الفارق بين ‘اليهودي الحق’ و’اليهودي المفعوص’
صبحي حديدي
قام رام إيمانويل، كبير موظفي البيت الأبيض، بزيارة إلى الدولة العبرية قبل أيام، وُصفت بأنها ‘خاصة’ في بادىء الأمر، ثمّ اتضح أنها انقلبت إلى شبه رسمية حين التقى مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ثمّ رئيس الدولة شمعون بيريس.أمّا في واقع الأمر فإنّ إيمانويل كان يزور البلد الذي يحمل جنسيته أيضاً، فهو مواطن إسرائيلي إلى جانب جنسيته الأمريكية، وسبق له أن خدم متطوعاً في الجيش الإسرائيلي أثناء حرب الخليج الأولى، 1991 (للإيضاح فقط، أحد كبار الذين يحاولون تجميل صورته في هذا المضمار هو… جيمس زغبي، اللبناني الأصل، مؤسس ورئيس ‘المعهد العربي الأمريكي’!). ومن جانب آخر، كان إيمانويل يزور أسرته لأسباب ليست شخصية فحسب، بل عائلية، أو بالأحرى دينية: الاحتفال، أمام أحجار الجدار الغربي في القدس المحتلة، ببلوغ ابنه زاخ سنّ الـ 13، أو الـ’بار متسفاه’ في التعبير العبري.
ومع ذلك، وبدل أن يجد متظاهرين فلسطينيين يندّدون بزيارته هذه، أو بتاريخه الحافل بالإنحياز المطلق إلى إسرائيل (سواء خلال أعوام 1993 ـ 1998، حين كان كبير مستشاري الرئيس الأسبق بيل كلنتون، أو أثناء عضويته في الكونغرس، فضلاً عن عمله الراهن)، وجد إيمانويل حفنة متظاهرين إسرائيليين، يصفونه بـ’المعادي للسامية’ و’كاره إسرائيل’! ولعلّ هذه هو السبب الفعلي للحراسة المشددة التي طوّقت مسير عائلته في طرقات القدس العتيقة، وصولاً إلى حائط المبكى، وليس لأنه شخصية ذات منصب دولي وأمريكي رفيع فقط، أو لأنّ احتمالات الاحتجاج الفلسطيني على زيارته كانت واردة كذلك.
هذه، إذاً، واقعة جديدة في سجلّ إسرائيلي حافل، ينطوي على اتهام بعض اليهود بأنهم أعداء للسامية، ليس لأنهم يخالفون الدولة العبرية الرأي في سياسات الإحتلال والإستيطان والتنكيل بالفلسطينيين، وإنما لأنهم لا يبذلون أقصى الجهود في تأييد تلك السياسات ودعمها، من خلال مواقعهم ووظائفهم وما يملكون من نفوذ. ولعلّ أبرز الأمثلة الكلاسيكية، والمعيارية تماماً، هي حال مارتن إنديك، سفير الولايات المتحدة الأسبق في إسرائيل، ومساعد وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان إنديك أوّل يهودي يتولى سفارة الولايات المتحدة في الدولة العبرية، وتلك كانت سابقة مفاجئة تماماً، قدّمها كلنتون هدية نفيسة إلى أصدقائه في مختلف مجموعات الضغط اليهودية الأمريكية.
ومع ذلك، هنا أيضاً، غادر إنديك منصبه في إسرائيل لا تودّعه دموع الإمتنان والعرفان، بل أقذع الشتائم، الأمر الذي أثار التساؤل البسيط المنطقي: كيف لرجل يهودي سفير للقوّة الكونية الأعظم، يعمل في بلد يهودي قلباً وقالباً، أن يقابله الإسرائيليون بالجحود، إلى درجة تشييعه باللعنات؟ كاتب هذه السطور مولع بأربع نوادر، تنقسم من حيث حوافزها ـ إذا صحّ القول ـ إلى اثنتين تصنعان صورة إنديك المنحاز إلى إسرائيل (بل ‘الصهيوني’ في المعتقد، حرفياً)؛ واثنتين تصنعان صورة إنديك الرجيم الزنيم، الذي لا يختلف عن العرب وسائر الـ’غوييم’. ولنبدأ بهاتين النادرتين.
ذات يومن خلال سفارته، كان إنديك يشارك في إحياء ذكرى رئيس الوزراء الإسرائيلي القتيل إسحق رابين، وكانت الأجواء مفعمة بالأسى والخشوع والتعاضد، حين اقترب منه رحبعام زايفي، رئيس حزب ‘موليديت’ المتطرف ووزير السياحة اللاحق الذي سيكون مصيره الاغتيال مطلع الإنتفاضة الثانية، ودار الحوار التالي كما نقلته صحيفة ‘جيروزاليم بوست’ بالحرف:
زايفي: هل تعلم أنك مجرد ‘يهودون’ (أي صبي يهودي ‘مفعوص’، إذا جازت الترجمة).
