مركزية العقدة السورية في السياسات الشرق أوسطية
ماجد كيالي *
بينما تتجه الأنظار نحو استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية فإن التطورات الأكثر فاعلية تجري باتجاهات أخرى، وتحديداً باتجاه سورية، وباتجاه إيجاد حلحلة للملف النووي الإيراني، وهو الأمر الذي توضحه التحركات والمواقف السياسية المكثفة، الجارية على الصعيدين الدولي والإقليمي.
ويبدو من ذلك أن المسار الفلسطيني بات يعمل، في الأجندات الدولية (لا سيما الأميركية)، كتمهيد، أو كتسهيل لحل الأزمات الأخرى، من لبنان إلى إيران، مروراً بالعراق وأفغانستان وباكستان، وليس لذاته.
ولعل ما يضعف فاعلية هذا المسار (إضافة الى التشدد الإسرائيلي في شأنه) انعدام الخيارات لدى القيادة الفلسطينية الرسمية، وارتهانها للعملية التفاوضية (كما يرسمها الفاعلون الدوليون)، وتضعضع مكانتها، لا سيما بعد انقسام الحركة الفلسطينية على ذاتها. ومن مظاهر انعدام الخيارات، مثلاً، خمود المقاومة في الضفة وغزة، من قبل «فتح» و «حماس»، وإعلان الرئيس الفلسطيني، مراراً، أن «لابديل عن المفاوضات إلا المفاوضات»، وأنه لا يملك خيارات بديلة، باستثناء تلميحه إلى خيار الاستقالة، أو عدم الترشح في الانتخابات المقبلة (التي لا يعرف احد موعدها إن حصلت!)، كما يستدل على ذلك بانغلاق «حماس» على ذاتها، وعلى سلطتها، في قطاع غزة المحاصر.
أيضاً، يمكن إحالة ضعف فاعلية المسار الفلسطيني إلى حقيقة أن هذا المسار يؤثر على عملية السلام في الشرق الأوسط، لكن تأثيره محدود جداً في موازين القوى العسكرية، وبالخصوص في ما يتعلق بوقف التدهور نحو خيارات حربية في هذه المنطقة، والتي باتت أطرافها المفترضة معروفة سلفاً.
تأسيساً على ما تقدم يبدو أن القوى الدولية والإقليمية المعنية، التي تخشى خروج الأوضاع عن السيطرة (تحسباً لتكرار تجربتي أفغانستان والعراق)، أضحت تفضل التركيز على سورية، التي ترى أنها باتت بمثابة بوابة لا بد منها لخيارات الحرب والسلام في هذه المنطقة، في شأن الملفين الفلسطيني والإيراني، في الوقت ذاته. وهذا ما يؤكده المحلل الإسرائيلي يوئيل ماركوس، الذي يرى أن «إخراج سورية من الارتماء في ذراعي إيران هو ألحّ من حل النزاع مع الفلسطينيين. على إسرائيل أن تقدم للرئيس اوباما مخططاً لمسار قصير سريع مع سورية لتسوية سلمية بمرة واحدة لا بالتقسيط. هذا جيد لمصلحة أميركا.» («هآرتس»،11 الشهر الماضي)
وما ينطبق على سورية ينطبق على إيران أيضاً، التي تشتغل على تعزيز دورها كقوة إقليمية مقررة في شؤون الشرق الأوسط، ولذلك فهي تعتبر نفسها موضع اهتمام كبير في التفاعلات الدولية والإقليمية، لا سيما بحكم سعيها لحيازة قوة نووية. لكن معضلة إيران أنها، وعلى رغم كل عوامل قوتها، لا تستطيع الاستثمار سياسياً في هذه المنطقة، من دون الاعتماد على سورية، وهي نقطة لمصلحة سورية، في سعيها لتعزيز مكانتها الإقليمية، وتحصيل حقوقها، وفرض أولوياتها.
من ناحية ثانية يمكن تمييزها في تعاطي القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط، مع كل من سورية وإيران، ففي حين يجري الانفتاح على سورية، إلى حد إبداء التفهّم لسياساتها ومطالبها، لا سيما ما يتعلق بسعيها لاستعادة أراضيها المحتلة كاملة، ثمة بالمقابل نوع من التوجس والقلق جراء السياسات التي تنتهجها إيران في المنطقة، وجراء مشروعها النووي، كما جراء خطابها الراديكالي.
