الهزيمةُ والعقل المأزوم: سلوك الشخصية العربية… هو الجانب الأهم في أسباب الهزيمة
وهيب أيوب
في الثامنة وخمس وأربعين دقيقة من صباح الخامس من حزيران عام 1967، وبينما كان سلاح الجو الإسرائيلي يقوم بتدمير الطائرات المصرية الراقدة في مطاراتها، أجنحتها تعانق بعضها بعضاً، كأنها قد هُيئت لقدرها، كان المذيع المصري الشهير أحمد سعيد يذيع البيان تلو الآخر عن تساقط الطائرات الإسرائيلية كالذباب، وأن القوات المصرية تسيطر على الوضع تماماً، وأن النصر قاب قوسين أو أدنى، وتل أبيب ستصبح قريباً على مرمى حجر من القوات المصرية التي تلاحق العدو، ولم يتبقَ سوى البحث في مصير اليهود، فهل سيتم إلقاءهم بالبحر، أم أن العفو عند المقدرة ومن شِيم الكرام، والاكتفاء بإعادتهم من حيث أتوا؟.
ولعل دور أحمد سعيد، كان مجرّد تلقّي البيانات العسكرية من تسلسل القيادات العسكرية المصرية، على رأسهم عبد الحكيم عامر قائد الجيش ووزير دفاعه شمس بدران، وما عليه هو سوى تبهيرها قليلاً وإشاعة الحماسة الوطنية لدى الشعب المصري والعربي وتهيئتهم للاحتفال بالنصر المُبين.
خلال ذلك كان العدو يقوم باستكمال ذبح الطائرات المصرية وهي جاثمة بلا حِراك على باقي المطارات الأخُرى في أحدى عشرة قاعدة جوية. ولم يتوقف أحمد سعيد عن تلقي البيانات الكاذبة وإذاعتها حتى تم التأكد من تدمير سلاح الجو المصري وملاحقة جيشه فوق رمال الصحراء مُتعطشاً لشربة ماء.
ويقول المُفكِر المصري “السيد يسين” في كتابه “الشخصية العربية”، إن قائد سلاح الجو الإسرائيلي مردخاي هود كان من ضمن خطته لتدمير سلاح الجو المصري في ضربة خاطفة، تعتمد على ذهنية وسلوك الشخصية العربية التي يعتريها الخوف من إبلاغ الحقيقة، لهذا كانت البيانات الكاذبة التي يتلقاها أحمد سعيد ويذيعها، تتناقض تماماً عمّا يجري على الأرض وفي السماء.
وكانت دقائق الكذب والخوف الأولى من إبلاغ الحقيقة، كافية لتدمير ما تبقّى من الطائرات والمطارات المصرية في أقل من ساعتين، وهو ما أخذه بالحسبان واضع الخطة مردخاي هود.
مختصر القول، إن الكذب والنفاق والمخاتلة والمداهنة والمسايرة والتملق، جميعها تصريفات لفعل الخوف والقمع والاستبداد ومن مُشتقاتهم، كما الجبنة واللبنة والزبدة من مُشتقات الحليب.
ولو تصرّفت القيادة المصرية على غير ذلك النحو، لأمكن إنقاذ الطائرات على المطارات الأخرى، بحيث يتم تنبيهها وإقلاعها شرقاً حتى السودان، وما كان أمكن تدمير الجيش المصري وهو مكشوف دون غطاء جوي في الصحراء.
ليس هذا فحسب، فهذا السلوك أسهم باستدارة الطائرات الإسرائيلية على الجبهتين الأردنية والسورية وإيقاع الهزيمة فيهم جميعاً، وتكرر ذات السلوك على الجبهة السورية، بحيث تم إعلان سقوط القنيطرة قبل أن يصِلها الجيش الإسرائيلي بكيلومترات عديدة، وتلقى الجنود أوامر بالانسحاب كيفياً، وسقط الجولان بساعات، رغم كل ما أنفق عليه من مئات ملايين الدولارات في إقامة التحصينات المنيعة والاستحكامات؟!
وخلال أقل من ستة أيام يتم إلحاق الهزيمة بثلاثة جيوش عربية، واحتلال أجزاء من أراضيها (سيناء والضفة الغربية وغزة والجولان)، وإنزال هزيمة نفسية مروِّعة بالشعوب العربية قاطبة. والتي سوف تتلوها الهزائم السياسية التي ما زلنا نعيشها حتى اليوم.
وكثرت ما بعد الهزيمة التحليلات العسكرية والإستراتيجية في تفسير أسبابها، مع العلم أنه لم يكن لعنصر المفاجأة دور استراتيجي في الحرب، فعلى حد قول حسنين هيكل إن عبد الناصر كان يتوقع الحرب مئة بالمائة خلال 72 ساعة خاصة بعد إغلاقه مضائق تيران على البحر الأحمر. إلاّ أن الجانب الأهم لأسباب الهزيمة تم إغفاله من معظم المحللين السياسيين والعسكريين.
وتنطّح بعض المُفتين العرب ومنهم الأردني ذاك الزمان، لردَّ أسباب الهزيمة لقلة إيمان العرب بدينهم وابتعادهم عن الله، فهزمهم ليمتحن الإيمان فيهم! “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”!!.
ويتكرّر مشهد الإيمان والفكر الغيبي ولكن معكوساً هذه المرّة، أثناء حرب أكتوبر 73 ، بحيث يُصرّح شيخ الأزهر في مصر، عبد الحليم محمود، أن النصر تحقّق بفضل مشاركة ملائكة الله في الحرب، إذ كانوا بلباسهم الأبيض يغارون على خطوط بارليف ليحطموها ثم يتقدّم الجنود المصريون لاحتلالها!!
ثم توالت أخيراً الانتصارات الإلهية في لبنان وغزّة مع “حزب الله” و “حماس”، وكالعادة مع مُدن مُدمّرة وآلاف القتلى والجرحى وتحويل شعب بأكمله إلى متسوّلين..!
إلاّ أن التحليل الأهم في تقدير الكثيرين يعود بالأساس لما طرحه المفكر صادق جلال العظم في كتابين له، أولهم “النقد الذاتي بعد الهزيمة” عام 1968، ثم “نقد الفكر الديني” عام 1969، وردّ أسباب الهزيمة للتركيبة الاجتماعية والنفسية والذهنية للمجتمع العربي، وسيطرة الفكر الديني الغيبي عليه. فالاستهتار وقلة الانضباط والمبالغة والتبعية والحماسة غير المدروسة والادعاء الأجوف، ثم عدم الاعتراف بالواقع، والخوف من الفضيحة، جميعها من صفات الشخصية الفهلوية العربية التي أسهم العظم بشرحها في كتابه المذكور عام 68.
وفي تقديري، أن أسباب الهزائم جميعاً منذ عام 48 على الأقل، تحمل في غالبيتها ذات الأسباب المطروحة في كتابي صادق جلال العظم، والتي ما زالت قائمة إلى يومنا هذا ولم يتم تجاوزها، بدليل تصرّف النظام العراقي في الحرب الأخيرة على ذات النحو، ولكن بدل أحمد سعيد كان الصحّاف، مع إضافة كلمتي الله أكبر على العلم العراقي. لهذا فتوقُع هزائم قادمة لن يكون مُستغرباً ولا مُستهجناً، فالمُجتمعات العربية على حالها ولم يجرِ أي تغيير على بنية المجتمع العربي وذهنيته ونفسيته وبالتالي على سلوكه. فالقبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والعائلية ما زالت هي المُسيطرة، بل لعلها تُعيد إنتاج نفسها من جديد.
لعلها دعوة للنهوض لا للإحباط والاستسلام. ولكن، لا تنهض أُمة لا تعرِف حقيقة نفسها، مهما تكن تلك الحقيقة مرّة ومؤلِمة.
وهيب أيوب
الجولان المحتل / مجدل شمس
خاص – صفحات سورية –