوله ربما، انسجاماً مع واقع الناس، بمن فيهم أولئك الذين هبّوا من أرجاء العالم لمساعدة سكان غزة، لا ممارسة للدعاية السياسية المباشرة: نريد أن تصل هذه المساعدات بأي ثمن كان لأن شعبنا المحاصر هنا يعاني الأمرين.
لكنّ الجيد في هذا الاستنتاج أنه يدعونا مجدداً إلى مراجعة النفس (حتى الآن لا نعرف إذا كان التوقف عن العمليات الإنتحارية من الطرف الفلسطيني هو تكتيك سياسي، أم دليل على قدرة ردع إسرائيلية ونجاعة جدار الفصل العنصري، أم موقف وسياسة مدروسة نتجا من مراجعة وتقويمات مختلفة للمرحلة السابقة). مراجعة الأساس الذي قامت عليه القضية الفلسطينية، وتمكنت من جذب تعاطف أصحاب الضمائر في أرجاء المعمورة في مرحلة ما: أنها قضية عادلة، إنسانية، محقة، ولا تتوسّل بالأساليب نفسها التي كانت في صلب قيام دولة إسرائيل.
ما حدث على سطح “سفينة مرمرة” هو الإسرائيلي يضع حزاماً ناسفاً ويفجّر به المدنيين العزّل والأبرياء. فعل جنون وإن كان مبيّتاً ومدروساً ومخططاً له. على الأرجح أن يتكرّر فعل الجنون هذا لأن صاحبه يعاني أعراضاً مرضية مزمنة. المهم أن يساعدنا جنون العدو هذا، لا في تعريته أمام العالم فحسب، ولا في اكتساب بعض العقلانية في مواجهته فحسب، بل أيضاً في مواجهة أنفسنا، والوقوف عراة أمام مرايا جنوننا
النهار الثقافي
أو تعجبون من جرائم ضحاياها هم السبب…!!؟
بدرالدين حسن قربي
ابتداءً، فإن عقلاء الناس يُدينون ما فعلته اسرائيل بحق العزل الأبرياء من ركاب قافلة الحرية، لأنها عملية قرصنة وجريمة نكراء لايقبلها عرف ولا دين ولا قانون. ومن ثم فكل التحايا مع التقدير لكل من بذل ويبذل جهداً إنسانياً لرفع المعاناة عن المقهورين والمضطهدين والمحاصرين والملاحقين من ناسنا، وكشف الزيف عن الوجوه الكالحة التي جفّ فيها سحر الحياة، وترتكب جرائمها بدمٍ بارد من غير وازع من قانون أو ضمير أو بقايا إنسانية.
لقد جاءت العملية الإسرائلية في اليوم الأخير من شهر أيار/مايو 2010 في الاعتداء على سفن قافلة الحرية المحمّلة بالمساعدات الإنسانية للمساعدة في كسر الحصار عن غزّة ذات المليون ونصف محاصر، وما صاحبها من مواجهةٍ وقمع تسبب بقتل وسفك دم الأبرياء في وقت يعاني فيه الشعب الفلسطيني تصدعاً في وحدته وانقساماً في البقية المتبقية من أراضيه المحتلة. ولئن كنا نتفق أو نختلف مع ماقيل ومايقال عن الآمال والتطلعات، والتداعيات والآثار سلباً أو إيجاباً من تجار القضية ومن هم بمثابة أمّ الولد، فإننا نعتقد بأن العملية الإسرائلية لابد أنها كانت محسوبة، وإن لم يتطابق حساب السوق لمن حسب مع حساب الصندوق، فالرياح مضين بما تشتهي السفن. وإنما أن يكون العدو في ورطة من أمره مما فعل، وأن يتسع الخرق عليه، فلا يعني أيضاً أننا في حال حسن، لأن للأمر مابعده في ارتداداته الإقليمية والدولية في القريب العاجل قبل الآجل، والتي قد تشعل أوار حرب نسمع قرع طبولها وتهديداتها ووعيدها. ولئن كان البعض يقرأ علينا بغيرها والبعض الآخر يطمئننا بانتصارات وهزائم على الأبواب، فإن قادم أيامنا فيما نعتقد مما يشهد عليه واقعنا بما فيه من الفساد والاستبداد والقمع لايطمئن.
لاشك أن العملية التي كانت موجهة إلى السفينة التركية مافي مرمرة Mavi Marmara ، تأكّد أن فيها مرمرة ولو لأعدائها، فقد انتهت إلى ماانتهت إليه وطرفاها من حقٍ وباطل يعتقدان وهما يدوّران زوايا الرؤية أنهما حققا غرضهما، والحقيقة أن نفي ذلك أو إثباته مرده إلى القادم من الأيام.
تحليلات الحدث وقراءاته كانت كثيرة، والبيانات والشجب والتنديد كان أكثر، ولكن يلفت النظر أن قلةً لفتتها تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي على إحدى الفضائيات بأن الأوامر الأولية للجنود كانت بعدم إطلاق النار، وإنما رفض السفن بما فيها التركية الانصياع للنداءات الإسرائيلية بتغيير خط سيرها للتوجه إلى المياه والميناء الإسرائيلي اقتضى إنزال الجنود بواسطة الهليوكبتر على السفينة، وهو مما واجهه الناشطون الإغاثييون والإنسانييون – الذين وصفهم المتكلم بالإرهابيين – بالمقاومة بالعصي وقضبان الحديد وسكاكين كانت معهم مما تسبب بإصابات وجروح لبعض الجنود الإسرائيلين، وهو مااستدعى إعطاء الأوامر برمي القنابل الدخانية وإطلاق النار على المقاومين مما تسبب بمقتل عدد منهم. ويبدو التصريح وكأنه يريد التعذر للجريمة بعدم انصياعهم للأوامر ومقاومتهم بما معهم مما استدعى إطلاق الرصاص.
ورغم أن عدداً من ركاب القافلة نفى وجود مقاومة باعتبارها سفناً إنسانية وحمولتها إغاثية ليس أكثر، ورغم أن جريدة القدس العربي في عددها الخميس 3 حزيران/ يونيو أشارت إلى أن الجنود الاسرائيليين الذين هاجموا السفن كانوا مدججين بالسلاح، ومع ذلك قفزوا في البحر هروبا من الجبابرة الذين واجهوهم بالعصي والقضبان الحديدية رافضين الاستسلام لهم وإطاعة أوامرهم، فلجأ زملاؤهم الآخرون الى إطلاق النار رغم الأوامر الأولية إليهم بعدم فعل ذلك، فإننا مع كل الروايات نركن إلى أن التصريح العسكري الإسرائيلي يؤكد حقيقةً مفادها أن مرتكبي الجرائم ومحترفيها يوجدون المبررات لجرائمهم الدنيئة والغادرة، والأعذار لقتل ضحاياهم في طول الأرض وعرض البحر وفي ظلمة الليل ووضح النهار على ظهور السفن الماخرة وفي غيابات السجون القاهرة.
فلو رجعنا ثلاثة أسابيع إلى الوراء في 4 و 5 أيار/مايو استدعاءً لما قاله الوفد الرسمي السوري أثناء مناقشة تقريره الأول أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف لعددٍ من الساعات، لوجدنا أن إجاباته عمّا كان من قتلٍ وسفكٍ للدماء في سجن صيدنايا العسكري في تموز/يوليو 2008 لاتخرج عن إطار التبريرات والتعذرات السابقة. وهي أن ما جرى في السجن عبارة عن تمرد لمحكومين في جرائم تطرف وإرهاب وعدم انصياع لأوامر العسكر، أخذوا حراس السجن وهددوا بقتلهم، وأن السلطات الرسمية تعاملت بمنتهى الحكمة مع المساجين، وأن الجهات الأمنية تعاملت مع ماكان بمنتهى الرويّة، وأن الرصاص الذي أوقع حوالي 17 قتيلاً لم يستخدم إلا بعد رفضهم الانصياع لأوامر سجّانيهم وحرّاسهم.