إنديك: (بعد إطراقة صمت) هل تعلم أنني سمعت هذه الشتيمة آخر مرة حين كنت في الخامسة عشرة، وأن قائلها تلقى مني لكمة في الوجه؟
زايفي: حسناً، جرّبني إذا شئت. أرنا قوّتك. أنت يهودي ‘مفعوص’!
إنديك: أنت لطخة عار في جبين بلادك.
زايفي: وأنت ابن عاهرة.
بالطبع، انتهت المناوشة اللفظية عند هذا المستوى ‘الرفيع’، وأصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية اعتذاراً علنياً، فقبله السفير واعتبر الأمر منتهياً. بيد أنّ أحداً لم يستطع، بعدئذ، إقناع زايفي بأنّ هذا اليهودي ‘المفعوص’ هو خير سفير أمريكي عرفته البلاد منذ تأسيسها، وأنه أكثر بكثير من مجرّد سفير. كان زائيفي، وظلّ حتى مماته، يؤمن بأنّ اليهودي الوحيد هو اليهودي الذي يؤمن بأسرائيل الكبرى، ويضع نفسه في خدمتها قبل أيّ ولاء آخر، وما خلا ذلك زيف وثمرة مدنسة لاختلاط اليهود بالـ’غوييم’ الأغراب، حيث لا تكون النتيجة سوى أمثال ‘ابن العاهرة’، و’المفعوص’ هذا.
النادرة الثانية لا تختلف عن الأولى من حيث جوهر الموقف الذي يتوجب أن يتخذه اليهودي من القضايا اليهودية الكبرى، والتي تتصدرها مسألة القدس كعاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. وحين استعدّت الدولة العبرية لتدشين الاحتفالات بالذكرى الألفية الثالثة لاختيار الملك داود القدس عاصمة لـ’الكومنولث اليهودي’، اعتذر إنديك عن المشاركة، وقدّم ثلاث حجج بدل الواحدة، لتبرير غيابه: أنّ الحدث ‘ثقافي’ في الجوهر وهو يعني الملحق الثقافي الأمريكي، الذي تواجد بقوّة وتعمّد لفت الأنظار إليه حتى بدا كالطاووس أو كأمّ العروس؛ وأنّ سعادة السفير، كان في الآن ذاته، يرعى وليمة شواء في تل أبيب بمناسبة يوم العمل (الإسرائيلي أيضاً)؛ وأنه، ثالثاً، كان مدعواً للمشاركة في افتتاح ملجأ محصّن في هرتزليا، لصالح أمن اسرائيل أيضاً وأيضاً.
النار التي فُتحت على إنديك لم تقتصر على إسرائيل، بل امتدّ لهيبها إلى الولايات المتحدة، في الشوارع كما في وسائل الإعلام. وهذه المرة أيضاً غمز الكثيرون من قناة هذا اليهودي ‘الصبي’، الضعيف أمام دنيس روس (وكأنّ هذا ليس يهودياً!)، والمؤتَمِر بتخريفات وارن كريستوفر وحثالة جيمس بيكر في وزارة الخارجية. رئيس تحرير أسبوعية ‘نيو ريببليك’ كتب توبيخاً شديد اللهجة ضدّ سعادة السفير الصبي، وذكّره بأنّ قرار التخلف عن الاحتفال هو ‘سخف في سخف’، وينمّ عن معاناة إنديك من عقدتين: أنه سفير أمريكي يهودي في الدولة العبرية التي تحتفل بحدث يهودي تاريخي عمره ثلاثة آلاف عام، وأنه سفير أمريكي من أصل أسترالي. ولقد انتقل رئيس التحرير من توبيخ الإدارة إلى توبيخ أمريكا بأسرها، فكتب يقول: ‘ثمة سخف ومهزلة وراء هذا اللاإكتراث الأمريكي بعيد يهودي ألفيّ، لا يمرّ كلّ يوم أو كلّ سنة أو كلّ قرن’. ثمّ تساءل: ‘دلّونا بحقّ السماء على العلاقة بين احتفال ديني، وسيرورة السلام؟ الفلسطينيون يا سعادة السفير ليسوا اليبوسيين، ولم يكونوا في الديار حين ترك ابن يسّي عاصمته الخليل، ويمّم شطر الشمال نحو قلعة صهيون، وبنى عاصمته هناك’.
النادرة الثالثة وقعت في مطلع كانون الثاني (يناير) من العام 1996، حين كان إنديك ضيفاً على القناة الأولى في التلفزة الإسرائيلية، وتلقى السؤال التالي: ‘أنت يهودي، والكلّ يعرف ذلك. ولكن هل أنت صهيوني’؟ سفير الولايات المتحدة الأمريكية لم يرفّ له جفن، ولم يتردد ثانية واحدة، بل افترّ ثغره عن ابتسامة عريضة أتاحت لمعان أسنانه الشهيرة، وقال: ‘نعم، إنني صهيوني. أنا صهيوني بمعنى إيماني بضرورة دولة لليهود، وضرورة أن يُصان أمنها وسلامتها وازدهارها. وأعتقد أن هذا هو موقف جميع الأمريكيين حكومة وشعباً، في الحزب الديمقراطي كما في الحزب الجمهوري’. الحرج كان من نصيب الصحافي السائل، وهو الذي رفّ جفنه، فضحك بعصبية، وقال: ‘كأنك تقصد القول إنّ أمريكا بأسرها صهيونية’؟ وردّ السفير: ‘نعم، بالضبط’!
النادرة الأخيرة رواها دافيد ماكوفسكي، كبير معلقي ‘جيروزاليم بوست’، وأراد منها ـ كما كتب شخصياً ـ صبّ الزيت على نار الـ’فانتازم’ العربي حول وجود أربعة حاخامات في وزارة الخارجية الأمريكية. الحكاية دارت ذات ليلة في بيت السفير الأمريكي، عشية وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية الخليل. كان آرون ميللر، مساعد دنيس روس ويده اليمنى، قد استأذن فريق العمل لأداء الصلاة اليهودية المعروفة باسم Kaddish، على روح والدته التي توفيت مؤخراً في كليفلاند. وأبى روس إلا أن يشارك زميله في الصلاة، ثم انضمّ إليهما إنديك، والمستشار القانوني لفريق العمل الأمريكي جوناثان شوارتز، و… إسحق موردخاي، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، وكان موجوداً لأغراض استكمال الإتفاق. ويروي ماكوفسكي أنّ المفاوضين الفلسطينيين وقعوا في حيص بيص أمام هذا المشهد، ولم يكن في وسعهم القيام بشيء آخر سوى الحملقة في الفراغ!
وربّ نادرة تغني عن أي تحليل. هذا المثقف اليهودي الأسترالي ـ الأمريكي، الذي صعد نجمه على أمجاد نظرية ‘الإحتواء المزدوج’ في أروقة مجلس الأمن القومي الأمريكي، وعلى أمجاد أخرى في الـ’إيباك’، المنظمة اليهودية ـ الصهيونيةالمعروفة، غادر إسرائيل مأسوفاً عليه، لأنه بالفعل كان أكثر بكثير من مجرّد سفير (أو لعله السفير الوحيد من نوعه في التاريخ الدبلوماسي الحديث)؛ وغير مأسوف عليه، لأنه لم يكن يهودياً بما يكفي، في نظر يهود كثيرين لا عدّ لهم ولا حصر.
وفي كل حال، لم يكن إنديك، وليس له أن يكون البتة، أفضل حالاً من اليهودي الأسطوري هنري كيسنجر، الذي قدّم ذات يوم نصيحتين اثنتين إلى الإسرائيليين، بقصد كسر الإنتفاضة: ‘اطردوا كاميرات التلفزة، على غرار ما كانوا يفعلون في جنوب أفريقيا’؛ و’اقمعوا أعمال الشغب الفسطينية بوحشية، سريعاً، وعلى نحو شامل’. هنري كيسنجر هذا استحقّ، بدوره، لعنة آلاف اليهود، وألقاب ‘اليهودي الألماني’، و’زوج الشقراء العاهرة’، و’المدمن على راقصات هزّ البطن’!
والدموع السخية التي ذرفها كبير موظفي البيت الأبيض وهو يتلمس أحجار حائط المبكى بيد، ويعانق باليد الأخرى نجله الذي بلغ سنّ التكليف بجميع الفراض اليهودية، لم تشفع له لدى أبناء جلدته اليهود، ممّن تقاطروا لإسماعه هتافات شبيهة بما سبق أن سمعه أمثال مارتن إنديك ودنيس روس وهنري كيسنجر، أو أمثال وودي ألن وملتون فيورست وسيمور هيرش وجان دانييل ومايكل ليرنر ونورمان فنلكشتين، عن اليهودي المعادي للسامية، الكاره لإسرائيل، ابن الزنا، وابن العاهرة… وكما لم تشفع له حقيقة أنه ابن بنيامين عمانوئيل، المواطن الإسرائيلي والمقاتل السابق في عصابة الـ’إرغون’ الصهيونية الإرهابية، تناسى كارهو الفتى ‘رحام’ أنّ أبكر خدمات الأخير للحركة للصهيونية في أمريكا كانت التآمر على بول فندلي، عضو الكونغرس المتعاطف مع الحقّ الفلسطيني، وإسقاطه، بعد ضخّ ملايين الدولارات اليهودية في حملة خصمه دافيد روبنسون، اليهودي ذي الولاء المطلق لإسرائيل.
أقصى جريمة كبير موظفي البيت الأبيض هذا أنه ابلغ الرسالة التالية إلى بعض قادة اليهود في الولايات المتحدة: هل تريدون أن تقف أمريكا معكم في ضرب منشآت إيران النووية؟ إذاً، استعدوا للضغط على إسرائيل كي تخلي المستوطنات. ولعلّ إيمانويل وجد بعض العزاء في أحضان نتنياهو وبيريس، ثمّ في أحجار حائط المبكى الباردة، قبل أن يتذكّر السخط اليهودي الشديد الذي حلّ بسيّده باراك أوباما، حين تجاسر وأتى على ذكر المستوطنات.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –