الشرق الأوسط: سلام ممكنٌ لكـنّه لن يحدث
نوام تشومسكي *
قبِل المبادئَ الأساسية لحل النزاع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني العالمُ كله فعلياً، بما فيه الدول العربية (التي تذهب إلى حد الدعوة إلى تطبيع كامل للعلاقات)، ومنظمة الدول الإسلامية (بما فيها إيران)، وأطراف فاعلة من غير الدول (بما فيها حماس). واقترحت الدول العربية الرئيسة أمام مجلس أمن الأمم المتحدة تسوية تتناسب مع هذه الخطوط العريضة أول مرة في يناير/ كانون الثاني 1976. فرفضت إسرائيل حضور الجلسة، واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد القرار، ثم كررت ذلك في عام 1980. وتجري الأمور على هذا المنوال في الجمعية العامة منذ ذلك الحين.
انفتحت كوة مهمة في الموقف الأميركي الإسرائيلي الرافض. فبعد فشل مفاوضات كامب دايفيد سنة 2000، اعترف الرئيس بيل كلينتون حينها بأن الشروط التي اقترحها هو وإسرائيل كانت غير مقبولة من الفلسطينيين. وفي كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام، اقترح «معاييره»: لم تكن محددة بوضوح ولكن تحقيقها بدا أقرب إلى الواقع. ثم أعلن أن الطرفين قد قبلا بالمعايير فيما عبّرا عن تحفظات.
التقى المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون في طابا في مصر في كانون الثاني/ يناير 2001 من أجل حلّ الخلافات، وكانوا يحرزون تقدماً كبيراً. وفي مؤتمرهم الصحافي الأخير، أعلنوا أنهم كانوا سيتوصلون على الأرجح إلى حلّ كامل مع مزيد من الوقت. لكن إسرائيل أوقفت المفاوضات قبل الأوان، ووُضع حدّ لكل تقدم رسمي رغم استمرار محادثات غير رسمية على مستوى رفيع، قادت إلى اتفاقية جنيف التي رفضتها إسرائيل وتجاهلتها الولايات المتحدة.
حدثت أمور كثيرة منذ ذلك الحين، ولكن تسوية وفق تلك الخطوط لا تزال قابلة للتحقيق، طبعاً إذا كانت واشنطن، من جديد، مستعدة للقبول بها. ولسوء الحظ، قليلة هي الدلائل التي تشير إلى ذلك.
حيكت أساطير وحكايات كثيرة عن هذا الملف بكامله، ولكن الوقائع الأساسية واضحة كفاية وموثقة جيداً.
فقد كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان ترادفياً من أجل تمديد الاحتلال وتعميقه. عام 2005، أدركت حكومة أرييل شارون أن لا فائدة تُرجى من دعم بضعة آلاف من مستوطنين إسرائيليين في غزة كانوا يتطلبون موارد مهمة وحماية عديد مهمّ من الجيش الإسرائيلي، فقررت أن تنقلهم إلى الضفة الغربية ومرتفعات الجولان، والمنطقتان أثمن بالنسبة إليها. لكن بدلاً من تنفيذ العملية من دون لف ودوران، قررت الحكومة أن تخرج مسرحية «صدمة وطنية» كررت عملياً المهزلة التي رافقت الانسحاب من صحراء سيناء بعد اتفاق كامب دايفيد 1978ــــ79. وفي كل حال، سمح الانسحاب بإطلاق صرخة «لن يتكرر ذلك مجدداً أبداً»، ما يعني عملياً: لا نستطيع التخلي عن شبر واحد من الأراضي الفلسطينية التي نريد أن نستولي عليها، بما يمثّل خرقاً للقانون الدولي. وكانت هذه المهزلة فعالة للغاية في الغرب، مع أن معلّقين إسرائيليين فطناء، ومن بينهم عالم الاجتماع الراحل باروش كيمرلنج، سخروا منها.
