تقارير أحوال الديمقراطية فى العالم العربى
سلام كواكبي
تقارير أحوال الديمقراطية فى العالم العربى حفلت الأسابيع الأخيرة بصدور عدد من التقارير حول حالة الديمقراطية، أو وضع الحريات أو درجة التحول نحو الديمقراطية فى مختلف مناطق العالم. وبالطبع، وقعت البلدان العربية فى صلب تحاليل ونتائج وتوصيات هذه التقارير لما تتمتع به من تراث وعراقة فى انتهاك الحريات وفى الابتعاد عن الديمقراطية وكأنها مرض خبيث، وبرفضها التحول الديمقراطى السلمى والتدريجى لأنه يعنى تخليها الجزئى على الأقل عن سلطتها وعن استبدادها السياسى أساسا، ولكن الذى يحمل لمعتنقى السلطة، مكاسب اقتصادية جمّة.
ومن الطبيعى أن تحمل هذه التقارير درجات متفاوتة من الإصابة فى تحليل الأوضاع وفى الإحاطة الكاملة بالظروف الموضوعية التى أدت، فى كل حالة، إلى ما أدت إليه. ولكنها فى غالبها، حملت درجة عالية من المصداقية المرتبطة أساسا بمنهجيات علمية بعيدة عن الارتجال.
وفى إطار مختلف المقاييس التى تعنى بالشأن العام من التنمية إلى حقوق الإنسان، تقوم منظمات عدة بإصدار تقارير دولية وإقليمية وفق منهجيات متنوعة. فمن تقرير التنمية البشرية الذى يغطى التعليم والصحة والدخل، الذى يصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية، إلى التقرير السنوى عن حالة الفساد الذى تصدره منظمة الشفافية الدولية، إلى تقرير منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان اللتين تغطيان حالة الحريات والانتهاكات فى العالم، إلى تقارير بيت الحرية الأمريكى ومؤسسة بيرتلزمان الألمانية التى تتناول أوضاع الديمقراطية كالمشاركة السياسية والحريات المدنية وسيادة القانون ومحاربة الفساد، وكذلك تقرير منظمة النزاهة العالمية الذى يصنف الدول حسب حالة المجتمع المدنى ووسائل الإعلام والانتخابات ومساءلة الحكومة والإدارة والخدمة المدنية والرقابة ومحاربة الفساد وسيادة القانون. وأخيرا وليس آخرا، هناك التقارير التى تتعلق بالحريات الإعلامية وأبرزها ما تصدره منظمة «صحفيون بلا حدود» الباريسية.
إلى جانب هذه التقارير العالمية، تصدر المنظمات المحلية تقاريرها فى إطار المتاح وفى حدود التمكن من الحصول على المعلومات الضرورية لبناء المؤشرات والتى على أساسها تحسب النتائج وتصاغ التوصيات.
ومن أبرز هذه التقارير، تلك التى يصدرها مركز القاهرة لحقوق الإنسان وكذلك تقرير مبادرة الإصلاح العربى حول حالة الانتقال الديمقراطى فى عدد من الدول العربية الذى أرسى لمقياس الديمقراطية العربى. وعلى الرغم من حداثة هذه الممارسات الإيجابية على الساحة العربية من قبل فرق محلية، فإنها بدأت فى شق طريقها بتؤدة على طريق وعرة ومليئة بالأخاديد وبالأفخاخ. ليس أولها العلاقة التى تحكم السلطات السياسية والإدارية العربية بالكشف عن المعلومات الصحيحة وغير المشوهة التى تساعد على إعداد التقارير، وليس آخرها نظرة الريبة والشك التى لا تبخل هذه الحكومات بإضفائها على كل باحث عن المعلومة، عن الحقيقة، وبكل الحيادية العلمية المطلوب توفرها. أضف إلى ذلك، قيام بعض أصحاب القلم، أو من تم تسليمهم هذه الأداة المؤثرة، بالتصدى لنتائج هذه التقارير خصوصا عندما تتعلق بالحريات وبالأوضاع الإعلامية.
إنه من المفهوم قيام الجهات المعنية بالقمع وبانتهاك الحريات وبحجب المعلومات وبإفلاس الميزانيات وباستخدام الوظائف العامة للإثراء، برفض نتائج هذه التقارير وإدانة مصدريها. ولكنه يصعب فهم قيام من يفترض أنهم ممثلون عن رأى عام معنى بكل هذه «الموبقات» برمى كل هذه التقارير فى سلة المهملات كما يقول أحدهم بوضوح واعتبارها مرة أخرى، تقارير تدخل فى إطار «أجندات» خارجية تهدف إلى زعزعة «صمود» الدول المعنية والتى تواجه أعداء حقيقيين ومتخيلين.
