إسرائيل كـ «لا عدل» جوهري مستمر
ياسين الحاج صالح
في جدولها الوراثي، تحمل إسرائيل التي «وُجدِت لتبقى» محرقة مستمرة. هناك نازع عميق متأصل في كيانها لإبادة الخصوم والأعداء المتصورين، أو (وهذا هو الشيء نفسه) خفض حياتهم إلى مرتبة وجودية أدنى. ولما كانت نشأت على حساب مجتمع آخر، لا ذنب له في سابق معاناة اليهود، ولم يُستشر في شأن مقامهم في وطنه، ولما كان المقام هذا فرض المقام بالقوة وتمخض عن محنة إنسانية مستمرة يعانيها اليوم ما يعادل ضحايا الهولوكوست، ويساوي عدد سكان إسرائيل اليهود الحاليين تقريباً، لما كان الأمر كذلك، فإن من غير المتصور زوال حالة العداء لإسرائيل من دون زوال الأعداء أنفسهم، أي الفلسطينيين الذين تكونوا كشعب واع بذاته في خضم هذه المحنة الأليمة.
ليس هذا حادثة تاريخية حصلت وانتهت، إنه واقع جوهري غير قابل للتقادم. بالضبط لأنه مغروس في صلب الكيان الإسرائيلي، بل هو الطبقة الأعمق في الكيان، «لا شعوره» الدائم.
ولعله من جانب آخر يشكل هولوكوستاً مضاداً، مُعادِلاً تماماً لذاك الذي بُرمِج الضمير الإسرائيلي نفسه عليه منذ ما بعد حرب 1967، وإن اختلف الأسلوب والإيقاع الزمني والتنفيذ و… المُنفَِذون طبعاً. وما يترتب على ذلك فوراً هو أن هناك واحداً فقط من حلين اثنين لهذه المشكلة: إبادة الفلسطينيين والتخلص منهم نهائياً، وإلا فزوال الكيان الإسرائيلي. ليست هذه الصيغة أو تلك من «الحل النهائي» النازي للمسألة اليهودية هوى أيديولوجياً أو انحيازاً ثقافياً بقدر ما هي إلزام مفهومي، مُترتِّب على مفهوم إسرائيل لذاتها وعلى تجربتها المكونة (طرد الفلسطينيين من وطنهم من دون ذنب أتوه، وإقامة كيان إسرائيل على حسابهم بالقوة). إسرائيل هي نفي فلسطين. وتالياً، فإن تأكيد هذه نفي لتلك. إن الحليف الأقوى للفلسطيني والعربي الراغب في إزالة إسرائيل هو إسرائيل ذاتها التي تدأب على النضال من أجل إزالته (أو خَفْض مرتبته الوجودية، بما يُسهّل إزالته). وهذا ما تُصادِق عليه مُراكَمتُها لأحدث وسائل العنف وأشدها فتكاً، بما فيها الأسلحة النووية القادرة على جعل كل المدن العربية رماداً؛ وما يصادق عليه أيضاً مسلسل تاريخي طويل غير منقطع، عمره من عمرها، من الحروب والاعتداءات والجرائم، مع الحصانة الدائمة من العقاب. وما تصادق عليه أيضاً الاستثنائية الإسرائيلية، الأخلاقية والقانونية والكيانية، المُغطّاة والمكفولة من مركز القوة والحضارة في العالم الحديث، الغرب. أعني بالاستثنائية الكيانية أن إسرائيل دولة ليست مثل غيرها، لا تنضبط بالقيم لأنها القيمة مجسدة في عين نفسها وظُهرائها الغربيين، ولا تُحكَم بقواعد الشرعية لأنها معيار كل شرعية في نظرهم، فوق كونها مقدساً لا يُمَسُّ أمنه ووجوده من حيث كونها كياناً تاريخياً دنيوياً معاصراً.
من حق السياسي أن يتجنب إلزاماً مفهومياً على هذه الدرجة من الصرامة، لكــــن ينبغي أن يحتاج أحد ما إلى الوضوح فـــي هذا الشأن. وإذا طابق السجل التاريخي (والتاريخ مملكة الجواز) مقتضى التحليل المفهومي (الماهوي والحتمي) كان على السياسي بالذات أن يأخذ ذلك في اعتباره. أما المثقف، فالتزام الوضوح تعريفٌ له.