الرئيس الأميركي باراك أوباما (أ ب)الرئيس الأميركي باراك أوباما (أ ب)بعد هذا الانسحاب الشكلي من قطاع غزة، لم تتخلَّ إسرائيل فعلياً قط عن سيطرتها الكاملة على القطاع الذي غالباً ما يوصف بـ«أكبر سجن في العالم». وفي كانون الثاني/ يناير 2006، بعد انقضاء أشهر قليلة على الانسحاب، أجرى الفلسطينيون انتخابات اعتبرها مراقبون دوليون حرة وعادلة. ولكن الفلسطينيين صوّتوا «في الاتجاه الخاطئ» عبر انتخابهم حماس. ففي الحال، كثفت الولايات المتحدة وإسرائيل هجماتهما على الغزاويين كعقاب على الإثم الذي اقترفوه. ولم تُحجب الوقائع ولا الأسباب؛ بل نُشرت علناً مع تعقيب يبجل تفاني واشنطن الصادق للديموقراطية. وما كان من الاعتداء الإسرائيلي المدعوم أميركياً على غزة إلا أن تكثف منذ ذلك الحين من خلال تضييق الخناق عليها على المستويين العنفي والاقتصادي، خناق أخذ يزداد وحشية.
أما في الضفة الغربية، ودائماً مع دعم أميركي لا يتزعزع، كانت إسرائيل تنفذ برامج طويلة الأمد من أجل الاستيلاء على أرض الفلسطينيين ومواردهم، ورميهم في كنتونات لا تتوافر فيها أسباب الحياة وبعيدة عن النظر في معظم الأحيان. ويشير المعلقون الإسرائيليون صراحةً إلى تلك الأهداف بأنها «استعمارية جديدة». أرييل شارون، وهو المهندس الرئيسي لبرامج الاستيطان هذه، سمّى هذه الكنتونات «بانتوستان»، مع أن المصطلح مضلل: فجنوب أفريقيا كانت بحاجة إلى أغلبية القوى العاملة السوداء، فيما ستسعد إسرائيل إذا اختفى الفلسطينيون، وتُوجَّه سياساتها لتحقيق تلك الغاية.
محاصرة غزة براً وبحراً
ما فصْل غزة عن الضفة الغربية إلا خطوة نحو تجميع الناس في كنتونات ونسف لكل الآمال ببقاء وطني فلسطيني، فقد طوى النسيان تلك الآمال كلها تقريباً، وهي شناعة يجب ألا نشارك فيها بموافقتنا الضمنية. كتبت الصحافية الإسرائيلية أميرة هاس، وهي إحدى أبرز المتخصصين في غزة، تقول:
«إن القيود المكبِّلة للتحرك الفلسطيني التي فرضتها إسرائيل في كانون الثاني/يناير 1991 قلبت عملية أُطلقت في حزيران/يونيو 1967. ففي ذلك الحين، وللمرة الأولى منذ 1948، عاش قسم كبير من الشعب الفلسطيني من جديد في أرض بلد واحد مفتوحة أجزاؤه بعضها على بعض. بلد كان محتلاً طبعاً ولكن غير مجزّأ… ويُعتبَر فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية فصلاً كاملاً أحد أهم إنجازات السياسة الإسرائيلية التي يتمثل هدفها الأساسي بمنع قيام حلّ يستند إلى قرارات وتفاهمات دولية بغية إملاء تسوية ترتكز على التفوق العسكري الإسرائيلي بدلاً من ذلك…
«جلّ ما قامت به إسرائيل منذ كانون الثاني/يناير 1991 هو أنها أتمت عملية الفصل بيروقراطياً ولوجستياً: ليس بين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية وإخوانهم في إسرائيل فحسب، بل أيضاً بين الفلسطينيين من سكان القدس وأولئك الموجودين في سائر الأراضي، وبين الغزاويين وسكان الضفة الغربية/سكان القدس. أما اليهود فيعيشون في قطعة الأرض نفسها وينعمون بنظام منفصل ومتفوق من الامتيازات والقوانين والخدمات والبنى التحتية المادية وحرية الحركة» (…)…
لا يمكن التشديد غالباً على الواقع القائل إن إسرائيل لم تملك حجة مقنعة لشن الاعتداء الذي قامت به على غزة في 2008ـــ9، معتمدة على دعم كامل من الولايات المتحدة ومستخدمة أسلحة أميركية بصورة غير مشروعة. لا بل إن رأياً يحظى بإجماع شبه عالمي يؤكد العكس، زاعماً أن إسرائيل كانت تتصرف دفاعاً عن النفس، لكن هذا الرأي لا يستند إلى الوقائع بتاتاً على ضوء رفض إسرائيل القاطع الوسائل السلمية التي كانت متوافرة، كما تعرف هي وشريكتها في الجرم، الولايات المتحدة، حق المعرفة. إذا وُضع هذا الأمر جانباً، إن الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة هو بحد ذاته عمل حربي، كما تعترف بذلك حتماً إسرائيل من بين كل الدول، هي التي بررت مراراً وتكراراً شن حروب كبيرة بسبب قيود جزئية كانت مفروضة على قدرتها على بلوغ العالم الخارجي، مع أن لا واقع يداني ولو من بعيد ما تفرضه منذ أمد طويل على غزة.