فركاب سفينة مرمرة الإغاثييون وسجناء صيدنايا العزْل هم في نظر قاتليهم متطرفون وإرهابييون، وركاب مرمرة قاوموا بالعصي وقضبان الحديد، في حين أن السجناء لايملكون مثل هذه الأدوات ولا حتى أقل منها بكثير، ولكنهم بقدرة قادرٍ احتجزوا ســجّانيهم المدججين بالسلاح، وفي الحالين سفينةً وسجناً أطلق القاتلون على ضحاياهم النار فيما قالوا حماية لجندهم وحرسهم وعسكرهم، فقُتل على السفينة عدد لايقل عن تسعة عرفناه من الساعة الأولى للجريمة، وهم معروفون بأسمائهم وأعمارهم وسلمت جثامينهم إلى عائلاتهم، وقُتل في سجن صيدنايا عدد مجهول عرفناه بعد آلاف الساعات بكلام رسمي في مطالع أيار الماضي قدّروه تقديراً بحوالي 17 قتيلاً، لأن العدد لم يتحدد بعد وأن أسماء الضحايا مازالت مكتومة رغم مضي السنتين، ومازال ذوي الضحايا لايعلمون عن مفقوديهم شيئاً.
مجزرة قافلة الحرية جريمة مستنكرة، نتقدم بالعزاء إلى عائلات ضحاياها ومحبيهم، ونرفع قبعاتنا و(عقالاتنا) تحية لناسها وأحرارها ممن يريدون كسر الحصار وتكسيره، ونشكر كل من شارك واستنكر وشجب وتظاهر وصرّح وتوعد وهدّد، لأنه يشارك في خطوةٍ على طريق الألف ميل. وإنما نذكّر أن الأحرار وليس غيرهم هم الذين يحررون، وهم القادرون على التحرير، وليس المقموعين ولا المضطهدين أوالمقهورين. وعليه، فإن لنا مجازر ومَرْمَرَات كثيرة آخرها ما أُعلن عن عدد ضحاياها في جنيف قبل أسابيع ثلاثة، وكأن شيئاً لم يكن، وأن ضحاياها ليسوا شيئاً مذكوراً، وبلادنا بعشرات ملايينها محاصرة بفاسديها ومستبديها وأكابر مجرميها.
أمْن الناس وحريتهم قضية أساسية ومهمة على طريق التحرر والتحرير، وقمع الرأي واضطهاد الإنسان وقتله بحجج معركة أو معارك لا يعلو صوت على صوتها ليس إلا سبيلاً للخنوع والاستبداد وخسارة الأرض، فالعبيد لايقاتلون، وإن حملوا عليه فلاينتصرون.
ومن نسي فلا ينسينّ أن الضحايا (المرمرين) من سفن قافلة الحرية الإغاثية وضحايا سجن صيدنايا المعتقلين هم في عيون قاتليهم متطرفون وإرهابييون، عاملوهم بطولة البال والحكمة والرويّة، ولكنهم رفضوا الانصياع لأوامرهم فنالهم مانالهم من توحش القتلة، وألبسوهم سببها، فهل تعجبون…!! عندما ترون الجريمة تمضي دون حساب فاعلموا أن صاحبها مسنود ومدعوم وذاك هو السبب. أَوَ تعجبون ولامبرر للعجب…!
خاص – صفحات سورية –
فلسطين والحرية
محمد زكريا السقال
قافلة الحرية التي أعدها ناشطون عالميون ، وكان للأتراك شرف تبنيها وقيادتها، من أجل كسر الحصار الذي تفرضه هذه الثكنة العنصرية الصهيونية على شعبنا ونسائنا وأطفالنا وشيوخنا في غزة، ليس هو الحدث العالمي الأول الذي يميط اللثام عن الوجه البشع للفاشية الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية ودورها البارز كشرطي مدجج بالسلاح وقوة التكنولوجيا العالمية لخدمة حلفائها وشركائها الرأسماليين، لتمزيق وطننا العربي وتصدير التخلف وحماية الإستبداد المتمثل بهذا النظام العربي الفاقد للصلاحية لشدة فساده وارتباطاته وعدم تمثيله لآمال شعبه ومواطنيه.
وبالقدر الذي كان مأساويا وتراجيديا المآل الذي انتهت اليه القافلة على يد قراصنة الصهيونية في خرق فاضح لكل الأعراف والقوانين الدولية وتحدي الإرادة العالمية من خلال قتلها وجرحها لكثير من الناشطين واعتقال الآخرين الذين توافدوا من كل أنحاء العالم للتضامن مع الشعب المحاصر منذ ما يربوا عن ثلاثة سنوات، إلا أنه ولا شك قدم القضية وعدالتها ومشروعية النضال في سبيلها مناخا عالميا، من خلال تفهم العالم للظلم والبؤس الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ستة عقود. حيث يتعرض للتشريد واستيطان ارضه واقتلاع اشجاره والتضييق عليه بكل سبل الحياة. اليوم المجتمع العالمي ومنظماته ونخبه ومفكريه يعون وبشكل واضح الدور الذي تلعبه الصهيونية كدولة تمييز عنصري تتحدى بممارساتها الهمجية كل النظم والشرائع التي ابتدعها العالم خلال سياق مسيرته للحفاظ على السلم وصيانة حقوق الإنسان. كثيرون يدينون اليوم بشكل واضح هذا العسف الصهيوني والإبتزاز الذي يمارس والبلطجة والصلف الهمجي.
إلا انه ورغم اللوحة المشرقة مع رفرفه اعلام التضامن مع فلسطين بأيدي المتضامنين في كل دول العالم وتمزيق اعلام الصهاينة في المقابل، اليوم حيث تتعالى كلمات الإدانة لهذا الكيان وتتعالى بالمقابل اصوات التضامن والمساندة والندوات الكثيرة التي تدار عن الدور القمعي والفاشي للصهاينة وفضح ابتزازهم لدمائهم التي سفحت على يد النازيين، يكشف على أوسع نطاق الدور الذي يمارسونه كونه لا يقل بشاعة وهمجية عن جلاديهم. فهم يكررون نفس ما مورس عليهم ضد شعب احتلوا ارضه وشردوه وقضموا الكثير من الأراضي العربية وشلوا الكثير من المساحات باسم أمنهم.
نجد على الجانب العربي وتحديدا على مستوى النظام الرسمي العربي هذا التواطؤ المخزي والمخجل، هذا الدور المشبوه واقل ما يقال فيه انه دور داعم لقيام هذه الثكنة، ولماذا لا نقول أنه دور يفضح عن إيكال أمنه وسيادة صلفه ونهبه وفساده لهذه الثكنة العنصرية. هذا النظام الذي تتهيأ أمامه كل الظروف وكل المقومات لإنتزاع حقوقه وتحرير أرضه واعادة السيادة والكرامة لشعوبه يفرط بها ويستهين بكل مشاعر شعبه الذي يورثه الذل والهوان والإستكانة.
يوميا يقدم لنا العالم نموذجا لدول تجاوزت واقعها وطورت ادائها من خلال تحفيز طاقات شعبها وتفجير امكانيات ابداعه وانتاجه. كان الحديث يدور عن ايران وفنزويلا والكثير من دول امريكا اللاتينية، واليوم تركيا التي تقدم انموذجا يشغل العالم ويسلط الضوء عليه بشكل يومي بزخم هذا الدور الذي تلعبه وتتمثله على كل المستويات من خلال هذه الحكومة المنتخبة الواثقة من نفسها والمستندة على جماهير وقوى ودستور. تلعب دوراً مهماً في مواكبة العصر بالخطاب والانتاج واستعمال وسائل المعرفة والحداثة، دون تطير ودون خوف من النجاسة، لأن الطهارة بالعدالة وإنصاف الشعب وسيادة القانون والدستور واحترام الآخر واستعمال الشفافية وابداع المؤسسات واطلاق الحريات السياسية والاعلامية. بينما نحن وكما هي الأمراض المزمنة والسرطانات المتدرنه تنخر انظمتنا، وغياب كامل لدور مثقفينا ونخبنا
كثيرة هي الندوات والمؤتمرات عن الحرية والديمقراطية، ومستقبل فلسطين ودور الصهيونية، والقومية والأمة والعروبة والاشتراكية ودور اليسار والاصلاح الديني والسياسي، ولكن غالبا ما تسفر هذه النشاطات عن زبد وسفسطة، تتبخر فور انتهاء النشاط على أول منضدة يجلس اليها المثقف وينفث رماد سجائره والخوف على أشيائه يحيط به من الدور الغير مجدي والخوف من الكثير مما يحيطه ابتداء من لقمة العيش الممسوكة بيد غليظة الى الاعتقال والتنكيل بينما قوانا واحزابنا التاريخية غارقة بتمجيد تاريخها وذواتها.
