الدولة العلمانية والمسألة الدينية مرة أخرى
احتراماً للرأي الآخر
جاد الكريم الجباعي
قبل الشروع في مناقشة تعليق السيد أمير الغندور (المزدوج) على مقالتي “الدولة العلمانية والمسألة الدينية، المنشور على موقع الأوان بتاريخ 29 / 5 / 2010، أودّ الإشارة إلى مبدأ علمي شهير مفاده إذا كان في الأطروحة أو الفرضية أو “النظرية” أو وجهة النظر عنصر واحد فاسد أو مغلوط فيه كانت الأطروحة أو الفرضية أو النظرية أو وجهة النظر هشة ومضطربة، ولكن يمكن تصحيحها وتصويبها. وأنا لا أستبعد أن تكون وجهة نظري كذلك استبعاداً كلياً، وهذا ما يدفعني إلى النقاش، متجاوزاً عن العبارات غير المناسبة التي استعملها السيد غندور، من نوع “العلمانية الرثة” و”خلق مبرر زائف لشيطنة المعارضين مثلما يفعل الفكر الديني المتطرف” و”علم الكلام الرث” وما إليها.
ولوضع النقاش في نصاب صحيح لا بدّ من الإشارة إلى المسائل الآتية :
1 – الإسلام ليس موضوع مقالتي ولا موضوع بحث الدكتور صادق جلال العظم، الذي كانت مقالتي نوعاً من تعقيب عليه، بل موضوعها هو “النزاع الحادّ للسيطرة على معنى الإسلام وتعريفه”، والسجال الدائر حول هذا الموضوع في العالمين العربي والإسلامي. وهذا التحديد، أي تحديد الموضوع، واضح من الفقرة الأولى من فقرات مقالتي ومن مقدمة بحث الدكتور العظم. وإذ لم أفهم من بحث الدكتور العظم أنه، أي الدكتور العظم، طرف في النزاع على معنى الإسلام وتعريفه ومحاولة احتكاره، فمن البديهي أنني لم أعيّن موقعي طرفاً أو طرفاً مقابلاً في النزاع إياه. ولكنني ما زلت مقتنعاَ بتحديد الدكتور العظم لما يبدو عليه النزاع الحادّ الدائر اليوم في العالم العربي والعالم الإسلامي، والذي لا يتعدى كونه “نزاع هويات”، كما وصفه الأديب المبدع أمين معلوف.
وكأني بالدكتور العظم أراد أن يقول : إنّ هذا النزاع وما يصاحبه من سجالات ضرب من العبث وهدر الوقت والطاقات البشرية والمادية وضرب من تدمير ذاتي، ومدعاة لإثارة نزعات ومنازعات دينية ومذهبية وطائفية، في الوقت الذي توصل فيه العلماء إلى إنتاج أول خلية حية، (لا بدّ أننا سنقابل ذلك بالتكذيب والتكفير والتحريم والتأثيم دفاعاً عن هويتنا وأصالتنا، لا سيما أنّ العالم الذي ارتكب هذه الجريمة أمريكي أو غربي، ونحن نعاني من “المرض بالغرب” بتعبير الأستاذ جورج طرابيشي، لذلك أقترح على الأصدقاء في هيئة تحرير الأوان أن يفتحوا ملفاً متصلاً للكشوف العلمية الحديثة وشريطاً إخبارياً خاصاً بهذا الموضوع).
ولكي لا يذهب الظن بالقارئ أي مذهب في قولي “الإسلام ليس موضوع مقالتي” كأنني أعتذر، أريد أن أعبر عن اعتقادي العميق والراسخ بأن الدين بوجه عام، أي جميع الأديان والمذاهب والملل والنحل دون مستوى التفكير، لأن الدين قائم ومبني على الإيمان ليس غير، أي على اليقين والتصديق التام، والإيمان نقيض التفكير على طول الخط ونقيض العقل، وأن التفكير الممكن في الدين هو نقد الدين، والكشف عن جذوره الأسطورية والخرافية والغيبية وعن كونه وجهاً من وجوه السلطات المستبدة ووجهاً من وجوه الاستبداد وتغييباً وهدراً للإنسان على مر التاريخ، فضلاً عن كونه ضرباً من عصاب جماعي، على الصعيد النفسي. وسأحيي الدكتور صادق جلال العظم مرة أخرى لأنه لم يفكر في الدين إلا نقدياً، منذ وضع كتابه الشهير “نقد الفكر الديني”، وهذه إحدى مزاياه الكثيرة، بخلاف من أرادوا أن يجمعوا المجد من أطرافه فجعلوا من أنفسهم فقهاء ومفتين علمانيين وعقلانيين وتقدميين.