أحد العناصر الأساسية في الحصار الإجرامي الذي تفرضه إسرائيل، وقلما يُبلغ عنه، هو حصار السفن. وينقل بيتر بومون من غزة أن «حدود غزة على شاطئها الساحلي يرسمها سياج من نوع آخر، إذ يتكوّن من سفن مدفعية وما تخلفه وراءها من آثار كبيرة عندما تشق المياه وهي تنطلق بسرعة لتسبق قوارب الصيد الفلسطينية وتمنعها من الخروج من منطقة تحددها السفن الحربية». وفقاً لتقارير واردة من المكان، ضُيِّق الحصار البحري بثبات منذ عام 2000. وكانت سفن مدفعية إسرائيلية تقتاد قوارب الصيد خارج المياه الإقليمية نحو الشاطئ ، وفي معظم الأحيان بطريقة عنيفة ومن دون إنذار مسبق، ما يسبب وقوع العديد من الضحايا. ونتيجة لعمليات السفن تلك، انهار فعلياً قطاع صيد السمك في غزة؛ فالصيد مستحيل قرب الشاطئ بسبب التلوث الذي تسببه الاعتداءات الإسرائيلية المنتظمة، بما فيها تدمير محطات لتوليد الطاقة ومراكز تصريف المياه. وقد بدأت تلك الاعتداءات التي تمارسها السفن الإسرائيلية بعد مدة قصيرة من اكتشاف شركة بريتيش غاز British Gas البريطانية ما بدا أنها حقول نفط طبيعية مهمة في مياه غزة الإقليمية. وتشير التقارير التي تنشر عن هذا القطاع الاقتصادي إلى أن إسرائيل بدأت تستملك هذه الموارد الغزاوية لاستخدامها الخاص، كجزء من تعهدها بتحويل اقتصادها إلى اقتصاد يقوم على الغاز الطبيعي. ويذكر مصدر مطّلع على هذا القطاع:
«لقد أعطى وزير المال الإسرائيلي شركة إسرائيل إيليكتريك كورب Israel Electric Corp. الإذن بشراء كميات من الغاز الطبيعي من شركة بريتيش غاز أكبر من تلك التي جرت الموافقة عليها أساساً، حسب مصادر حكومية إسرائيلية قالت إن هذه المؤسسة المملوكة من الدولة ستكون قادرة على التفاوض بشأن ما لا يقل عن 1.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المستخرج من الحقل البحري الواقع على مسافة من الساحل المتوسطي لقطاع غزة الذي يخضع للسيطرة الفلسطينية.
في السنة الماضية، وافقت الحكومة الإسرائيلية على شراء شركة إسرائيل إيليكتريك كورب 800 مليون متر مكعب من الغاز من هذا الحقل… وفي الفترة الأخيرة، غيرت الحكومة الإسرائيلية سياستها، وقررت أن المؤسسة المملوكة من الدولة تستطيع شراء كل كمية الغاز المستخرج من حقل غزة البحري. وكانت الحكومة قد قالت في السابق إن الشركة المذكورة تستطيع شراء نصف الكمية الكاملة ويشتري منتجو طاقة خاصون الباقي».
لا ريب في أن السلطات الأميركية على اطلاع على عملية نهب ما يمكن أن يصبح مصدراً رئيساً للدخل في غزة. ومن المنطقي أن يعتقد المرء أن النية من وراء استملاك هذه الموارد المحدودة، إما من جانب إسرائيل بمفردها أو مع السلطة الفلسطينية المتعاونة، هو الدافع إلى منع قوارب الصيد الغزاوية من دخول مياه غزة الإقليمية.