بقدر ما يفصح هذا الكيان دون لبس عن دوره وهمجيته، بقدر ما هي واضحة سياسة هذا المركز العالمي ودعمه ليس ملتبسا بل صريحا ومشدداً عليه لهذا الكيان العدوان، وبقدر ما هي سافرة هذه المخططات الخارجية، واضح وصريح وعار هذا المأزق الهزيمة الذي يلفنا ويحيط بنا ويغلف حركتنا لدرجة الشلل، ويطرح أسئلته الجارحة علينا للخروج من هذه الأزمة والتي تتبدى تجلياتها بمقدمات تشكل من الضرورة والألحاحية لها، مؤشرات صحيحة وصحية، حيث لا يمكن الاعتراف بالأزمة وحدها للخروج منها بقدر ما يشكل الاعتراف بالهزيمة لمجمل الأفكار والأدوات والعلاقات والثقافة التي أدت إليها. لا يمكن شراء الأدوية بالعملات المنقرضة ولا يمكن للسراب ان يجلب ماء وحياة، لا يمكن لمؤتمرات مزمنة تعقد وتنعقد وتخرج وهي لا تنتج ثمن الحبر الذي استهلكته على جعجعاتها وثرثراتها ولا يمكن لأنصاف الحلول ان تعالج وتفكك هذا الواقع المسدود الآفاق، ولا يمكن التغزل بانجازات الغير أن يعطي حلولا لمشاكلنا وهمومنا، وعلينا ان نبادر لنتحرر من كل التابوهات والأفكار والأدوات التي هزمتنا، لنصنع الحرية لشعوبنا واوطاننا.
برلين / 1 / 6 / 2010
خاص – صفحات سورية –
حادث عادي جدا
مازن كم الماز
لماذا يحمل الجنود البنادق و غيرها من أسلحة القتل ؟ إنهم لا يفعلون ذلك ليحموا الناس و لا حتى ليحموا أنفسهم بل ليحموا النظام , في هايتي بينما كان مئات الآلاف يئنون تحت الأنقاض أو من الجوع أو النوم في العراء استمر هؤلاء بحمل البنادق بل و أطلقوا منها الرصاص القاتل فقط عندما كان لا بد من فعل ذلك لوقف “نهب” الناس الجوعى لمخازن الطعام التي يملكها السادة , هذا هو بالتحديد النظام الذي يجب حمايته و لو بقتل أي عدد من البشر . عندما اصطدم الجنود الإسرائيليون على سفينة مرمرة ببشر لم يكونوا مستعدين لرفع الراية البيضاء بمجرد رؤية بنادق الجنود , لم يكن لديهم بنادق لكن هذا لا يهم , إذن فإن نظام الكون أصبح في خطر و دماء هؤلاء ليست إلا ثمنا ضروريا لإعادة الأمور إلى نصابها , هكذا جرت مواجهة يعتبرها القتلة عادية جدا , بمجرد اكتشاف السكاكين و الهراوات مع من يصرخ في وجه الجنود أصبح دم هؤلاء مباحا , عشرة , عشرون , أو مائة ألف , أو ملايين , نعود من جديد لقصة حقوق الإنسان و الجدل السفسطائي بين الأنظمة و الدول و أزلامها و مشرعي قتلها لخصومها أو لمن تشاء , و يبدو أننا مضطرين لأن نسأل , لو أن الطيار الأمريكي الذي قتل مائة ألف إنسان في هيروشيما قد سقطت طائرته فوق هيروشيما نفسها فهل كان واجبا , وفق “شريعة حقوق “”””الإنسان””””” العالمية” , حمايته و إيصاله بسلام إلى حيث يمكنه أن يقود طائرة أخرى تحمل موتا جديدا لآلاف آخرين , أي إنسان تريد هذه “الشريعة” أن تحمي , بالتأكيد ليست تلك الآلاف التي قتلها ذلك الطيار أو الآلاف التي ما زال ينوي قتلها بأمر من جنرالاته , و ليس هو هذا الطيار بالذات بل في الحقيقة الجنرال و رئيس نظامه الذي أمره بهذا , أي باختصار القتلة الحقيقيين , إنها تحمي فقط الإنسان الذي ينتمي للنظام , للمؤسسة , للطبقة الحاكمة , و هنا يصبح خادم هذا النظام و حارسه أي من يقتل باسم النظام و لصالحه متمتعا بالضرورة بكل الحقوق المعتبرة للسادة , تريد هذه الشريعة أن تحمي القتلة و ليس الضحية , لا قيمة للملايين من الجوعى أو الفقراء , السادة ( و لنكن أكثر تحديدا : القتلة فقط ) وحدهم يخضعون لشريعة حقوق الإنسان . إن القتل و انتهاك إنسانية البشر حادث عادي جدا , و يومي جدا في كل مكان على هذه الأرض , و هو وظيفة رسمية لبشر محددين , يقومون بها لصالح القوى السائدة اجتماعيا و التي تختزل و تتركز فيما يسمى بالدولة , يتحمل الناس العاديون و الفقراء هذا القمع و الاستفزاز على أنه شيء عادي لسنوات , أو أكثر ربما , قبل أن ينفجروا غضبا و رفضا , لا شك أن تنمر أجهزة القمع الأمريكية البيضاء أساسا على الزنوج كان حدثا عاديا حتى قبل و بعد انتفاضة لوس أنجلوس 1994 أو كذلك تنمر هذه الأجهزة الفرنسية على المهاجرين القادمين من شمال أفريقيا قبل و بعد انتفاضة الضواحي الباريسية , و هذا الانتفاض و الغضب نفسه ترف لا يمكن للعمال السوريين في لبنان أو العمال الأجانب في الخليج أن يفكروا فيه حتى . إننا نرفض أن يكون قتل الفقراء أو قمعهم أو تهميشهم حدثا عاديا و من المؤكد أن هناك آلاف الانتفاضات الصغيرة التي تحدث على مستوى شخص , عدة أشخاص , شارع , في مواجهة هذا القتل و القمع اليوميين , لكن قوى “النظام” السائد ما تزال متغلبة حتى اليوم على مقاومة الضحايا . بالمقابل يجب ألا تنسينا حمى الخطابات التي يطلقها رئيس هذا النظام أو ذاك معاناة بشر آخرين منسيين اليوم لأن صراخهم ضد القتلة لا يصل آذاننا بعد , أردوغان و هو يتحدث عمن قضوا على سفينة مرمرة يتحدث في نفس الوقت عن سياسة حكومته القمعية ضد أكراد تركيا المسماة بفرض الوحدة الوطنية أي فرض المواطنة التركية على ملايين الأكراد بما يعني رفض حقهم في تقرير مصيرهم بل و تكريس وضعيتهم كبشر من الدرجة الثانية بالكاد تمكنوا بالأمس فقط من انتزاع حق الحديث بلغتهم الأم , إن الأنظمة السياسية تقوم أساسا على تهميش المحكومين و هي تحاول البحث عن شرعية ما عن طريق قتل ضحايا تزعم أنهم يهددون هؤلاء المحكومين كما تفعل حكومة إسرائيل التي يصفق لها مجانين المذابح اليمنيون و كما تفعل حكومة أردوغان في كردستان تركيا , لا شك أن الأنظمة و أزلامها تنتقد سجل بعضها البعض في حقوق الإنسان , لعل بعض مجانين اليمين الإسرائيلي المتعطشين لدماء العرب و المسلمين قد تذكروا فجأة الأرمن و رغم استذكارهم لمذابح الأرمن إلا أنهم كانوا مستعدين للابتهاج بذات الدرجة لو أن الجنود الإسرائيليين وجدوا كثيرا منهم على سطح سفينة مرمرة و قتلوهم جميعا حتى , في وقت سابق بينما كان عبد الناصر ينتقد مجرمي تل أبيب كانت أجهزته الخاصة بالقمع تعذب فرج الله الحلو حتى الموت ثم تحاول تذويب جثته بالأسيد و تعدم سيد قطب فقط لأنهم مختلفون , و بينما كانت أمريكا تقتل آخر الهنود الحمر مخفية و إلى الأبد آثار جريمتها كان ويلسون يكتب محاضرة أخلاقية عن أخلاق الحروب ليساهم فيها بالنفاق المقرف الذي حاول تبرير أكبر مجزرة عالمية عرفها التاريخ حتى ذلك اليوم , إن الأنظمة لا تقاتل بعضها البعض دفاعا عن حقوق هذا الإنسان أو ذاك , فقط السذج أو الأذكياء بما يكفي هم الذين يصدقون هذا الهراء أو يحترفون ترويجه , لم يحارب الغرب و لا ستالين هتلر لأنه فاشي أو نازي , جرى ذلك في إطار الصراع على الهيمنة على العالم و لو أنه من الجيد في نهاية المطاف تبرير ذلك إيديولوجيا أو أخلاقيا بما يجعل المجزرة تبدو و كأنها ذات مغزى و طبيعة أخلاقيتين , الجميع نصب و ينصب هولوكوسته الخاص و لا أحد يكترث لهذا إلا ليستخدمه ضد خصم ما في إطار الصراع على الهيمنة , الأنظمة تقاتل بعضها البعض لأنها تمثل تهديدا لسعيها إلى الهيمنة و السيطرة و لهذا بالذات لا يحارب جيران إسرائيل العرب جارهم الغارق في دماء الفلسطينيين و السوريين و المصريين و اللبنانيين و مؤخرا الأتراك , بكل بساطة لأنهم مستسلمون للهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط , بما في ذلك على مناطقهم ذاتها , أما أردوغان نفسه فهو اليوم يتحدث في نفس الوقت عن إعادة العلاقات مع مجرمي تل أبيب حتى قبل أن تجف دماء الضحايا . هكذا لم تكن هناك أية علاقة مثلا بين منح الديمقراطية للشعب العراقي ( و كأنها سندويش همبرغر أو علبة بيبسي ) و بين أن يحول بريمر العراق لمختبر للسياسات النيوليبرالية للمحافظين الجدد بفتح العراق على مصراعيه لرأس المال الأجنبي , و لم يكن يسوع شخصيا يحتاج لقتل و ذبح الهنود الحمر للاستيلاء على ذهبهم عندما وصل المسيحيون الأوائل إلى العالم الجديد , و كان بمقدور المسلمين أن يبلغوا رسالة ربهم الجديدة إلى الشعوب المجاورة لهم دون أن ينهبوا ثرواتها و يقتسموها كغنيمة فيما بينهم قبل أن يتخاصموا فيم بينهم على من هو الأحق بالتمتع بهذه الغنائم , لكن لحسن الحظ أن هذه الكنوز و الثروات التي نهبها الاسبان من العالم الجديد و المسلمون من العالم القديم كانت في الأساس ملكا لأرستقراطية هذه الشعوب و حلفائها من كبار رجال الدين و ما جرى بفعل الغزو هو مجرد نقل ملكيتها من أرستقراطية الشعوب المهزومة إلى أرستقراطية الشعوب الفاتحة أما الفقراء فقد كانوا محرومين منها في السابق و ظلوا محرومين منها في الحاضر , هذا هو حتى اليوم , و الغد ربما , هو جوهر التغيير الحادث في التاريخ , بحلول نخبة اجتماعية جديدة مكان القديمة , هكذا مثلا استولى سادة العراق الجدد على ما كان في السابق حصة صدام و أزلامه من ثروة العراق بينما بقيت حصة الشعب العراقي بالكامل على حالها كما كانت في السابق , هكذا بقي الجوع و الفقر و غياب أبسط أشكال الحياة المتمدنة واقعا ضروريا لملايين العراقيين تماما كما كان في السابق . أما بهجة الليبراليين الجدد خاصة العرب منهم لسقوط هؤلاء الضحايا , و غيرهم من الضحايا , على يد جيوش “التمدن و التنوير” و سجودهم لرب الجنود بل و اعتبارهم هذا القتل دليلا و برهانا على ضرورة أن نتمدن على طريقة القتلة و السفاحين و أن هذا القتل , و بكل وقاحة , دليل على تفوق حضاري ما للقتلة و على ضرورة أن يسجد الناس العاديون , الفقراء منا , لرب الجنود هذا , فمن المؤسف أن نذكرهم أنهم ليسوا أول من فعل هذا , أي أول من سجد لرب الجنود راكعا شاكرا وهو يعتبر ما حل بالناس “عقابا” مستحقا لكفرهم بإلههم , إله الرأسمالية هذا الذي يسمي نفسه بالحداثة و التنوير و ما شئت , ففي الخامس من حزيران يونيو سجد محمد متولي الشعراوي , و آخرون , لإله ما , شكرا ليس فقط على هزيمة عبد الناصر , بل على موت الآلاف ممن لا يعتقدون بإله هذا الموت المستحق برأي الشعراوي و أمثاله تحت جنازير دبابات من يؤمنون بإله و لو كان اسمه يهوه , الفرق هنا بين الاثنين هو اسم الإله , لكن أفعال هذا الإله هي نفسها و ظمأه لدماء الضحايا هو نفسه , إذا لم تؤمن بهذا الإله فلتذهب إلى الجحيم بل إن من سيقودك إلى الجحيم لن يكون إلا قوة إلهية أو منفذة لمشيئة الإله . لقد رفعت الرأسمالية من إنتاجية الجندي المحارب , أصبح بمقدور طيارين مثلا أن يقتلا ربع مليون إنسان بكبسة زر , حتى جيش جنكيز خان , بل و الطاعون نفسه , كان يحتاج إلى شهور على الأقل لحصد هذا العدد من الأرواح , و لذلك تستحق الرأسمالية لقب طاعون البشرية الجديد , و أخذا بالاعتبار تأثيراتها المدمرة على الأرض و كل أشكال الحياة عليها تستحق لقب طاعون الأرض و الحياة الجديد , هكذا فإن عبارات نهاية التاريخ و البشر التي تحدث عنها فوكوياما و نبوءة فوكو المتشائمة عن نهاية أو موت الإنسان أصبحت واقعا قريبا و لم تعد خيالا بعيدا , طالما كانت المؤسسات الدينية الرسمية ترى في سيادة الهرطقة على الأرض إنذارا بنهاية العالم و بعقاب يتجاوز الخيال مستحق سينزل ببني البشر , لقد أصبح بمقدور الرأسمالية اليوم أن تحكم على البشرية بالانتحار , إن قلة مجنونة بمصالحها , بالسلطة و الهيمنة , باستمرار الشعوب , بما في ذلك فقراء شعبها هي بالذات في دفع الأتاوات لها , أصبحت اليوم , قادرة على أن تقرر نهاية البشرية , و حقيقة أنها جرت البشرية إلى حربين عالميتين هما الحدثان الأكثر دموية في تاريخ الإنسان على هذه الأرض يؤكد ما هي قادرة عليه , يجب إيقاف هذا الجنون , يجب إيقاف هؤلاء , و إلا فإن القتل و الموت الذي تمارسه لن يعرف أية حدود…….
خاص – صفحات سورية –
… لكن أين العرب في بلاد العرب؟
بول شاوول
هل علينا، نحن العرب، أن نكتفي ونبتهج بردود الفعل العالمية على جريمة إسرائيل التي ارتكبتها في “أسطول الحرية” واغتالت فيها عدداً من المتطوعين المنتمين الى 40 جنسية، ونكبر ذلك، ونعزف “أناشيد النصر”، ونلقي خطب الظفر… وأراجيزه ومواويله ونبشر بنهاية هذا الكيان الصهيوني؟ أيجب أن نكتفي بإكبار الموقف التركي الذي عبّر عنه رئيس الحكومة أردوغان، فنزيح “الأحمال” عن أكتافنا، ونحمّل سوانا مهمة مواجهة إسرائيل، أو اتخاذ القرارات والخطوات المناسبة لهذا الحدث البشع، المنتهك للقوانين الدولية، والإنسانية، والحقوق العربية بالذات! ايجب أن نصفق أيضاً لتصريحات الرئيس الإيراني الذي يصرح دائماً، ويهتف ضد الكيان الصهيوني ويبشر بقرب نهايته؟ أيجب أن نكتفي بالتهليل للمواقف العالمية الأخرى المنددة بالجريمة الصهيونية في وضح البحار، وببيان مجلس الأمن، ثم نضيف بيانات الأنظمة العربية والجامعة العربية ووزراء الخارجية العرب والأحزاب والمنظمات المختلفة، وأصوات المعارضة هنا وهناك… لكي نسجل ما نتوقع أن نسجل، ثم ندعو بالمكبرات، أو من التلفزيونات والإذاعات والصحف والمنابر الى المقاومة والجهاد والكفاح..! بحيث تتكرر الأصوات ذاتها، والكلمات ذاتها، والهتافات ذاتها… والتي ألفتها آذاننا وعيوننا على امتداد 62 عاماً من النكبة، وما تخللها من اعتداءات وحروب واحتلالات وانتهاكات وتهديد لفلسطين والجولان… والقدس والهواء والسماء والناس!ما ارتكبته إسرائيل سبق أن ارتكبت أبشع منه، وأكثر بربرية ووحشية، وسيسجّل في المستقبل ما يفوقه بشاعة وجنوناً وعنصرية فهذه هي طبيعتها أو على الأقل هذه هي مكوّنات “قوتها”: ثقافة العدوان والاستباحة واعتبار حدودها كل العالم… فعندما لا تعترف “دولة” بحدود الآخرين، فيعني أنها تعتبر نفسها حدود كل العالم. وهل ننسى مجزرة كفر قاسم، أو مجزرة قانا… مثلاً والمجازر في حق اللبنانيين والفلسطينيين والمصريين والسوريين… على امتداد “الصراع” (هل ما زال ثمة صراع بين العرب وإسرائيل أم أن الصراع اقتصر على إسرائيل باعتبار أن العرب تعبوا من “الانتصارات” ومن “التحرير” ومن مشاق الحروب، واسترداد الأراضي السليبة. فاستكانوا الى كلام الليل الذي يمحوه النهار.
قد لا تكون المفاجأة جاءت من الجريمة الصهيونية، وطريقة الهجوم الوحشي على “أسطول الحرية”، وقتل الأبرياء والعزّل من المتطوعين، وهو متوقع: وهل ننتظر من الأفعى أن تبخ العسل؟ ولأنه من سوابقها. المفاجأة الكبرى كشفت من جديد واقع الأنظمة العربية من النزاع مع الدولة العبرية، وأظهرت أن “أبطال” هذه الأنظمة “المفوّفين” بالغار والرجولة والأوسمة هم وراء الحدث، وفي الصفوف الخلفية من المشهد. وأن المبادرة ساقطة من أيديهم لأنها باتت في أيد غير عربية. بل كأن القضية العربية المركزية (أي فلسطين) لم تعد لا مركزية، ولا عربية. فلا زمام ولا أمور. ولا مَنْ يقول مفيداً، ولا من يفعل. لا شيء! بل كأن الصراع بين العرب وإسرائيل حوّلته بعض الأنظمة (المهزومة! والباقية بفعل هزيمتها! وذلّها) الى صراع بينها من ناحية، وإلى صراع مع شعوبها من ناحية أخرى، بحيث لم توفر شيئاً للمواجهة الحربية، ولا للمفاوضات، وهل تفاوض إسرائيل بجدية أطرافاً سلّموها مفاتيح المفاوضات، وتواطأ بعضهم معها، ضد لبنان مثلاً، وضد الفلسطينيين (في لبنان وسواه)، وضد القضايا العربية، بحيث تحوّل بعض هذه الأنظمة مجرد أدوات تدمّر الكيانات العربية، وتبعثر النضالات العربية، وتقسّم الأراضي العربية، وتثير الفتن بين المجموعات العربية… ربما، خدمة لإسرائيل أو خدمة لنفوذها أو خدمة لأعداء العرب تحت شعارات باتت ممجوجة ومضجرة وتافهة تُرفع “عالياً” لتغطية ممارساتها المشينة.
ومن حق الناس أن يصرخوا (إذا سُمح لهم بالصراخ): أين العرب؟ نعم! أين العرب؟ أين صارت مواقعهم؟ وماذا فعلت هذه “الحاكميات” بشعوبها، حتى “روضتها”، واقتلعت من ضمائرها وعقولها كل نبض بالمقاومة، أو بالتفكير، أو بالاحتجاج، أو بالنقد، أو بالمحاسبة، أو بمجرد السؤال؟ من حق العرب (وأقصد الناس) أن يتساءلوا: أين تذهب جهودهم؟ أين تذهب قضاياهم؟ أين تذهب أموالهم؟ وأين هي الأسلحة التي اشترتها بمليارات الدولارات وبكل العملات؟ أين هي مدفونة؟ أين جيوشنا وماذا تفعل؟ وهل بقيت عندنا حدود، أو استقلال، أو سيادة، ما دامت إراداتنا ودائع “أمينة” عند القوى الخارجية، وخيراتنا مسروقة من قوى “الداخل”، وحرياتنا مُنتهبة وكراماتنا مبتذلة!
نعم! من حق العرب أن يرفعوا الصوت: لماذا يجب أن تتراجع قياداتنا الى الخلفيات المظلمة (وربما المتواطئة)، وتتقدم تركيا رافعة لواء المواجهة ضد إسرائيل، وهي التي كانت حليفتها (وربما ما زالت)، وحليفة الولايات المتحدة الأطلسية؛ شيء رائع أن نجد العالم يتضامن مع القضية العربية، ويندد بإسرائيل ويطالب برفع الحصار عن غزة، ويرسل المساعدات، ويجازف بأبنائه، كل هذا رائع! لكن على أن تكون المبادرة في أيد عربية لا سيما فلسطينية: ففلسطين ليست تركية ولا إيرانية ولا أميركية، ولا برازيلية… ولا فرنسية. فلسطين فلسطينية وعربية أولاً وأخيراً. ولكن يمكن (ويجب) أن يكون كل إنسان في العالم فلسطينياً عندما يؤكد قضيتها، وليس أن يكون كل فلسطيني أي شيء لكي لا يكون فلسطينياً.. أن يكون مثلاً إيرانياً بفعل علاقاته مع إيران. أو تركياً بفعل الموقف التركي أو أميركياً بفعل علاقته بها… أو على علاقة بهذا النظام العربي أو ذاك فيتنازل عن قضيته له.. ويسلمه أوراقه ومصيره.
