العرب وإسرائيل.. القوانين التاريخية للصراع
رشيد الحاج صالح
من الواضح أن الجريمة الإسرائيلية البشعة التي ارتُكبت في المياه الدولية ضد مجموعة من دعاة السلام العزّل لن تكون الأخيرة، وأن إسرائيل ستستمر في مسلسل الجرائم ضد الشعب الفلسطيني بطرق ووسائل مختلفة، حتى يقبل هذا الشعب بشروط السلام الإسرائيلية, وهي شروط في الحقيقة أقرب إلى الاستسلام منها إلى السلام.
ويعود السبب في استمرار إسرائيل في جرائمها وعدم احترامها لأبسط الأعراف الإنسانية، إلى أنها تعرف أنه ليس هناك من قوة يمكن أن تحاسبها على جرائمها، وأن الأنظمة السياسية العربية ستكتفي بالإدانة والاستنكار والتصريحات الرنانة، وهي إجراءات أصبحت تُثير سخرية الشعب العربي نفسه، وتزيد من شعوره بالمرارة والغضب.
فالصراعات التاريخية، كما يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في كتابه المشهور «دراسة في التاريخ» تخضع لقانون التحدي والاستجابة. فأي حدث تاريخي هو ناتج عن تحد معين، دفع شعبا ما لمواجهته، كما يؤدي ذلك التحدي إلى استجابة مضادة تدفع الشعب الذي تعرضت حقوقه للضرر إلى الاستجابة لذلك التحدي ومواجهته.
ووفق هذا القانون فإن أسباب قيام الكيان الصهيوني واغتصابه للأراضي الفلسطينية، بحسب توينبي «تعود إلى تحدي التشتت، الذي عانى منه اليهود خلال عشرات من القرون، الأمر الذي دفعهم للبحث عن مكان يجمع شتاتهم ويؤمِّن وجودهم التاريخي ويمنع ضياعهم الذي طال أمده».
غير أن فيلسوف التاريخ توينبي توقع أن عمر الكيان الصهيوني لن يكون طويلاً، لأن هذا التحدي سيولد «إرادة استجابة» عند العرب، ستدفعهم إلى مواجهة هذا الاحتلال الإسرائيلي وطرد المحتلين الجدد من أرضهم.
غير أن التحدي الإسرائيلي لم يُثرْ «إرادة الاستجابة» لدى الأنظمة العربية -كما توقع توينبي- الأمر الذي أدى إلى استمرار الكيان الصهيوني في الوجود حتى يومنا هذا، فعذراً من توينبي لأنه تفاءل بإرادتنا السياسية ووثق بقدرتنا على مواجهة التحديات.
فنحن لم نكن على مستوى التحدي الذي أدى إلى إنشاء الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي، أي أننا لم نعد قادرين على الاستجابة للقوانين التاريخية للصراع. الأمر الذي يستدعي الوقوف عند هذا الضعف العربي خلال النصف الأخير من القرن العشرين، لفهم أسبابه وإيجاد الطرق للخروج منه، وإعادة القدرة على الاستجابة للتحديات، التي فقدها العرب مؤخراً.
والحديث عن الضعف العربي، ليس كلاماً من باب جلد الذات، أو التنفيس عن شعور عربي عارم بالغضب والحزن، على ما جرى ويجري في فلسطين خلال أكثر من ستين عاماً، بل من أجل التأكيد على أن «فعل الاستجابة» هو الفعل الوحيد القادر على إيقاف المجازر التي ترتكبها إسرائيل في كل يوم وكل ساعة.
فاليهود ليسوا شعباً خارقاً أو يملكون صفات غير عادية، بل هم مجرد أقليات كانت تعيش على هامش التاريخ، وتمارس أعمال المؤامرات والدسائس –بحسب توينبي– وهو الأمر الذي دفع كل الشعوب إلى نبذهم وطردهم.
وهذا يعني في النهاية أن إسرائيل ليست قوية بل نحن الضعفاء. لأن القوي تاريخياً ليس له وجود إلا بالنسبة لمن هم أضعف منه. وعدم وجود ضعفاء يعني عدم وجود أقوياء، لأن الذي يجعل القوي قوياً هو ضعف الضعيف وليس قوة القوي. وعلى ذلك فإنه عندما يصبح الضعيف قوياً لا يعود القوي يمتلك ميزة التفوق على الآخر، ويصبح هناك قدراً من المساواة في القوة.
والمشكلة بالنسبة للأقوياء اليوم، أنهم لا يراعون الأخلاق -كما يقول نيتشه- لأنهم ليسوا بحاجة إليها، طالما أنهم يمتلكون القوة التي تجعلهم يفرضون مصالحهم ونفوذهم على الجميع بقوة السلاح. وهذا ما يفسر الأفعال اللاأخلاقية لإسرائيل، وما يكشف بنفس الوقت هشاشة الموقف العربي الذي يعتقد أنه يدين إسرائيل عندما يفضح لا أخلاقية أعمالها وجرائمها.
فإسرائيل تعرف أنها لا أخلاقية قبل أن نحاول كشفها، ولكنها تعرف أيضاً أننا نعيش تحت لواء أنظمة أضعف من أن تستجيب للتحديات، التي تفرضها علينا جرائمها ومجازرها.
وعلى ذلك، وعلى الرغم من بشاعة الجريمة، والاستهتار الإسرائيلي الذي وصل إلى درجات لا يمكن أن تحتمل، فإنه لا بد من التأكيد على ثلاث نتائج يمكن أن نقرأها من وراء الجريمة الإسرائيلية الأخيرة:
الأولى: إن ضعف الأنظمة السياسية العربية وصل إلى درجات غير مسبوقة. وهذا يعود إلى أن الأنظمة تخاف على عروشها من الغضب الإسرائيلي وحلفائها الإستراتيجيين. لذلك وانطلاقاً من كونها أنظمة لا شرعية وغارقة في الفساد، فإنها في النهاية يمكن أن تقدم أيِّة تنازلات تُطلب منها مقابل بقائها واستمرارها في الحكم. وما يزيد الأمر تعقيداً أن إسرائيل أكثر الأطراف إدراكاً لهذه الحقيقة.
الثانية: أن الجريمة الإسرائيلية، كشفت أن الحديث عن وجود خلاف حقيقي بين إدارة أوباما والحكومة الإسرائيلية هو حديث ليس له أيِّة مصداقية. فلو كان الخلاف حقيقياً لما تجرأت إسرائيل على ارتكاب جريمة بهذه البشاعة، واكتفت بالتعامل مع أسطول الحرية بطرق سلمية، كما فعلت قبل ذلك مع سفن أخرى اتجهت إلى غزة لكسر الحصار اللاإنساني المفروض عليها.
وما يؤكد عدم وجود ذلك الخلاف، هو الموقف الأميركي الحيادي تُجاه هذه الجريمة، وردود الفعل الباردة والضبابية التي صرحت بها الإدارة الأميركية إثر انتشار خبر الجريمة. فالموقف الأميركي لم يتعرَّض لأي تغيير حقيقي، وهو ما زال مستعداً لاستخدام حق النقض في مجلس الأمن تُجاه أيِّة عبارة يمكن أن تخدش مشاعر إسرائيل المرهفة.
الثالثة: أن الأمانة والموضوعية تستدعي منا القول بأن دور المنظمات الإنسانية ودعاة السلام في العالم، دور يساعدنا في صراعنا مع عدونا وفضح كل ممارساته اللاإنسانية، ولكنه دور لا يمكن أن يحل محل أصحاب الحق، لأن صاحب الحق هو من عليه أن يأخذ حقه، ولم يحدث تاريخياً أن شعباً ما أخذ لشعب أخر حقوقه المغتصبة.
فالشهداء الذين سقطوا في هذه الجريمة والجهود الجبارة التي بذلت لتسيير سفن الحرية، تستطيع كسر الحصار على غزة، فقط في حال ترافقت هذه الجهود بجهود عربية كبيرة تتخذ خطوات حقيقية تقوم بها الدول العربية.
فهؤلاء فعلوا كل ما يستطيعون فعله، إذ قدّموا الشهداء وخاطروا بحياتهم وتحدوا الغطرسة الإسرائيلية بصدور عارية. ولكن الحقيقة المُرّة أن زعماء أنظمتنا العربية ومجالس وزرائنا ووزراء دفاعنا، يصرون على ألا يقدموا أي شيء للشعب الفلسطيني.
والعِبْرة من كل ما تقدم أن القوانين التاريخية للصراع تحتم على الشعوب أن تكون قوية، حتى تحصل على حقوقها وتمنع المحتل عن أرضها. فتعالوا نبحث عن مصادر قوتنا التي بدونها ستستمر الجرائم الإسرائيلية إلى ما لا نهاية.
الجزيرة نت