لو كان أوباما جدياً في معارضة التوسع الاستيطاني، لأمكنه بسهولة تقليص المساعدات الأميركية
وثمة سوابق منوِّرة. ففي 1989، وقّع وزير الخارجية الأسترالي غاريث إيفانز معاهدة مع نظيره الإندونيسي علي ألاتاس تُمنح بموجبها أستراليا حقوقاً على احتياطيات النفط الكبيرة في «إقليم تيمور الشرقية الإندونيسي». واتفاقية تيمور الإندونيسية ــــ الأسترالية، التي لم تقدم حتى الفُتات للشعب الذي يُنهب نفطه، هي «الاتفاقية القانونية الوحيدة في أي مكان في العالم التي تعترف فعلياً بحق إندونيسيا بحكم تيمور الشرقية»، بحسب ما نقلت الصحافة الأسترالية. وعندما سئل إيفانز عن استعداده للاعتراف بأرض استولت عليها إندونيسيا بالقوة ولسرقة المورد الوحيد للأرض المغتصبة التي تعرضت لمذبحة أشبه بإبادة جماعية على يد المجتاح الإندونيسي وبدعم قوي من أستراليا (مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبعض الدول الأخرى)، شرح أنه «ما من موجب قانوني ملزم يمنع من الاعتراف باكتساب أرض مُكتسبة بالقوة»، وأضاف أن «العالم مكان غير عادل بتاتاً يمتلئ بأمثلة عن اكتساب الأراضي بالقوة».
وبالتالي لن تواجه إسرائيل مشكلة في السير على هذه الخطى في غزة.
بعد بضعة أعوام، أصبح إيفانز الشخصية الأبرز في الحملة الهادفة إلى إدراج مفهوم «مسؤولية الحماية» في القانون الدولي، مفهوم تتمثل الغاية منه بإنشاء موجب دولي يقضي بحماية الشعوب من الجرائم الخطيرة. وقد ألّف إيفانز كتاباً مهماً عن هذا الموضوع، كما شارك في رئاسة اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول التي أصدرت ما يُعتبر الوثيقة الأساسية لمفهوم مسؤولية الحماية.
في مقالة مخصصة لهذا «الجهد المثالي الهادف إلى إنشاء مبدأ جديد في العمل الإنساني»، نشرت مجلة «إيكونوميست» اللندنية مقالة عن إيفانز و«مطالبته الجسورة ولكن الشغوفة بتعبير من كلمتين قد أصبح (بفضل جهوده إلى حد كبير) يمثّل جزءاً من اللغة الدبلوماسية: مسؤولية الحماية». وأرفقت هذه المقالة بصورة لإيفانز مع تعليق عليها يقول «إيفانز: شغف بحماية الآخرين امتدّ العمر بطوله». ويرى القارئ في الصورة إيفانز يضغط بيده على جبينه إشارة إلى اليأس أمام الصعوبات التي يواجهها جهده المثالي هذا. لقد اختارت المجلة ألا تنشر صورة أخرى تُتداول على نطاق واسع في أستراليا تمثل إيفانز وألاتاس يشبكان أيديهما بحماسة، فيما يشربان نخب اتفاقية تيمور التي كانا قد وقعاها للتو. ومع أن الغزاويين «شعب محمي» في ظل القانون الدولي، إلا أنهم غير مشمولين بهذا الاختصاص القضائي المسمى «مسؤولية الحماية»، لذلك هم ينضمون إلى سواهم من البؤساء بحسب حكمة ثيوسيداديس التي تقول إن الأقوياء يتصرفون على هواهم، والضعفاء يتألمون كما ينبغي عليهم، حكمة تصحّ بدقتها المعهودة.
أوباما والمستوطنات
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (أ ف ب)رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (أ ف ب)إن أنواع القيود على النشاط الاقتصادي التي استُخدمت لتدمير غزة كانت تطبق في الضفة الغربية منذ أمد بعيد أيضاً، ولكن بآثار خلّفت أضراراً أقل على الحياة والاقتصاد. ويشير البنك الدولي إلى أن إسرائيل أقامت «نظاماً مغلقاً معقداً يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى مناطق كبيرة في الضفة الغربية… فبقي الاقتصاد الفلسطيني في حال ركود سبّبها إلى حد بعيد الانكماش الحاد في غزة والقيود الإسرائيلية المستمرة على التجارة والنشاط الفلسطينيين في الضفة الغربية».