أوليس هذا ما حصل في غزة والضفة وقبل ذلك في لبنان، عندما توزعت القوى الفلسطينية الى شرذمات، يرتبط بعضها بهذا النظام العربي، أو الأعجمي، أو الأبعد! لكن إذا كان القرار العربي ليس طالعاً من إرادة الشعب العربي أصلاً، فيعني أن قرار بعض الأنظمة ليس طالعاً منها، ولهذا كيف يمكن أن يكون القرار الفلسطيني فلسطينياً عربياً… إذا كانت الأيدي كلها فارغة… ليتحول الصراع من صراع عربي إسرائيلي، ومن صراع فلسطيني إسرائيلي، الى صراع عربي عربي، وفلسطيني فلسطيني وصل الى حد تقسيم التقسيم في غزة والضفة.. إذ كيف يمكن أن نطالب العالم بأن يتوحد مع القضية الفلسطينية، إذا كان أهلوها منقسمين عليها.. كل ذلك أدى الى انهيار لا مثيل له في الواقع العربي، وإلى انحطاط رهيب على مستوى القيم الوطنية، والانتمائية، والديموقراطية، والمدنية. وإلى قبول كل ما يفرض عليهم (برؤوس مرفوعة في الاستعراضات وفي المناسبات الوطنية!).
إنها لحظة الالتباس الكبرى نعيشها (وسبق أن عشنا مثيلاتها بإباء وكرامة وشرف، براو!) ويعيشها هذا الشعب المستنزف في همومه اليومية، وفي يأسه، وفي صبره (الى متى). هذا الالتباس بالذات، هو الذي ولد ويولد مشاعر التعلق بأي صوت مختلف، استثنائي يُظن أنه يمثل شيئاً من أحلامهم. وهذا بالذات ما جعلهم يرون في أردوغان ما يذكرهم بصلاح الدين الأيوبي أو عبدالناصر. ويرون في تركيا “قلب” العروبة النابض، وفي إيران “ذراع التحرير”، مقابل طغيانية العدو الإسرئيلي. فالناس اليوم تعيش “زمناً” حياً (أهو عابر كسواه، ربما) وحراكاً “عاطفياً” غامراً لأنهم وجدوا في الموقف التركي ما افتقدوه عند قياداتهم من جرأة، وقوة، وإصرار، لأنهم تعودوا وكثيراً أن يلتحقوا بكل صوت مرتفع لنصرة قضاياهم، أو استرجاع شيء من الإحساس بوجودهم وإن جاء من أهل الباب العالي، ومن السلطنة العثمانية وإذا كانوا أصيبوا في الماضي بكثير من الخيبة (هزيمة 1967)، أو بسقوط صدام حسين (كصوت مواجهة وإن غباء مع “إسرائيل” أو الولايات المتحدة الأميركية)، نخشى أن تتكرر هذه الخيبة، اليوم، وغداً، وبعد غد إذا استمر العرب (الأنظمة المنتصرة بلا توقف: من وين بدنا نلحقلهن انتصارات!) في تسليم أوراقهم وأحلامهم وآمالاهم وقراراتهم الى الغير، سواء الى الولايات المتحدة، أم الى إيران، أم الى تركيا. فكل هذه الدول لها “أجندتها” ومصالحها، وهي لا بد من أن توظف كل مواقفها لتصب عندها: فتركيا عندها مشكلة الدخول الى الأحضان الأوروبية وقضية الأكراد (حركوها في موازاة الموقف التركي من إسرائيل)، وعندها، وهذا هو الأهم، استراتيجية الدخول الى العمق العربي كمعادل ربما لإيران؛ فدورها “العربي” قد يكون مطلباً غربياً، يُعوض الى حد كبير عن غياب الفاعلية العربية في أمور الصراع العربي الإسرائيلي، والمواقع الإيرانية المتقدمة في غزة، والعراق، ولبنان وسواها. وهذا من شأنه (إذا حصل) أن يوزع الأوراق من جديد الى أيد غير عربية، تكون فيه النزعة العروبية بوشائجها وعمقها وانتماءاتها سائبة. وهنا نستذكر مواقف هذه المرجعيات والدول من العرب والعروبة نفسها، والمشاعر التاريخية السلبية التي تكنها لها. ولا تكفي المشاعر الدينية لكي تبنى عليها استراتيجيات التضحية من أجل الغير. فالغيرية المطلقة ليست من قواميس السياسية، ولا من مفرداتها، وربما من “شعاراتها” الظرفية أو ذرائعها المتحولة. نقول هذا لأننا نتبع مقولة “أن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين”، ونحن العرب، وخصوصاً اللبنانيين، لُدغنا مرات وعشرات. فالأخ غودو الذي انتظرناه “منقذاً” اكتشفناه إما مارقاً أو مخادعاً، أو عدواً أو مجرماً. وكم من غودو “عربي” وأجنبي، حمّلناه ما حمّلناه من آمالنا، لنجد أنه قدّم إلينا السمّ في العسل! وعندما نتكلم في هذه المناسبة عن تخوفات فلأننا بتنا كالغزالي نعتمد “الشك” للوصول الى عدمه… (الى الإيمان). وفي هذا الإطار، لا بد من إكبار الدور التركي الجديد، أو السحنة التركية الجديدة بالعباءة العربية، أو الكوفية الفلسطينية… وبالنبرة القوية ضد إسرائيل. وكأننا هنا ننتظر من تركيا أن تحقق لنا ما لم تحققه أنظمتنا ومنظماتنا من “انتصارات” مقبلة، وأحلام زاهية. وقوة رادعة. وكلنا، من واهمين وغير واهمين، ومن مطمئنين وغير مطمئنين، نشعر، برغم كل شيء، أن عندنا ظهيراً صلباً (كما يبدو حتى الآن) هو تركيا، كما شعر بعضنا من لبنانيين (وما زالوا) وعرب أن عندهم ظهيراً من إيران. لكن قد تكون المقارنة قاسية، أو سهلة، لكن في الحالين، لا بد من الحذر من أن يرافق الاستغلال (كما حدث في السابق) كل هذه المواقف المؤيدة، ليتطور الى تحفير مواقع داخل التناقضات العربية، عن طريق التدخل في الشؤون الخاصة والعامة… واسترهان الإرادات بما فيها الشعبية والدينية والثقافية، والسياسية والأمنية. إذ يكفينا ما تعرضنا له من استلابات ومن مصادرات لمصائرنا، سواء من أهل القُربى أو أهل “البُعدى” ومن غدر واستغلال، ووصايات. بمعنى آخر، من الصعب الركون الى “التدفقات” الشعورية العاطفية الأولى، بالمواقف المؤيدة لفلسطين والمنددة بإسرائيل، وتجاوز الخلفيات أو “السرائر” أو الأغراض. (فالسياسة ليست مجانية كالشعر!). إنها تعطي باليمين وتأخذ باليسار. ولها جيوب سرية عدة، تحفظ في أوراقها و”عطاياها”… ومردوداتها. وهذا الأمر ينطبق على الجميع. بل على كثير من الذين رفعوا شعارات ضد إسرائيل، وزايدوا على الناس بها، لكن في الوقت ذاته، كانوا يسعون عبر هذه المواقف الطنانة، الى اختراق الإرادات وإلى السطو على القرارات، وإلى تهميش أصحاب الحق التاريخيين، ليتقدموا كبدائل من الاصل، بدائل تحركها شهوات “الاستعمار” أو السيطرة… أو على الأقل، استخدام هذه الأوراق، للمقايضة بها على قضايانا. ففلسطين (أو لبنان، أو العراق…) أكبر من أن تكون ثمناً لا لدخول الجنة الاوروبية، أو للانتصار في المسألة النووية… وهي أكبر من أن تكون رهينة مزدوجة عند من يحتلها، ومن يهتف بتحريرها من العرب وغير العرب. بل هي أكبر من كل هذه الأنظمة التي حوّلتها الى صفقة… رخيصة في سوق النخاسة.
