‘مرمرة’ وأخواتها
الياس خوري
هل سقطت اسرائيل في فخّ ‘مرمرة الزرقاء’ وأخواتها، مثلما اوحى بعض المعلقين الاسرائيليين؟ يقول سيناريو الفخّ ان الهدف التركي كان دفع الاسرائيليين الى ارتكاب الجريمة، لذا قاوم الناشطون الاتراك الانزال الجوي الذي قامت به وحدة ‘شييطت 13’، على سفينتهم. اي ان القتيل اغرى القاتل بل دفعه الى قتله. وفي هذا يصير القاتل بريئاً وتصير الضحية مجرماً! هذا هو المنطق الاسرائيلي الغرائبي الذي وضع في الماضي اللوم على الاطفال الفلسطينيين لأنهم يجبرون جنود ‘جيش الدفاع’ على قتلهم!
سبق لنظرية الفخّ ان لاقت رواجاً كبيراً في العالم العربي، وخصوصاً بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، التي لم يعد احد يحتفل بذكراها المريرة. صبيحة ذلك اليوم المشؤوم لعلع صوت احمد سعيد معلناً ان اسرائيل سقطت في الفخّ، لنكتشف بعد ذلك ان مصر هي التي سقطت فيه. وبعدها راجت نظريات الفخّ الذي اعدته اسرائيل بعناية، وسط حكاية المؤامرات الدولية من اجل سحق مصر الناصرية.
مرت اعوام طويلة، قبل ان يكتشف العرب، مع التجربة العراقية المريرة، ان الفخّ يصنعه من يسقط فيه. وان الذهاب الى فخّ الهزيمة او البهدلة يكون في اغلب الاحيان طوعياً وناجماً عن عُظامية القوة.
‘مرمرة الزرقاء’، لم تكن فخاً صنعه الناشطون الاتراك، بل كانت احد نتاجات عُظامية فائض القوة التي استولت على عقول افراد النخبة العسكرية الاسرائيلية. فالافتراض بأن ‘حبال السماء’، وهو الاسم الذي اطلقه الاسرائيليون على عمليتهم الدموية ضد اسطول الحرية، سوف تسحق ارادة احرار العالم في فك الحصار عن غزة، ناجم عن اعتقاد الاسرائيليين بأنهم يستطيعون ان يفعلوا اي شيء. هذه الغطرسة التي هي مزيج من عقدتي التفوّق والخوف، حولت ‘حبال السماء’ الى جريمة، وعرّضت اسرائيل الى غضب المجتمع الدولي، وحولت قوتها الى عبء عليها.
كان يكفي ان يتصدى الناشطون للحبال حتى يصاب قادة وحدة ‘شييطت 13’، بالرعب، ويطلقوا النار على رؤوس المدنيين. وكان يكفي لعصا في يد مدني ان تسقط السلاح من ايدي افراد المجموعة الأولى التي حطت على سطح الباخرة التركية. صلافة القوة تقود في الغالب الى انهيار سريع عندما تُفاجأ بفشلها في اخافة الآخر وشلّ مقاومته. هذا ما شهده لبنان خلال حرب تموز 2006، كان صمود المقاومين كافياً كي يثير الذعر في صفوف جنود مقاتلي النخبة في الجيش الاسرائيلي ويدفعهم الى الهرب.
درس ‘مرمرة الزرقاء’ الاول هو ان الاسرائيليين لم يتعلموا شيئاً من عِبَر حرب لبنان الثانية، اذ لا تزال تكتيكاتهم قائمة على افتراض القدرة على شلّ ارادة المقاومة عند عدوهم، وهو افتراض تلاشى في حرب تشرين عام 1973، وتكسّر خلال غزو لبنان عام 1982، ولم ينجح في الانتفاضتين، ودُفن في حرب تموز 2006.
هزيمة 1967 كانت كارثة عربية، لا يزال المشرق العربي يعيش في ظلّ وطأتها، ولعل هذا الانهيار المصري المخيف، هو احدى نتائجها المباشرة. لكن ‘حرب الأيام الستة’ صنعت في المقابل اسطورة وهم التفوق الاسرائيلي المطلق، وقادت الى جنونين متشابكين:
جنون المسيانية الأخروية التي رأت في الحرب اشارات غيبية، واطلقت العنان لأصولية قومية فاشية.
وجنون القوة، الذي جعل الاسرائيليين يعتقدون ان فائض القوة هو ضمانة احتلالهم. فامتزجت جيمس بوندية العمليات الخاصة بعتو سلاح الطيران ووهم الميركافا التي لا تقهر، والاحتياطي النووي الغامض.
وحدة ‘شييطت 13’ سبق لها وان شاركت في عمليات خاصة كعملية ‘ربيع الشباب’ في فردان في بيروت عام 1973 حين قُتل كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار، واغتيال خليل الوزير في تونس عام 1988، لكنها منيت بفشل ذريع في انصارية عام 1997 حين سقطت في كمين نصبه حزب الله وقُتل 12 فرداً من عناصرها. هذه الوحدة كُلفت باقتحام سفينة ‘مرمرة الزرقاء’، وارتكاب المجزرة على متنها، وكان العالم بأسره يعرف ماذا يجري لكن الاسرائيليين حجبوا عنه الرؤية عبر قيامهم بالاعتداء على الصحافيين وتحطيم كاميراتهم.
اجمعت كل التعليقات الاسرائيلية على فشل العملية، بسبب الجريمة التي جرت على متن السفينة التركية، لكن ألا يحقّ للمراقب ان يشكّ في هذا، ويقدم افتراضاً معاكساً هو ان الجريمة كانت جزءًا اساسياً من العملية، وان الخطأ التقني لم يكن القتل، بل كان رعب الجنود الذين صُدموا بمقاومة الناشطين الدوليين للهجوم؟
هذا ما اشارت اليه حنين الزعبي، العضوة الفلسطينية في الكنيست الاسرائيلي، حين وقفت على منبر الكنيست، تواجه الذئاب بـ’ابتسامة الحمل’ وشجاعة الأبطال، وتتصدى لمن حاول منعها من الكلام، معلنة ان عدالة قضيتها اعطتها تفوقاً اخلاقياً كبيراً على من تلطخت ايديهم بالدماء.
نعم كانت ‘مرمرة الزرقاء’ فخاً سقطت فيه اسرائيل، لكنه فخ صنعته الدولة العبرية لنفسها. هنا تعود بي الذاكرة الى الشاعر المناضل توفيق زياد الذي لجأ الى بلاغة الفلاحين وحكمتهم مستعيراً هذه الصورة المجازية للإحتلال: ‘واوي بلع منجل’. لم نصدّق توفيق زياد يومها معتقدين انه كان يحاول التقليل من حجم الهزيمة المروعة التي سمّاها محمد حسنين هيكل ‘نكسة’على لسان جمال عبد الناصر. توفيق زياد كان على حق، فعواء ابن آوى الذي بلع منجلاً سوف يرتفع ما ان يقرر المنجل ان يتحرك.
بهذا المعنى صنعت ‘غزة الحرة’ وسفنها شكلاً جديدا للمقاومة. مواجهة الحصار والاحتلال على المستوى العالمي لا تكون بالانتظار او ببيانات الشجب، بل برؤية نضالية تملك الخيال والعزيمة، وتساهم في كشف العري الأخلاقي الاسرائيلي، امام اعين من رفض ان يراه حتى الآن.
المعركة طويلة، شهداء ‘مرمرة الزرقاء’ لن يفكوا الحصار، لكنهم رسموا الطريق بدمهم. المهم ان لا يكون في مقدور دعاة الاستسلام وايتام النفوذ الكولونيالي المتداعي التلاعب بهذا الدم وبيعه في سوق التسويات المذلّة.
المؤسسة العسكرية الاسرائيلية سوف تستمر في لعبة فائض القوة والتخويف. والجواب لا يكون الا عبر تأكيد ان اساس المشكلة هو الاحتلال، وان على الاسرائيليين ان يفهموا ان كل هذا الاستيطان الاستعماري للأرض الفلسطينية الى زوال. وهذا لا يكون الا عبر تعرية العنصرية الاسرائيلية اخلاقياً وتحدي غطرستها السياسية والعسكرية وتفتيتها.
صنعت اسرائيل الفخّ وسقطت فيه. اما بحرنا الأبيض، الذي احتضن دماء الشهداء، فسيبقى شاهداً على ان كل الغزوات لأرض العرب تحطمت واندثرت، وان مصير هؤلاء الغزاة الجدد لن يكون مختلفاً عن مصائر اسلافهم.
القدس العربي