والبنك الدولي «أشار إلى الحواجز ونقاط التفتيش الإسرائيلية التي تعيق التجارة والسفر، كما إلى القيود المفروضة على عمليات البناء الفلسطينية في الضفة الغربية حيث تمسك بزمام الأمور حكومة الرئيس الفلسطيني محمود عباس المدعومة من الغرب». وإسرائيل تسمح ــــ وتشجع طبعاً ــــ بحياة مليئة بالامتيازات تؤمَّن إلى النخب في رام الله وأحياناً في أمكنة أخرى، معتمدة إلى حد بعيد على التمويل الأوروبي، وهي سمة تقليدية من سمات الاستعمار والاستعمار الجديد.
يمثّل كل هذا ما يسميه الناشط الإسرائيلي جيف هالبر «مصفوفة تحكم» غايتها إخضاع الشعب المستعمَر. وتهدف هذه البرامج المعتمدة بمنهجية على امتداد أكثر من 40 عاماً إلى تنفيذ التوصية التي أطلقها وزير الدفاع موشى ديان لزملائه بعد احتلال إسرائيل الأراضي عام 1967 بوقت قصير، ومفادها أنه يجب علينا أن نقول للفلسطينيين في الأراضي: «ليس لدينا أي حل، ستستمرون بالعيش عيشة الكلاب؛ من يرغب في الرحيل فليرحل، وسوف نرى إلامَ تؤدي هذه العملية».
بالانتقال إلى النقطة الشائكة الثانية في النزاع، وهي المستوطنات، ثمة خلاف طبعاً ولكنه على الأرجح ليس بالمأسوية التي يُصوَّر بها. فقد جسّد موقفَ واشنطن بقوة تصريحُ هيلاري كلينتون الذي رفض «استثناءات النمو الطبيعي» في السياسة المعارضة قيام مستوطنات جديدة. أما بنيامين نتنياهو، فشدّد مع شيمون بيريز، وفي الواقع مع كل الأطياف السياسية الإسرائيلية، على السماح بـ«نمو طبيعي» ضمن المناطق التي تنوي إسرائيل ضمها، ويتذمرون من أن الولايات المتحدة تتراجع عن الإذن الذي أعطاه جورج دبليو بوش بمثل هذا التوسع ضمن «رؤيته» لدولة فلسطينية.
لكن أعضاء حكومة نتنياهو تخطوا هذه المسألة. فقد أعلن وزير النقل يسرائيل كيتس أن «الحكومة الإسرائيلية الحالية لن تقبل بأي شكل من الأشكال تجميد النشاط الاستيطاني الشرعي في جوديا وسماريا». ولفظة «شرعي» في اللغة الأميركية ــــ الإسرائيلية تعني «غير شرعي ولكن حكومة إسرائيل تسمح به بغمزة من واشنطن». في هذا الاستخدام، توصف البؤر الاستيطانية غير المسموح بها بأنها «غير شرعية»، مع أنها، بغض النظر عن الإملاءات التي يفرضها القوي بقوته، ليست أقل شرعية من المستوطنات التي سُمح لإسرائيل ببنائها في ظل رؤية «بوش» وانصياع أوباما المريب لها.
صيغة «الموقف الخالي من المعنى» التي يعتمدها الثنائي أوباما ــــ كلينتون ليست بجديدة. فهي تكرر ما ورد في مسودة خارطة الطريق 2003، التي تنص على أنه في المرحلة الأولى، «تجمد إسرائيل كل عمل استيطاني (بما فيه نمو المستوطنات الطبيعي)». يقبل كل الأطراف رسمياً خارطة الطريق (التي عُدلت لإسقاط جملة «النمو الطبيعي»)، متغاضين دوماً عن الواقع القائل إن إسرائيل، بدعم الولايات المتحدة، أضافت مرة واحدة 14 «تحفظاً» جعلتها متعذرة التطبيق.
لو كان أوباما جدياً فعلياً في معارضة التوسع الاستيطاني، لأمكنه بسهولة الانطلاق بإجراءات عملية، مثل تقليص المساعدات الأميركية عبر خفض المبلغ المخصص لها. ولن يمثّل ذلك بتاتاً خطوة جذرية أو جسورة، فقد أقدمت على ذلك إدارة بوش الأول (إذ خفضت ضمانات القروض)، ولكن بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، ترك الرئيس كلينتون الحسابات لحكومة إسرائيل. وما لا يدعو إلى العجب أن «أي تغيير في الإنفاقات المتدفقة إلى المستوطنات» لم يحصل، كما نقلت الصحافة الإسرائيلية. وخلص التقرير الصحافي إلى القول إن «رابين سوف يستمر في دعم المستوطنات مالياً. وإن الأميركيين سيتفهمون».