هل يدل كل ذلك على عدم اطمئنان “داخلي” أو سياسي؟ ربما! لأن سؤال فلسطين اليوم، الى تشعباته، وإلى جنون العدو الإسرائيلي ووحشيته ومطامعه، هو سؤال لبنان، أيضاً. ويحق لنا، في عزّ هذه النشوة، وهذا الانتصار المحقق على إسرائيل بعد عدوانها على “أسطول الحرية”، وعزلتها، وارتباكها، وخوفها من تحقيق دولي ومن عقوبات، يحق لنا أن نسأل: أين لبنان من كل هذا؟ ترى أسيكون عندنا، هنا، المكان الذي ستدفع أثمان الهزائم والانتصارات، من حروب وعواصف وكوارث قد تهددنا… حتى في الوقت القريب؟ وهل ستجد إسرائيل لبنان تعويضاً عن الخسائر التي تكبدتها (بلا أسف ولا ندامة ولا اعتذار يا للوحشية ويا للجنون!)، ليكون هدفاً لعدوان جديد، بذرائع أو من دون ذرائع؟ كل هذه التساؤلات مشروعة لشعب خَبِر وجرّب وعانى الأمرّين والويلات من سرعة تصديقه في ما يقال، أو انجرافه بما يحدث، أو انجذابه لمواقف، أسفرت في ما بعد عن خلفيات أخرى.
المهم، في كل ذلك، أن “تركيا الفتاة”، وهي جميلة اليوم، بتجملها العالي، عوّضت (وإن موقتاً)، عن غياب العرب، وغيبوبتهم، وحساباتهم السلطوية، إزاء القضية المصيرية. والمهم أن الجماهير العربية، قدّرت هذه المواقف المشرّفة، التي واجهت إسرائيل العدوانية المتوحشة، وطالبت (بأقوى من بيانات مجلس الأمن ووزراء الخارجية العرب(؟) وبعض القيادات الصاغرة) بأقسى وأقصى العقوبات ضد هذا الكيان، ورفعت صوتها الى حد “التهديد” الجدي، وليس من مثل تلك التهديدات الزجلية التي احترفها آخر مطربي السياسات الخارجية، والتي، بدلاً من تخفيف إسرائيل… تشحنها بالقوة، خصوصاً أمام الرأي الغربي، ليتعاطف معها بدلاً من أن يندد بها.
وهل لنا أخيراً أن نأمل أن يفيق العرب، من أحزاب، وأنظمة، وناس، على شروطهم ومواقعهم ودورهم… العربي أولاً وأخيراً، بدلاً من أن ينتحلوا كل يوم صفة العروبة، والقومية، والنضال والمواجهة، ليغطوا تراجعهم! أترى شبه الغياب العربي الفاعل عن القضية الفلسطينية، وطغيان الأدوار الأخرى، أيكون هزة ضمير… وعودة الى الذات، وإلى هؤلاء الناس الذين لا بد أنهم ينتظرون أن يتحقق شيء من أحلامهم العربية، ومن آمالهم العربية، ومن إرادتهم العربية!
المستقبل
مشكلة في إسرائيل؟
ساطع نور الدين
يصرف الجمهور العربي وقتاً متزايداً على قراءة وتحليل الموقف الداخلي الإسرائيلي، حتى باتت تستهويه عبارات متداولة بين الإسرائيليين مثل «نزع الشرعية عن إسرائيل»، و«العبء الإسرائيلي على أميركا»، و«وتهور السلوك الإسرائيلي»، و«وفقدان الثقة الشعبية الإسرائيلية بالمؤسسة السياسية والعسكرية التي تقود الدولة اليهودية من فشل الى آخر… كما صارت تغويه اكثر من اي وقت مضى متابعة الخلافات بين المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، والدعوات الى الاستقالة التي يتبادلونها بعد اي حدث مهم.
ويغيب عن بال الجمهور العربي أن مثل هذه العبارات المدوية ليست جديدة على النقاش الداخلي الإسرائيلي، بل لعلها أقل جدية من عبارات كان يجري تداولها في الماضي، مثل الخطر الوجودي الذي تواجهه إسرائيل بعد تفجير عبوة أو إطلاق صاروخ بدائي على أهداف إسرائيلية حتى ولو كانت الأضرار مادية طفيفة او نفسية عابرة. وينسى ذلك الجمهور أيضاً أن النقاشات في إسرائيل ظاهرة طبيعية، صحية، وكذا لجان التحقيق والاستقالات من المناصب السياسية وحتى العسكرية، التي تعقب كل حرب او عملية أمنية كبرى.
عبارة «نزع الشرعية عن إسرائيل» هي الأكثر جاذبية الآن لدى الجمهور العربي، وهي عبارة أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلية افيغدور ليبرمان وجعل منها عنواناً لحملة دبلوماسية مضادة أطلقها قبل اسابيع وكلف السفارات والممثليات الإسرائيلية في الخارج بشنها على دول عديدة عربية وإسلامية، بينها السعودية وقطر، ولكنها تستهدف بشكل خاص تركيا التي يشهد موقفها وتعاملها مع إسرائيل تحولاً جوهرياً لا يمكن إنكاره، لكنه لا يمكن أن يرقى، حتى الآن على الأقل، إلى التشكيك بـ«شرعية» إسرائيل أو سحب الاعتراف التركي بالدولة اليهودية!
ثمة مشكلة سياسية حقيقة تواجهها إسرائيل هذه اللحظات على مختلف المستويات، تعكسها الصحف الإسرائيلية بالتفصيل، لكنها ليست بالخطورة ولا حتى بالجدية التي يفترضها الجمهور العربي. وهي تشبه الى حد بعيد المشكلة التي واجهتها إسرائيل في أعقاب اغتيال القائد في حركة حماس محمود المبحوح في دبي في مطلع هذا العام… والتي لم يبق منها الكثير الآن، ولم تمنع القيادة الإسرائيلية من الإقدام على ارتكاب تلك المذبحة البشعة في المياه الدولية في البحر الأبيض المتوسط، والموجهة أساساً الى دولة إقليمية كبرى مثل تركيا… أكثر مما هي موجهة ضد قطاع غزة الفلسطيني المحاصر أو حركة حماس أو أي طرف عربي آخر.
لكن هذه المشكلة لا تبرر بأي حال من الأحوال أن يستنتج الجمهور العربي بمساعدة من إعلامه وكلامييه أن المذبحة البحرية فضحت إسرائيل وعرّتها أمام العالم كله، ووضعتها في حالة حصار أشد من الحصار الذي تفرضه على قطاع غزة، حسبما ردد بعض المعلقين الإسرائيليين، أو أن القيادة الإسرائيلية تهرب الى الأمام من مواجهة إخفاقاتها وخيباتها المتلاحقة، وهي تنتقل من عملية أمنية إلى أخرى بحثاً عن تعويض أو انتصار ضائع.
التدقيق في الموقف الداخلي الإسرائيلي يؤدي الى استنتاجات مغايرة قد لا تعجب تلك الشريحة من الجمهور العربي. أما التدقيق في الموقف الغربي والأميركي تحديداً من المذبحة البحرية المروعة، فيؤدي إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير. والبرهان آت.
السفير
المذبحة الإنسانية
سليمان تقي الدين
الوحش الإسرائيلي واجه العالم كله أمس باستخدام مخالبه في وجه الحرية والإنسان. ذاق العالم كله أمس طعم الجريمة المتمادية لهذا الكيان منذ نشأته وهو يتعامل بعنصرية مع الآخر لاغياً حقوقه ولاغياً وجوده. لم نكن بحاجة إلى هذه المذبحة الإنسانية غير المسبوقة للناشطين الدوليين الأحرار الذين جاؤوا من أربعين دولة من أجل الحرية لغزة. هذا الوحش الصهيوني الذي أسقط العالم عنه صفة العنصرية في العام 1990 في الأمم المتحدة هو ذاته أمس واليوم يمثل خطراً على كل المعاني والقيم الانسانية. على امتداد قرن دفع العرب عموماً والفلسطينيون خصوصاً أثماناً باهظة لجرائم إسرائيل، ولم تكن كل هذه الجرائم ممكنة إلا لأن العالم تغافل عنها، أدار ظهره لمعاناة الشعب الفلسطيني وحاول أن ينقذ إسرائيل من أي مساءلة أو محاسبة. نحن لا نحتاج إلى المزيد من الأدلة على الطبيعة الاجرامية للمشروع الصهيوني وعدوانية هذا الكيان المذعور لأن في أعماق شعبه شعوراً دفيناً بجريمته التي يحاول أن يلغي شهودها ويمحو آثار ضحاياها ويمنع العالم عن التدخل لوقفها. هناك مسؤولية دولية عن مأساة شعب فلسطين المحتلة أرضه، المشرد المفصول عن بيته ورزقه، المطارد في أمنه ووجوده، المحاصر في كل ما يحتاج إليه من عناصر الحياة. غزة ليست الأصل وليست القضية وليست خلاصة المسألة. غزة قضية لأنها تقاوم، ولأنها تؤكد هذا الحضور الفعّال لإرادة شعب لن يرضخ لشروط الإلغاء وشروط الاحتلال في تحويله إلى كمٍّ بشري تمارس عليه السادية الإسرائيلية، وتختبر في أجساد أطفاله أسلحة الفوسفور الأبيض والقنابل الذكية والمخصبة نووياً. المسؤولية على مجتمع دولي ما زال يتحدث عن أمن إسرائيل وهي التي تهدد أمن الآخرين. أسطول الحرية لغزة الذي جاء يفك الحصار الانساني، جاء يمنح الأمل والحياة، تحوّل إلى ضحية، جزرته إسرائيل في البحر بتخطيط مسبق، بوعيد معلن، بقرار صلف يهين العالم كله، يهين الدول والشعوب ويرشق وجوهها بالدم. أمس تمزق ضميرنا ونحن نشهد تمزيق أجساد المتطوعين الاحرار الذين جاؤوا من بقاع بعيدة ليعطونا درساً في معنى الكرامة والحرية واحترام الانسان. هؤلاء ليسوا عرباً لكنهم أكثر عروبة منا. هؤلاء ليسوا فلسطينيين ولكنهم أكثر انسانية وأصدق التزاماً بتلك القضية التي لم يعد لها نظير. هؤلاء هم شهود العصر على الظلم التاريخي اللاحق بنا، وعلى التخاذل العربي والتواطؤ العربي الذي يسمح لإسرائيل أن تتصرّف بهذا المستوى من الاحتقار لإنسانيتنا بعد أن سلبتنا أرضنا وحقوقنا باسم أسطورة فيها كل ما هو معادٍ لكل الثقافات والهويات والحضارات والوقائع التاريخية.
منذ بضعة أشهرصدر التقرير الدولي لمجلس حقوق الانسان وهو يدين إسرائيل بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية. وقبله صدر قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي مديناً جدار الفصل العنصري، فهل كان علينا أن ننتظر هذه المذبحة لكي نسعى إلى فك الحصار عن غزة! هل كنا بحاجة إلى المزيد من الضحايا والمحارق على الآمنين والمدنيين والعزّل والمتطوعين لمهمات إنسانية! هل صار عجزنا نابعاً من فقدان الشعور الانساني بعد أن فقدنا «الأخوة العربية»! هل صارت سلطة «أوسلو» أقل ارتباطاً بقضية فلسطين من الاحرار في العالم؟
لكن رغم ذلك كله، برغم المرارة والشعور بالتقصير، برغم المهانة العربية، برغم البشاعة الإسرائيلية، لم نعد وحدنا، لم نعد مجرد ضحايا، لم نعد مسكونين بعقدة التفوق الإسرائيلي، ولم نعد محكومين بشرعية دولية جائرة، ولم نعد أذلاء خائفين، لم يعد الإرهاب يسكتنا، ولم يعد وهم السلام يخدّرنا. هناك دولة إرهابية منظمة تقتل من يعارضها فلسطينياً كان أم عربياً أم حراً من أي دولة ومن أي شعب. هذه الجريمة أكبر من أن تستدعي الاستنكار والإدانة، أكبر من أن يختبئ العالم عن الوقوف لمواجهة ما تعنيه في العقل الإسرائيلي المريض. ليست القضية فقط ان نفك الحصار عن غزة، آن لنا ان نبدأ محاصرة هذا الوحش الإسرائيلي الخطير على الأمن والسلم والحضارة وعلى الكرامة الإنسانية. ألف تحية لشهداء الحرية والكرامة والضمير في أسطول الحرية لغزة.
السفير
بـيـــان إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي
كانت مهاجمة الجيش الإسرائيلي وأسطوله الحربي لقافلة سفن الحرية التي أقلّت ناشطين عالميين من أربعة وأربعين جنسية، تحمل مساعدات لشعب غزة المحاصر، لغاية كسر الحصار الإسرائيلي، المفروض على غزة للعام الرابع على التوالي، قرصنة دولية لا جدال فيها.
إن ما أقدمت عليه إسرائيل من فعل يقع خارج المعقول السياسي والأخلاقي. إنه اعتداء فاضح على ناشطين عُزَّل في المياه الدولية، وانتهاك للقانون الدولي راح ضحيته العشرات بين قتيل وجريح. واعتقلت بقية الناشطين، وساقت السفن التي تقلّهم إلى موانئها، ثمّ أفرجت عنهم لاحقاً.
إن ما فعلته إسرائيل أذهل العالم وصدم الضمير الإنساني وأخرجه عن صمته وأحرج أصدقاءها ومؤيديها في العالم، وعرّى وجهها العنصري المتطرّف الذي لا يقيم وزناً للرأي العام العالمي والقانون الدولي. لقد أرادت إسرائيل بجريمتها هذه إيصال رسالة إلى المجتمع الدولي والإقليمي، وخاصة مؤيدي الشعب الفلسطيني في العالم، بأن الرعونة الإسرائيلية لا حدود لها، ولتقطع الطريق أمام أية محاولات أخرى لكسر الحصار على غزة. إن هذا الاستهتار سيزيد من عزلتها في العالم. ولا يمكن له أن يبقى لا مبالياً في النهاية، ويترك طغمة من المتطرفين تعبث في المنطقة وتدفع نحو مزيد من التوتر.
إن هذه الجريمة النكراء وتداعياتها درس للشعوب العربية وشعوب المنطقة، من المفترض أن يدفعها نحو مزيد من التمسك بالشرعية الدولية والرأي العام العالمي، لأن فيهما أملاً أمام العرب للجم التطرّف الإسرائيلي، خاصة وأن الأنظمة العربية عجزت طوال العقود الستة الماضية، من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أو أنها لم تكن راغبة بما يكفي لتعديل موازين القوى الإقليمية، بما يضمن ردع إسرائيل. على العكس من ذلك، عملت الأنظمة العربية، على تنوّعها، على لجم شعوبها وقتل روح المبادرة لديها وخنقتها بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، حتى استحالت عجزاً، لا تستطيع، بل ممنوع عليها أن تقدم شيئاً، ولتعيش على شعارات الممانعة التي لم تمنع إلا أصحابها.
هذه الجريمة تحثنا أيضاً لتلمّس الأضرار الكبرى للانقسام الفلسطيني والسعي الدؤوب لإعادة الوحدة إلى صفوف الشعب الفلسسطيني.
إن الأمانة العامة لإعلان دمشق، باسم ناشطي الإعلان ومؤيديه، تدين هذه الجريمة الإسرائيلية البشعة، وتطالب العالم ودوله الكبرى والمنظمات الدولية أن تقف أمام مسئولياتها وتردع الغرور الإسرائيلي الذي اعتاد أن يفلت من العقاب وأن يكون فوق القانون الدولي.
كما تدعو شعوب العالم إلى مزيد من التضامن مع الشعب الفلسطيني ودعم نضاله المشروع حتى استرداد حقوقه وقيام دولته المستقلة القابلة للحياة كما أقرّتها الشرعية الدولية.
دمشق 4/6/2010
الأمانة العامة
لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي