اتفاق الدوحة وما بعده والنظرة المؤامراتية
بدرالدين حسن قربي
اعتاد معظم العرب إن لم يكن جميعهم على استحضار نظرية المؤامرة في معظم قراءاتهم السياسية إن لم يكن كلها أيضاً. فإهمالنا ومصائبنا وبلاوينا مؤامرة ومن ورائها متآمرون، مطالبة حكوماتنا بالديمقراطيات والحريات وإيقاف النهب ومنع فواحشه مؤامرة ومن ورائها أناس بطّالون. جوعنا وفقرنا وأزمات الطعام والغذاء وطوابير الخبز والوقود عندنا مؤامرة أمريكية بامتياز القادم فيها أخطر مما مضى.
اختلاف العرب مؤامرة بالتأكيد ومن خلفها المشاريع الأمريكية والصهيونية ومن شدّ على أيديهم، وهو كلام قالته وتقوله لنا حكومتنا مذ كنا أطفالاً، وقاله الرفاق ومازالوا يقولونه في اجتماعات عروبية خصوصاً رغم أنه كلام فقد فاعليته وزال بريقه وقد أمسينا كهولاً.
نظرية المؤامرة من الناحية العملية فيما نعتقد تريح أصحابها من الأعباء والعمل وبذل الجهد والسعي نحو التنمية، كما أنها نظرية واسعة قادرة على استيعاب الكثير من قضايانا إن لم يكن كلها، وقابلة لأن نعلّق عليها تخلفنا وانحطاطنا، والأهم أنها ترمي بالمسؤولية على الآخر غرباً وشرقاً، عرباً وعجماً، أمريكا وأوروبا، خصومنا ومعارضينا، ونستبعد أنفسنا وذواتنا. باختصار، نحن فيها القادرون على اتهام الدنيا كلها إلا نحن، ونتناسى قل هو من عند أنفسكم. وهكذا فنحن الأطهر والأنظف والأنقى والأقدر في اختراع الأعذار على ما نحن فيه من مشاكل وتخلف وقمع واستبداد.
إننا ابتداءً وإن كنا نعتقد بشيء من نظرية المؤامرة لأسباب مختلفة، منها أنه كتب علينا أن نُخلق في عصر كثرت فيه مؤامراته وصفقاته في ظل أنظمةٍ استبدادية قامعة تستمد شرعيتها منها وتتطلع إلى الاستمرار بواسطتها، فإننا انتهاءً لسنا من أنصارها ولا من المروجين لها.
فإن مما لاشك فيه أن لأمريكا ولكل دول العالم أجنداتها واستراتجياتها التي تمضي بها إلى إمضاء مصالحها والحفاظ عليها ولايجادل أحد أحداً في شيء من هذا. ولكن ألاّيكون لنا أجندات واستراتيجيات وإن وجدت فهي مصالح ضيقة وشخصية وعائلية، وديكتاتوريات ظالمة باطشة، ونهب لمقدرات العباد وثروات البلاد، واعتبار الأوطان مزارع خاصة لأناس بعينهم، وتياسـة على الآخر، فهو الجهل بنفسه والعمى بعينه. وأن نكل أمورنا إلى اللصوص والسفهاء ولكل ماخلق ربي من عاهات، ثم نرمي بمصائبنا على الدول الكبرى ومجلس الأمن والأمم المتحدة، ونتوهم المؤامرات من الآخر، فهو من سـوء التدبير وضيق الأفق وتوهم الأعداء، وتعليق مصائبنا على الغير.
إن ماعندنا من المصائب والإعاقات والبلاوي والحماقات لوجاءت أمريكا بحالها أو فرنسا تخطط وترتب لتدمير وتخريب دولة ما من دولنا، لما استطاعت أن تحدث دماراً وخراباً في بنية المجتمع ومنظومة قيمه كما فعل ويفعل السفهاء والمعوَّقون ذهنياً من أبناء جلدتنا وبني قومنا ممن عميت عن مصالح أوطانهم بصائرهم، فالأحمق يفعل بنفسه كما يفعل العدو بعدوه.
وهكذا فإن مايقال عن أن الاختلاف والتناحر على الساحة اللبنانية بين كافة الأطراف الفاعلين والتعطيل الذي كان لانتخاب رئيسها مؤامرة تنفذ بالتعاون مع المرتبطين والمتعاونين والمتأمركين والمتهودين والخائنين حسب قول المتهِمين فإن جديد الأمر ولطيفه هو مايقال ومايشاع بين المحللين وقارئيي الحدث عن أن بعض الاتفاق بين الأطراف اللبنانية المختلفة في الدوحة والخروج ببعض الحل إنما هو صفقة أطراف كبرى أعلاها إنفاذ مشاريعها وخططها في المنطقة وأدناها إتاحة الفرصة لها للانسحاب بماء الوجه دون إعلان الفشل والهزيمة. أي أن الخروج بحل هو مؤامرة أيضاً كما كان الاختلاف لتصبح القضية اشتباكاً عصياً على الفهم والتحليل، فمن مشى للأمام كان كمن مشى إلى الخلف فكلها مؤمرات بمؤامرات والله المستعان.
تستطيع كل الأطراف التي شاركت في التوقيع على ماكان في اتفاق الدوحة من بعد كل ماكان أن تزعم أنها حققت شيئاً ولكن ليس كل شيء. ومن قال بغير هذا فقد افترى أو أنه يريد المكايدة والمناكفة ليس أكثر.
فاتفاق الدوحة كان مطلوباً ولعله خيراً، ولكن عقدته الرئيسة والأولى هي أن أطرافه جميعاً عزلاً من السلاح إلا طرفاً واحداً وهو هنا طائفة بمعظمها، ولسنا نعني بالسلاح هنا أيضاً السكين أو الساطور أو الكلاشنكوف أو المسدس لأنها من عدة المطبخ اللبناني وإنما نعني مافوقها. ومن ثم فمهما قيل عن شرف هذا السلاح وطهارته سيبقى موضع شك وريبة وخوف ولاسيما أنه هو نفسه تسبب في سابقات السنين في قتل وتصفية وإعاقة الآلاف من الضحايا ضمن الطائفة نفسها، فماكان بين أمل وحزب الله في الثمانينات قبيل ربع قرنٍ هو الحجة البالغة لمن خاف ويخاف أهوال القتل والترويع لأن فيه للعقلاء من الناس مزدجر.
فمفتول العضلات ومنتفخ الإبط يعتقد أن حل مشكلاته مع أي فرد يواجهه حقاً أم باطلاً هو كم ضربة (بوكس)، كما يعتقد حامل المطرقة أن كل من أمامه مسامير خلقت للدق والطرق ولاينفع معها غيرهما. وعليه أيضاً يعتقد حملة الصورايخ والآر بي جي والقنابل والمدافع بمنطق القوة أنهم الحق وأصحابه وحماته وحزبه، وحيث أن الله هو الحق، فهم حزب الله وعنه يدافعون. منطق العضلات المفتولة والشواكيش المحمولة والسواطير المرفوعة ومخازن الصورايخ والأسلحة له خصوصياته وأمكنته ولكن يوم يتجه نحو أهله ومواطنيه فهو عامل هدم وتخريب ولن يكون عامل بناءٍ وتعمير، وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب.
أما عقدة الاتفاق الثانية فهي مصالح الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة فيها وأجنداتها، وعليه نقول بأن اتفاق الدوحة حقق مصلحةً ما لكل طرفٍ من أطرافها يمكن (البحبحشة) عنها وتلمسها من هذا الفعل أو ذاك التصريح الساكت قبل الناطق على صعيد الأطراف كلها.
فإذا كان الاتفاق دفع بالوضع نحو الأمام قليلاً فإن المؤشرات الإقليمية والدولية توحي بأن الأمر ليس أكثر من عملية تبريد أو تهدئة مؤقتة للوضع الساخن أو شراء بعض الوقت لبعض الأطراف إن لم يكن كلها لتوجيه ضربة إلى إيران تتجمع خيوطها من إعلان السوريين نبأ مفاوضاتهم ومن إشاراتٍ وتصريحاتٍ نورد بعضها:
منها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة إلى الولايات والمتحدة والتفاهمات التي تمت على تزويد سلاح الجو الإسرائيلي بطائرات متطورة، وإدراج إسرائيل في منظومة الأخطار ببث الأقمار الصناعية بالتحذير من هجوم الصواريخ، وفرائض الأعمال اللازمة لوقف عملية التسلح الإيراني، ومن ثم تصريحاته الحامية وهو على مدرج المطار بعد عودته منها منذ أيام عن الخيارات المفتوحة والجاهزة والمتناغمة مع التصريحات الإيرانية بالإبادة والمسح والإزالة للدولة العبرية.
ومنها تصريحات موفاز نائب رئيس الوزراء لصحيفة يديعوت بأنه إذا واصلت إيران برنامجها لتطوير السلاح النووي فسنهاجمها، نافذة الفرص أغلقت، العقوبات الدولية المفروضة على إيران ليست ناجعة، لن يكون مفر من مهاجمة إيران لوقف البرنامج النووي الإيراني، كل عملية عسكرية ضد إيران ستكون بموافقة وبدعم الولايات المتحدة. وحين سئل كيف يعقب على كلام الرئيس الإيراني احمدي نجاد في روما الذي قال إن إسرائيل ستختفي من الخريطة، قال موفاز: “هو سيختفي قبل إسرائيل.