أعلم المسؤولون في إدارة أوباما الصحافة أن الإجراءات التي اتخذتها إدارة بوش الأول ليست «موضع نقاش»، وأن الضغوط سوف تكون «رمزية إلى حد كبير». باختصار، إن أوباما يتفهم الأمر، تماماً كما تفهمه كلينتون وبوش الثاني.
أصحاب الرؤى الأميركيّون
في أفضل الأحوال، يمثّل توسع المستوطنات قضية جانبية، مثل قضية «البؤر الاستيطانية غير الشرعية»، لا سيما تلك التي لم تسمح بها حكومة إسرائيل. والتركيز على هذه المسائل يشتت الانتباه عن الواقع القائل إنه ما من «بؤر استيطانية شرعية»، وإن المستوطنات الموجودة هي المشكلة الأولى التي يجب مواجهتها.
تذكر الصحافة الأميركية أن «تجميداً جزئياً طُبق لسنوات عدة، ولكن المستوطنين وجدوا طرقاً للالتفاف على هذه القيود… فقد تباطأت وتيرة البناء في المستوطنات ولكنها لم تتوقف أبداً، وتتابعت بمعدل سنوي تراوح بين 1500 و2000 وحدة على امتداد السنوات الثلاث الماضية. إذا استمر البناء بالمعدل الذي سجله عام 2008، فسوف ينتهي بناء الـ46500 وحدة التي قد جرت الموافقة عليها في غضون 20 سنة تقريباً… وإذا بنت إسرائيل كل الوحدات السكنية التي سبق أن جرت الموافقة عليها في الخطة الشاملة للمستوطنات على الصعيد الوطني، فسوف تضاعف تقريباً عدد منازل المستوطنين في الضفة الغربية». وحركة السلام الآن، التي تراقب النشاطات الاستيطانية، تقدّر أن أكبر مستوطنتين سيتضاعف حجمهما هما أرييل ومالي أدوميم اللتان بُنيتا خصوصاً في خلال سنوات أوسلو في المواقع الاستراتيجية التي تقسم الضفة الغربية إلى كنتونات.
ويشير أكيفا إلدار، وهو أبرز الصحافيين الدبلوماسيين في إسرائيل، إلى أن «نمو السكان الطبيعي» هو أسطورة إلى حد كبير، ذاكراً دراسات ديموغرافية قام بها العقيد شاوول أرييلي، نائب السكرتير العسكري لإيهود باراك. فالمستوطنات تنمو بثبات إلى حد بعيد بسبب المهاجرين الإسرائيليين، ما يمثّل خرقاً لاتفاقية جنيف، وبمساعدة إعانات مالية ضخمة. ويخالف القسم الأكبر من النمو مباشرة قرارات حكومية رسمية، ولكنه يُنفذ بإذن من الحكومة، ومن باراك تحديداً الذي يُعتبر حمامة في المشهد السياسي الإسرائيلي.
يسخر الصحافي جاك دييل من “الحلم الفلسطيني النائم منذ أمد بعيد” الذي أيقظه الرئيس عباس “بأن الولايات المتحدة سوف تجبر إسرائيل ببساطة على تقديم تنازلات مهمة، سواء وافقت حكومتها الديموقراطية أو لم توافق”. وهو لا يشرح لمَ رفْض المشاركة في توسع إسرائيل غير الشرعي – وهو سوف يجبر إسرائيل على تقديم تنازلات مهمة إذا كان جدياً – سوف يشكل تدخلاً غير ملائم في ديموقراطية إسرائيل.
بالعودة إلى الواقع، إن كل هذه النقاشات تبتعد عن أهم قضية بشأن المستوطنات: ما أقامته إسرائيل والولايات المتحدة في الضفة الغربية. فإغفال ذكر هذه المسألة يقرّ ضمنياً أن برامج الاستيطان غير الشرعي المنفذة هي إلى حد ما مقبولة (إذا وُضعت جانباً مرتفعات الجولان التي ضُمت بما يشكل انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن)- وكأن “رؤية” بوش، التي يقبلها أوباما كما يبدو، تنتقل من دعم ضمني لانتهاكات القانون هذه إلى دعم علني له. فما قد أُنشئ كاف لضمان عدم توفر شروط لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة قادرة على تقرير مصيرها بنفسها في المستقبل. وبالتالي، تدلّ كل المؤشرات على أنه حتى ولو وُضع حدّ لـ”النمو الطبيعي”، وهو افتراض مستبعد، فالموقف الأميركي الإسرائيلي الرافض سوف يستمر، ما يمنع قيام توافق دولي كما في السابق.
في وقت لاحق، أعلن نتنياهو تعليق عمليات تشييد أي مبنى جديد لمدة 10 أشهر تجميداً تضمن العديد من الاستثناءات ولم يشمل بتاتاً القدس الكبرى حيث تستمر عمليات مصادرة الأملاك في المناطق العربية وتشييد الأبنية للمستوطنين اليهود بوتيرة سريعة. وقد أثنت كلينتون على هذه التنازلات “غير المسبوقة” عن عمليات البناء (غير الشرعي)، ما أثار الغضب والسخرية في أرجاء كبيرة من العالم.
قد يختلف الأمر لو أن عمليات “تبادل أراض” قانونية كانت موضع دراسة، وهو حلّ تم الاقتراب منه في طابا، وعبرت عنه بشكل أوضح معاهدة جنيف التي تم التوصل إليها ضمن مفاوضات إسرائيلية فلسطينية جرت على مستوى رفيع بشكل غير رسمي. قُدمت المعاهدة في جنيف في تشرين الأول/ أوكتوبر 2003، فرحبت بها دول كثيرة، ورفضتها إسرائيل وتجاهلتها الولايات المتحدة.
الانحياز الأميركي
إن الخطاب الذي ألقاه أوباما في القاهرة في 4 حزيران/ يونيو 2009 وتوجه به إلى العالم الإسلامي، لم يحد قيد أنملة عن أسلوبه المتقن، أسلوب “اللوح الأبيض”- مع إضافة قليل من الجوهر إليه، ولكنه قدمه بشكل جذاب يسمح للمستمعين بأن يكتبوا على اللوح ما أرادوا سماعه. وقد أدركت محطة «سي إن إن» روحه من خلال عنونتها أحد التقارير “أوباما يتطلع إلى ملامسة روح العالم الإسلامي”. وأعلن أوباما عن أهداف خطابه في مقابلة مع توماس فريدمان، فقال: “لدينا دعابة تتردد في أرجاء البيت الأبيض، سوف نستمر بقول الحقيقة حتى لا تعود المسألة فعالة، وما من مكان يُعتبر فيه قول الحقيقة مهماً أكثر من الشرق الأوسط”. إن التزام البيت الأبيض لأكثر من مرحَّب به، ولكن من المفيد أن يرى المرء كيف يُترجَم عملياً.
حذّر أوباما مستمعيه من إنه من السهل “توجيه أصابع الاتهام… ولكن إذا نظرنا إلى هذا النزاع من جانب واحد فقط، فسوف نعمى عن رؤية الحقيقة: الحل الوحيد هو أن تتحقق تطلعات الطرفين من خلال إقامة دولتين، حيث يعيش كلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين بسلام وأمن”.
عندما يستخدم سياسيّ لفظة «العامّة»، يجب أن نستجمع قوانا استعداداً لتلقي الخديعة
بالانتقال من حديث أوباما- فريدمان المتعلق بالحقيقة للحقيقة، ثمة طرف ثالث يؤدي دوراً حاسماً في كل هذا: الولايات المتحدة. ولكن ذاك المشارك في النزاع أغفله أوباما. ويُفهم الإغفال بأنه طبيعي ومناسب، وبالتالي لا يُذكر: فقد عُنوِن العمود الذي كتبه فريدمان “خطاب أوباما موجه إلى كلٍّ من العرب والإسرائيليين”، كما حملت مقالات أخرى عناوين مشابهة. يمكن فهم التصرف على أساس المبدأ العقائدي ومفاده أن نيات الحكومة الأميركية حسنة في الأساس، لا بل نبيلة، مع أنها ترتكب أخطاء أحياناً. وفي عالم التصورات الخيالية المغرية، سعت واشنطن دوماً إلى أن تكون وسيطاً نزيهاً، إذ تتوق إلى دفع السلام والعدالة قدماً. وتتفوق العقيدة على الحقيقة التي لا يبرز منها إلا طيف صغير في الخطاب أو في التغطية واسعة النطاق له. فقد ردّد أوباما من جديد صدى “رؤية” بوش القائلة بحل الدولتين، من دون أن يقول ما الذي قصده بجملة “دولة فلسطينية”. لكن نياته توضحت ليس عبر الإغفالات المهمة التي ذُكرت أعلاه فحسب، ولكن أيضاً من خلال انتقاده الصريح الأوحد لإسرائيل: “لا تقبل الولايات المتحدة بشرعية عملية بناء المستوطنات المستمرة. فبناء المستوطنات هذا يشكل خرقاً لاتفاقيات سابقة وينسف الجهود الهادفة إلى تحقيق السلام. آن الوقت لأن تتوقف عمليات بناء المستوطنات هذه”. أي أن إسرائيل يجب أن تتكيف والمرحلة الأولى من خارطة الطريق التي وضعت العام 2003 ورفضتها إسرائيل في الحال بدعم ضمني من الولايات المتحدة، كما ذُكر- مع أن الحقيقة هي أن أوباما قد استبعد حتى خطوات من الاقتراح المختلف الذي تقدم به بوش الأول بالتوقف عن المشاركة في هذه الجرائم.
اللفظتان المهمتان هما “شرعية” و”مستمرة”. فمن خلال إغفال أوباما ما أغفله، يعني أنه يقبل رؤية بوش: فالمستوطنات ومشاريع البنية التحتية الشاسعة القائمة هي “شرعية”.
وبما أن أوباما دائماً غير منحاز، كان لديه أيضاً نصيحة يوجهها إلى الدول العربية: “يجب عليها أن تعترف بأن مبادرة السلام العربية شكلت بداية مهمة، ولكنها لم تشكل نهاية مسؤولياتها”. ولكن من الواضح أنها لا تستطيع أن تشكل “بداية” مهمة إذا استمر أوباما في رفض مبادئها الجوهرية: تطبيق ما هو موضع إجماع عالمي. ولكن ذلك ليس من “مسؤولية” واشنطن طبعاً حسب رؤية أوباما؛ لا أُعطي تفسيرٌ ولا دُوِّنت ملاحظة.
في موضوع الديموقراطية، قال أوباما إننا “لا نفترض أن تكون نتائج الانتخابات السلمية هي النتائج التي نختارها”- كما في كانون الثاني/ يناير 2006، عندما اختارت واشنطن النتيجة بانتقام تحوّل في الحال إلى عقاب قاس للفلسطينيين لأن نتائج انتخابات سلمية لم ترق لها، وكل ذلك مع موافقة أوباما الظاهرة، إذا أراد المرء أن يحكم على كلماته قبل تولي منصبه وعلى أعماله بعد ذلك.
لقد امتنع أوباما بتهذيب عن التعليق على مضيفه الرئيس مبارك، وهو أحد أكثر الديكتاتوريين بطشاً في المنطقة، مع أنه امتلك بعض الكلمات المستنيرة عنه. ففيما كان على وشك استقلال طائرة إلى السعودية ومصر، الدولتين العربيتين “المعتدلتين”، أشار أوباما إلى أنه فيما سيذكر القلق الأميركي من وضع حقوق الإنسان في مصر، لن يتحدى مبارك بقوة لأنه يشكل “قوة استقرار وخير” في الشرق الأوسط… ذكر أوباما أنه لا ينظر إلى مبارك كحاكم فاشستي. وقال “كلا، أميل إلى عدم استخدام نعوت تصنيفية للعامّة”. وأشار الرئيس إلى أنه جرى انتقاد “للطريقة التي تعمل فيها السياسة في مصر”، ولكنه أردف أيضاً أن مبارك كان “حليفاً مطلقاً للولايات المتحدة من نواح عدة”.
عندما يستخدم سياسيّ لفظة “العامّة”، يجب أن نستجمع قوانا استعداداً لتلقي الخديعة، أو الأسوأ من الخديعة، التي ستتكشف. فخارج هذا السياق، هناك لفظة “الشعب” أو أحياناً “السذج”، واستخدام نعوت تصنيفية لهم أمر جدير بالتقدير. لكن أوباما محق في عدم استعمال لفظة “فاشستي”، فهي رقيقة للغاية ليُنعت بها صديقه…
(عن موقع Tomdispatch.com ــ ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)
* أستاذ فخري في قسم الألسنيات والفلسفة في معهد مساتشوستس للتكنولوجيا. يلقي غداً محاضرة عند السادسة مساءً في قصر الأونيسكو في بيروت، تحت عنوان «السياسة الأميركية في الشرق الأوسط»
الأخبار