2 – ملخص وجهة نظري أن أي تعريف للإسلام، وللمسيحية أو غيرها إذا شئت، هو مظهر من مظاهر تعريف الذات وتحديدها، لأن الدين أحد محمولات الفرد الإنساني وتحديداته الذاتية، أو أحد عناصر هويته، إلا إذا افترض أحدهم أن وجود الدين (بحصر المعنى) سابق على وجود الإنسان، أو أنه شرط من شروط وجوده. وأزعم أنه ليس لأي من محمولات الفرد قيمة مطلقة في ذاتها، لأن الفرد الإنساني هو من يمنح الأشياء والأفكار قيمها، وهذا ناتج من “ملكة الحكم” التي امتاز بها الإنسان من جميع الكائنات، وأدعي أيضاً أن حكم القيمة ملازم لحكم الواقع عندنا جميعاً، وإلا لما كان الإنسان كائناً أخلاقياً.
3 – ومن ثم ادعيت في مقالتي وأريد أن أدعي أن تعريف المسلمين العرب للإسلام، سواء كانوا معتدلين أو متطرفين، مختلف جداً عن تعريف المسلمين غير العرب للإسلام ذاته، بحكم ارتباط العروبة بالإسلام لغة وثقافة وتاريخاً وحياة، وصيرورة الإسلام هوية للمسلمين من العرب لا تستغرقها ولا تعلو عليها أي هوية أخرى. ولعل هذا كان ولا يزال سبباً رئيساً من أسباب أزمة الهوية عند العرب المسلمين أو المسلمين من العرب، ومن أسباب توجسهم من الدولة الحديثة التي تستمد مشروعيتها من الشعب، لا من عقيدة بعينها.
ومن تعريف الذات، أي من الوعي الذاتي الذي يحدد رؤية الأفراد والجماعات ومواقفهم وأنماط سلوكهم واستجاباتهم وطابع علاقاتهم الداخلية والخارجية تنبثق رؤيتهم لما هي الأمة ولما هي الدولة ويتعين موقفهم من هذه وتلك. وأدعي أن ثمة علاقة وثيقة بين تعريف الذات وتعريف الإسلام وتعريف الدولة والموقف من السلطة “السياسية” والموقف من الآخر غير المسلم وغير المسلم السني أو الشيعي أو .. إلخ. فإن تماهي الفرد / الأفراد (والجماعة) والأمة والدولة في هوية واحدة هي “الإسلام” هو ما يحول دون انغراس فكرة الدولة الحديثة وفكرة المواطنة وفكرة المساواة في الحقوق والواجبات في الوعي والسلوك، فليست محاولات احتكار معنى الإسلام ورمزيته سوى محاولات لاحتكار السلطة، والاحتكار والاستبداد صنوان.
4 – وعلى هذا الأساس نسبت نجاح حزب العدالة والتنمية التركي في الوصول إلى السلطة وإدارتها إدارة رشيدة، على الرغم مما يؤخذ عليها، نسبت هذا النجاح إلى كون حزب العدالة والتنمية، الذي وصفه الدكتور العظم بإسلام البزنس، قد نشأ في فضاء وطني عام، أي في كنف دولة حديثة، علمانية، لا تناصب الدين أي شكل من أشكال العداوة، ولا يناصبها الحزب المعني أي شكل من أشكال العداوة، بل هي تحظى بقبوله وموافقته واحترامه واعترافه بمشروعيتها الوطنية، أي الشعبية، ما يعني أن هوية الحزب العليا وهوية المسلمين الأتراك هي الهوية الوطنية التركية التي تجسدها الدولة، وهذه لا تنفي إسلام المسلمين ولا مسيحية المسيحيين. ولا أغالي إذ قلت إن كمال أتاتورك الذي ألغى نظام الخلافة الإسلامية وفرض مبادئ وإجراءات علمانية صارت من نسيج الدستور التركي وقوانين الدولة هو بطل المواطنين الأتراك ولا سيما المسلمين منهم، والنزعة القومية المتطرفة لدى بعض الكماليين تخدش هذه البطولة ولا تفيدها.
5 – أما ما يسميه بعضهم الإسلام الشعبي ويدعو إلى البحث في إمكاناته، فلا يزيد في نظري عن ظل شاحب وكئيب وفقير ومقفر لما يسمى الإسلام الرسمي، ولا يزيد على كونه مرتعاً للدجالين والمشعوذين والمتمجدين بمجد السلطان، المتطفلين على حياة البسطاء والفقراء. ورأيي هذا لا يغض من إيمان المؤمنين ولا يمنع أحداً من البحث في إمكانات الإسلام الشعبي، على افتراض أن أحداً لم يبحث بعد.
في ضوء هذه المسائل يبدو لي أن السيد الغندور لم يوفق في اصطياد اللامفكر فيه، لأنه ظن، وبعض الظن إثم، أن الموضوع يتعلق بأحكام قيمة تطلق جزافاً على الإسلام أو على غيره من الأديان، مع أنني أشرت بوضوح إلى أن المسألة في تركيا وغيرها مسألة سياسية لا مسألة إسلامية. ومع ذلك أحييه على منافحته عن الإسلام الشعبي، وعلى حميته في التصدي للعلمانية الرثة، إذ لا تضيرني منافحته ولا تزعجني حميته، فأنا أيضاً منافح عن العلمانية. ولكن ليس من الضروري أن يدبج الشخص مقالة في مديح الوجه المشرق والمسالم والعفوي للإسلام إذا أراد أن ينتقد الجماعات الإرهابية التي تسمي نفسها جماعات إسلامية أو جهادية أو مقاومة أسلامية. وموقف السيد الغندور يذكرني بموقف الشيخ سعيد رمضان البوطي في دحض النزعات المادية ودعوته الماديين العلمانيين إلى الحوار بشرط أن يؤمنوا بما يؤمن به هو ويفكروا كما يفكر هو. وأنا على يقين من أن اللامفكر فيه في مقالتي هو ما يفكر فيه السيد الغتدور وما يراه الحقيقة الغائبة عن العلمانية الرثة، فهنيئاً له صيده وحقيقته.
من البديهي أن وجود وجه متطرف يعني وجود وجه آخر غير متطرف، بل وجوه أخرى كثيرة، فالتطرف لا يعرف إلا بنقيضه، ولكن ألا يعتقد القارئ أن من يستفزه نقد الوجه المتطرف للإسلام فيقابله بإبراز الوجه غير المتطرف إنما يدافع بذلك عن التطرف. وهذا ما سميته هشاشة موقف المعتدلين والمتسامحين وإمكانية أن يتحول اعتدالهم وتسامحهم إلى أحد الحدين الأقصيين: التطرف واللامبالاة. السلطة السياسية في بلادنا ترد على نقد المعارضين بأنهم يرون نصف ألكأس الفارغ ولا يرون نصفه الممتلئ، ويرون السلبيات ولا يرون الإيجابيات، هذا منهج في التفكير وموقف من النقد ومن المعارضة، وكلنا كذلك، ولكن يجب أن نعترف أنه منهج سيئ وعادة رديئة، لكي نتمكن من تجاوز المنهج والإقلاع عن العادة.
أما بصدد ما أشار إليه الأستاذ الغندور من خلط بين ماركس وهيغل فأحيله على نص ماركس المهم الذي اقتبست منه وهو “نقد فلسفة الحق عند هيغل” وعلى الأيديولوجية الألمانية أيضاً، وسأشكره إذا صحح لي. وأستهجن حقاً أن يفهم أنني نسبت فكرة الصراع على السلطة من أجل الغنيمة والعشيرة والعقيدة لكارل ماركس. وهي بالمناسبة ليست للمرحوم الجابري، بل اقتبسها الجابري عن ريجيس دوبريه، كما أظن، ولكن من المؤكد أنه اقتبسها.
وما يؤسف له أن يشنع أحدهم على علم الكلام، وكان نشاطاً فكرياً رائعاً، ولعله من أفضل ما كان في تاريخ “الإسلام” يوم كان ثمة تسامح واعتدال.
موقع الآوان