والحال، لا يبدو أن مشكلة الفلسطينيين والعرب متولدة عن عدم تبيُّن ذلك، بل بالأحرى عن العجز عن ترجمته إلى سياسة عملية تحظى بفرص الاستمرارية والنجاعة. من هذا الباب كانت قضية فلسطين محرقة للسياسيين، فلسطينياً وعربياً. ولعلها ستبقى كذلك إلى أمد طويل. هذا لأن مقتضيات السياسة الصحيحة، الرفض الجوهري لإسرائيل، تتعارض مع الممكنات الواقعية التي لا تقوم سياسة من دون اعتبارها. وهو ما يعني بكل بساطة أنه ليست هناك في الظروف الراهنة سياسة عربية صحيحة حيال المعضلة الإسرائيلية، وتالياً ليس هناك سياسيون صحيحون. وهو ما قد يصلح تعريفاً للصفة المأسوية لهذه المحنة الفلسطينية العربية – الإسرائيلية.
ممرضٌ ومثير للاشمئزاز تفاعلُ القوى الغربية مع الجريمة الإسرائيلية الأخيرة في المتوسط في 31 أيار (مايو)، بخاصة تلك التصريحات المشينة عن استخدام مفرط للقوة. ترى، ما هو مقدار القوة المناسب لمواجهة قافلة مسالمة تحمل مواد إغاثة إنسانية لمجتمع مُحاصَر منذ سنوات؟
بحمايتها الخروج الإسرائيلي المستمر على القانون وفرض استثنائيتها وضمان حصانتها المستمرة مهما فعلت، تقوض القوى الغربية فكرة القانون ذاتها، فتفتح الباب لحكم الأقوى، أي البربرية. ومن شأن ذلك أن يرتد على دول الغرب ذاتها. ليس بالضرورة على طريقة تنظيم القاعدة، بل عبر تغذية التيارات الأكثر عنصرية وعدوانية في الغرب ذاته. إذ لا يمكن أن تثابر القوى الغربية على ممارسة التمييز واحتقار المبادئ التي تحمي العدالة والحياة من دون أن يُستبطَن ذلك في ثقافتها ومؤسساتها. بتغطيتها جرائم إسرائيل، لا تُسمِّم القوى الغربية حياة العرب وثقافتهم فقط، وإنما هي تنصب فخاً تاريخياً لنفسها، لا يبعد أن تقع فيه يوماً. عادلٌ أن تقع فيه.
هذا فوق أن إسرائيل بحد ذاتها استمرار للعلاقة الكولونيالية بين القوى الغربية والعالم العربي، بل هي استمرار الاستعمار بوسائل أخرى أشد فتكاً، وهي خلاصة العصر الاستعماري الأشد عنصرية وعدوانية وامتلاء بالتمييز والكراهية في عالم اليوم.
ولهذا، فإن تلك القوى مسؤولة بصورة لا يمكن الانتقاص منها عن تعثر العالم العربــــي وتغذية كل ما هو استبدادي ومفوت وفــــاسد في بنى مجتمعاتنا وثقافتها. فحين لا تكون ثمة سياسة صحيحة لأية قوى فلسطينية وعريية حيال إسرائيل، بفعل ما تحظى به هذه من مساندة ودعم غربي مستمرين، وحين تصطدم كل خيارات العرب حيال الواقعة الإسرائيلية، بما فيها الأكثر خنوعاً، بجدار صلب من الرفـــــض والازدراء، فلا بد من أن يثير ذلك فــــي أوساطنا تفاعلات انحلالية. من هذه التسليم المستخزي، ومنها التحدي الأرعن، ومنها النفس المنقسمة دوماً، ومنها الشعور الدائم بأننا ضحية، ومنها كراهية العالم وكراهية الذات، وإرادة تدمير العالم والذات. هذا فوق أن سد أبوابنا إلى المستقبل يمنع الماضي من الانصرام، ويبقي أبوابه وحدها مفتوحة. في هذا كله، إسرائيل وسندها الغربي ليسا خصمين سياسيين عاديين، إنهما يعتديان على حياتنا ولا يكفان عن تمزيقها. لا ينبغي أن يُضطر المرء لقول شيء عن أسوأ تفاعلنا الذاتي مع إسرائيل والغرب والعالم حتى يستطيع أن يقول ذلك. ولا ينبغي لنقد الذات الضروري أن يُسخَّر لإضفاء النسبية على الأذى الرهيب الذي ألحقه بنا هذا التمديد للشرط الاستعماري. لقد فاقم أسوأ تفاعلنا وشوّشنا ذهنياً (ماذا يجري؟) ووجدانياً (ماذا نريد؟) ووجودياً (من نحن؟).
هذا غير عادل. وغير حكيم.
ولا ينبنــي عليه غير الأسوأ للعالم ككل.
خاص – صفحات سورية –