من المنطقى أن توجه انتقادات عدة إلى بعض هذه التقارير أو مجملها، ويمكن أن يستند هذا النقد إلى تصحيح بعض التفاصيل وتصويب بعض المؤشرات ورفع اللبس عن بعض الأبعاد التى لم تتوضح لمعديها. كذلك، من الطبيعى بل من المفترض أن يتم توبيخ بعض هذه التقارير، وأشدد على البعض، من أنها تغفل التعرض إلى قضايا نعتبرها فى ثقافتنا السياسية أولويات.
ولكن هذه التقارير ليست البتة «مُغرضة» ومكانها ليس بالتأكيد سلال المهملات العربية المليئة بالحقوق وبالحريات. من الأولى على المشككين بمصداقية هذه التقارير القيام بمراجعة أنفسهم وأدائهم إن كان لهذه المراجعة من مكان فى فلسفتهم الحاكمة. عليهم بكل بساطة ومن دون الاحتياج إلى علوم سياسية وفلسفة اجتماعية إلى أن يقوموا بتنظيف مداخل بيوتهم قبل أن يتهموا الآخرين بالنظر إلى السلبى من صورتهم.
وبالمناسبة، فعلى رغم أن هذه التقارير، وأعنى الدولية منها، تتعرض إلى الدول المتقدمة والديمقراطية وتدين بعضا من أدائها فى مختلف الجوانب، إلا أننا لا يمكن أن نسمع ولا لمرة واحدة، انفجار غضب القائمين على هذه البلدان، بل، وياللسخرية، تطالعنا التصريحات العربية التى تشير إلى أن تقارير المنظمات الحقوقية الدولية قد أدانت ذاك البلد وكأنها أصبحت ذات مصداقية لمجرد قيامها بنقد الآخرين ولكنها سرعان ما تفقد مصداقيتها عندما توجه الانتقادات إلى أفعال حكوماتنا المقدسة.
إن إتاحة المعلومات وإرساء التعامل الشفاف مع من يعمل على جمع المؤشرات البانية للتقارير هو الوسيلة الوحيدة لتوضيح المواقف وتبرير النواقص وليس الاعتكاف فى زاوية التاريخ ورمى التهم جزافا. فإن كانت المنظمات دولية أو أجنبية، فهى ذات أجندات مشكوك فيها، وهى بالتأكيد، تخدم مصالح الإمبريالية إن كنا ما زلنا فى لغة الخشب العتيق، أو العولمة الجديدة إن كان الخشب أصبح صنيعا، أو أهدافا مجهولة إن أعيت الكتبة الحيلة فى إيجاد التوصيف المناسب. وكثيرا ما نسمع، وما أبشع ما نسمع، بأن بعض التقارير، خصوصا العربى منها، تتحدث عن الديمقراطية فى العالم العربى ولا تتحدث عن احتلال فلسطين. وعلى الرغم من ابتعادى عن التشكيك فى النوايا، ولكننى أود أن أقول لمن يقابل هاتين المسألتين بكل محبة واحترام، بأن أكبر خدمة لإسرائيل ولمشاريعها فى الهيمنة وفى التوسع وفى الاستيطان هو الربط بين هاتين المسألتين سلبا، أما الربط إيجابا، أى اعتبار أن التحول الديمقراطى هو لبنة أساسية فى طريق التحرير، فهو يمثل بداية تلمّس طريق الحل. إنه من الخطأ، حتى لا نقول شيئا أكثر حدة، اعتبار من يقمع الشعوب داخليا ومن يسرق قوت الملايين ومن يمنع قيام دولة القانون ومن يحد من حرية التعبير ومن يسىء إدارة الاقتصاد ليؤدى به إلى التهلكة، يقوم بهذا كله بهدف تعزيز الجبهة الداخلية لمواجهة العدو التاريخى الذى لا ريب فى أنه مستمتع أكثر مما نتصور بما يجرى.
واستمتاعه الأكبر ينجم أيضا عن تعنت النخب السياسية المسيطرة عن القيام بالإصلاحات التدريجية والسلمية التى تطالب بها المعارضات الوطنية التى لا تحمل «أجندات» خارجية، ولا يحدد لها أى «مهندس» سلطوى سقف وطنها، فسقف الحرية هو السماء…ربما.
جريدة الشروق