وكذلك تصريحات مختلفة ومتعددة لمصادر سياسية وأمنية إسرائيلية مطلعة ملخصها أن على إسرائيل مهاجمة إيران لمنعها من تحقيق قدرة نووية، فإسرائيل لا يمكنها أن تحتمل سلاحاً نووياً إيرانياً، ومن ثم يجب عمل ما ضد إيران في أقرب وقت ممكن لعرقلة برنامجها النووي. يضاف إليها كلام نائب مستشار الأمن القومي إليوت أبرامز في آذار/ مارس السابق: انتظروا تحولات كبرى في الشرق الأوسط هذا العام مشيراً إلى أن أنظمة ستسقط، ووجوهاً تغيب عن مسرح المنطقة وأنها ستكون هامة للغاية وستحدث تغييرات أساسية في الأوضاع الاستراتيجية للمنطقة وأن الرئيس بوش حتى الدقيقة الأخيرة في عهده الذي ينتهي منتصف ليل 19/20 كانون الثاني/ يناير 2009، أمامه الكثير من الوقت لينفذ خطته. وهو كلام يعني فيما يعني أن اقتراب نهاية عهد بوش الابن يستوجب في فهم المحافظين الأمريكيين عمل مالم يعمل حتى الآن بضرب إيران مباشرة أو عن طريق إسرائيل، ولاسيما أن الرئيس بوش لم يبق عنده مايخاف عليه، ومن ثم فهو للمستقبل يجنب خلفه الجمهوري الراجح جون ماكين مسؤولية قرار حرب مع بداية ولايته كما يقطع الطريق على خلفه الديمقراطي المرجوح أوباما خط الحوار والتحاور مع إيران.
ومنها أيضاً خطاب الرئيس الأمريكي في الكنيست الإسرائيلي ودعمه اللامحدود لإسرائيل أمام مايزعم من تهديدات ولاسيما عندما ضم عدد سكان أمريكا إليها واعتبر الحالين حالاً واحداً.
أما الإشارة الأبلغ عن قرب الضربة ودنو الأجل في كل ماسبق، فهي جديد الإعلان السوري في وقت دقيقٍ محسوب ومقدور عن مفاوضات إسرائيلية مع النظام السوري ثم نصيحة الأخير لجيرانه اللبنانيين أن يفاوضوا معه رغم رفضهم، وأن يسلكوا سلوكه. وهي إشارة بالغة إلى (تكويعة) كبيرة على خلاف ماكان يقال، وجديد رؤيةٍ من قبل النظام لضربةٍ قادمة مما لايراه الآخرون من حلفائه الذي يصرون على أن أمريكا وحلفاءها ومن يشد معها هم في حالٍ عاجزة بل أعجز من أن يفعلوا فيها شيئاً. وعلى طريقة (الشوام) في مخاصمة شخصٍ ما فيطلبون إليه أن يرسل إليهم رجلاً غيره لأنه صعلوك وليس من مستواهم وقدرهم، فلقد كان النظام السوري يؤكد وإلى عهد قريب أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت الذي أعقب شـارون ليس هذا الرجل القادر على أن يفاوض السوريين وأن يقود سلاماً معهم بحكومةٍ هي من أضعف حكومات إسرائيل.
قال له: إن السوريين كانت لهم تحفظاتهم على أولمرت ضعفاً وعدم قدرة، فكيف بهم وقد ظهر للناس ماظهر عن قبوله رشاوي بعشرات الآلاف من الدولارات…!!
فأجابه معقباً: هم أساساً كانوا ذاهبين للمفاوضات معه من غير نفس، وعندهم شعور أن الرجل (مش ولابد)، أما وقد ظهر أنه مرتشٍ وآكّال حرام والذي منه، فعليه أن يرسل لهم رجلاً غيره، ولعلها معلمتهم الوزيرة تسيبي ليفني القادمة من عمق أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تكون ذلك الرجل المناسب لهم. واحد خبيث فتّان أوصل الكلام على طريقته إلى أولمرت مما أثار حفيظته وصاح: لقد هزلت..!! سراق مليارات ناسهم ومواطنيهم وبلاعو ثروات بلدهم وقامعوا شعبهم يعيروننا ببعض الرشوات المتواضعة..!!
تهكنات كثيرة، وأسابيع قادمة قليلة، ستكون لها مالها في منطقتنا نتمنى أن يجنبنا فيها ربنا شرور الظالمين والمستكبرين واللصوص المستبدين والقامعين الطغاة على اختلاف مذاهبهم وبلادهم، وأن تكون خيراً لن
خاص – صفحات سورية –