وإذا كانت السياسات الدولية والإقليمية إزاء إيران معروفة، وثمة مروحة خيارات تصعيدية في التعامل معها، ثمة في المقابل سياسات انفتاحية وتشجيعية إزاء سورية، من قبل مختلف الأطراف المعنية بهذه المنطقة، عربياً وإقليمياً ودولياً.
وفي الواقع فإن التركيز على محورية العقدة السورية، لم يعد يقتصر على سياسة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وتركيا، وروسيا، وإنما بات يشمل إسرائيل ذاتها، التي باتت في حيرة من أمرها، بهذا الشأن. ويدلّل على ذلك البحث الذي قدمه العميد يوسي بايدتس (رئيس مركز الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية)، والذي استنتج فيه أن «المحور المعتدل لم يعد موجوداً»، حيث «العلاقة بين إيران وسورية و «حزب الله» و «حماس» تلقي بظلها على المحيط كله». وحيث «الخروج الأميركي من العراق سيوقعه في القبضة الإيرانية». ويخلص بايدتس من ذلك إلى أنه «ينبغي نقل سورية من هذا المحور»، معتبراً ذلك بمثابة «خطوة حاسمة… ذات أهمية تاريخية». بالمقابل يحذر بايدتس من «أن فخر إسرائيل بالحدود الأهدأ… يمكن أن يهشّم ذات يوم من دون إنذار سابق». لأنه «إذا لم تسر سورية في طريق إلى السلام فقد تمضي في مسار إلى الحرب». («معاريف»، 7 من الشهر الماضي) وفي ذات السياق تحدث مؤخراً اللواء احتياط أوري ساغي (رئيس شعبة الاستخبارات ورئيس الوفد المفاوض مع سورية في عهد باراك) عن «إخفاق استراتيجي لإسرائيل»، تمثل بعدم توصلها الى تسوية مع سورية (عام 2000)، وبرأيه فقد كان من شأن هكذا تسوية «منع كل حروب العقد الأخير وتغيير وضع إسرائيل في المنطقة». وعنده فإن «إسرائيل تجلد نفسها بعد إخفاقات عسكرية في الحروب، لكنها لا تفحص نفسها بعد إخفاقات سياسية إستراتيجية» وبعد «تسوية تم تفويتها». («معاريف»، 27/4/10) ما يوحي بالحض على عدم تكرار تفويت أية فرصة تسوية مع سورية، لأن ذلك ربما يفتح المجال امام حروب جديدة، لا طائل منها.
تجدر الإشارة هنا أيضاً، إلى تقارير صحافية إسرائيلية تفيد بأن «جهاز الأمن كله (رئيس الأركان، ورئيس «أمان»، ورئيس الهيئة السياسية – الأمنية، وجميع الضباط الكبار، ورئيس «الموساد») يحض المستوى السياسي على عقد سلام مع سورية». («معاريف»، 7 من الشهر الماضي). ويبدو أن ذلك يعود إلى إدراك المستوى الأمني الإسرائيلي بأن تداعيات أية حرب مقبلة في المنطقة، يمكن أن تكون كارثية، بالنظر الى الأسلحة الصاروخية التي يمكن أن تستخدم فيها، وبالنظر إلى إنها ستشمل العمق الإسرائيلي، والمساحة من إيران إلى لبنان، ما يعني تهديد المصالح الغربية (لا سيما النفطية)، وربما استقرار عديد من الأنظمة، ما يذكر بالتداعيات الناجمة عن غزو أفغانستان والعراق. ويعتقد أري شافيط أنه، لتلافي هكذا سيناريو، ليس لإسرائيل ما تفعله، سوى أن تعرض على السوريين «الجولان مقابل إيران» وعلى الفلسطينيين «دولة بحدود موقتة» («هآرتس»،21 الشهر الماضي).
على ذلك يمكن الاستنتاج بأن الدور المركزي الذي تلعبه سورية بات في غاية الأهمية في صراعات القوى على الشرق الأوسط، لإيران كما لتركيا وإسرائيل، وكذلك لفرنسا والولايات المتحدة وروسيا، مثلما هي كذلك، أيضاً، بالنسبة الى النظام العربي، لذا قد لا يكون من قبيل الصدفة محاولة «الدب» الروسي استعادة دوره في السياسة الشرق أوسطية من البوابة السورية.
وعليه، ربما ليس ثمة مبالغة في القول بأن مستقبل الشرق الاوسط في المرحلة المقبلة يتوقف على ما تفعله، أو ما لا تفعله، سورية.
* كاتب فلسطيني
الحياة