رسائل بدماء قتلى أسطول الحرية
ميشيل كيلو
في المراجعة التي أجراها الجيش الإسرائيلي لحرب عام 2006، قال رئيس أركانه الحالي غابي أشكنازي ما معناه، لم يكن الجيش آلة قتل فعالة. يجب أن ندربه على القتل خلال السنوات الخمس القادمة، وأن نجعله يقتل العدو بلا رحمة، ومن دون تمييز.
تقول العمليات الحربية التي نفذها جيش العدو بعد عام 2006 إنه صار آلة قتل بلا تمييز أو رحمة. ويشير سلوكه خلال هذه العمليات إلى الاحترافية الرفيعة، التي بلغها في قدرته على القتل بلا تمييز، فقد قتل إبان حرب غزة من دون تمييز بين طفل وامرأة وشيخ، ودمر الزرع والضرع، ولم يوفر مسكناً أو مشفى أو مدرسة أو روضة أطفال أو مسجداً أو مزرعة أو ورشة حدادة. واعترف جنوده أن الأوامر الصادرة إليهم كانت تلزمهم بإطلاق النار على أي شيء يتحرك، ولعل عدد الأطفال المرتفع بين القتلى يكون خير شاهد على ما أراده أشكنازي: بناء جيش من القتلة، لا يراعي اعتباراً ولا يلتزم بعرف أو ميثاق، يقتل كل ما ومن تقع عينه عليه.
هذا الطابع برز في أشنع صوره خلال مجزرة أسطول الحرية، التي فاقت في وحشيتها ما عرفته غزة من وحشية مجنونة أثارت إدانة العالم بأسره، وأرعبت حتى حكومات الدول الصديقة لإسرائيل، التي أفزعها حجم الهمجية المصاحبة للقوة المستخدمة. في واقعة أسطول الحرية، لم يكن جيش العدو أمام أرض فلسطينية يعيش عليها أعداء بينهم حملة سلاح. ولم يكن حيال شبان مدربين أو متمردين، بل واجه جمهرة من الرجال والنساء تجاوز معظمهم الخمسين من العمر، لا يتقنون أساليب الحرب وفنون القتال، وليس في نيتهم خوض صراع، عنيف أو غير عنيف، مع أحد. رسالتهم سلمية ولا قصد لهم غير مد يد العون إلى شعب محاصر دونما سبب أو مسوغ أو حق. أضف إلى ما سبق أنهم لم يقصدوا غزة على متن سفن حربية، ولم يعلنوا أنهم في حالة حرب مع إسرائيل، أو يريدون إلحاق ضرر ما بمصالحها، أو المرور عبر مياهها الإقليمية وطرقها البرية. سأفترض الآن أن بعض الأتراك شبان وتلقوا خلال خدمتهم العسكرية تدريباً ما على السلاح، فهل كان هؤلاء مسلحين؟.
قال العدو: إن جنوده واجهوا سكاكين وعصياً، وأن الأتراك لم يكونوا يحملون أسلحة نارية، لذلك تغلب جنود وحداته الخاصة، المدربين على أفضل وجه، عليهم ببساطة، وكانوا يستطيعون انتزاع سكاكينهم وعصيهم من دون إطلاق نار، خاصة أن غالبيتهم تحترف مهناً سلمية لا تمت إلى أي سلاح بصلة، فهم من أصحاب الأعمال الفكرية والروحية، ويتوزعون على أطباء وبرلمانيين، رجال دين أو فنانين، شخصيات عامة أو صحافيين، فضلا عن أن نساء القافلة لم يكنَّ من فرق المظلات أو القتال القريب، وحملن الصفات عينها تقريبا، التي للرجال.
هل استخدم الإسرائيليون ما أسماه الرئيس الفرنسي وصديق إسرائيل ساركوزي قدراً مفرطاً من العنف كي يتغلبوا على هؤلاء المدنيين العزل من شيوخ ونساء؟ من السخف الشديد افتراض ذلك. هل استخدموا القتل الأعمى كي يثبتوا لرئيس أركان جيشهم أنهم صاروا آلة قتل بلا تمييز، التي وعد ببنائها خلال خمسة أعوام، وتقول التجارب الميدانية إنها اكتملت إعداداً وتجهيزاً ووحشية، ولم يبق إلا إفلاتها على أعداء إسرائيل أو من تظن أنهم أعداؤها، الذين يجب أن يروا بأعينهم ما سيجري لهم وبهم، إن واجهوا آلة القتل بلا تمييز؟. من المرجح أن الوحدات الخاصة الإسرائيلية كانت تبلغ رسالة إلى العالم عامة والعرب خاصة، تخبرنا أنهم سيذبحوننا واحداً واحداً، وفرداً فرداً، متى وقعت الحرب، فلا بديل لنا غير قبول الاحتلال، والعيش في كنف الخوف، والشعور بالسعادة لأنهم لم يقصفوا أعمارنا بعد، مع أنها في متناول أسلحتهم وأيديهم، متى شاؤوا! مهما كان دافع إسرايل، هذه هي الرسالة التي أرادت إيصالها: أعدوا أنفسكم للطحن بلا رحمة، وللقتل من دون تمييز. إن جيشنا صار جاهزاً، والحرب متى وقعت لن تكون مجرد حرب، والفراغ في المنطقة العربية إما أن تملأه إيران أو تركيا أو نحن. ونحن استكملنا استعدادنا للحرب ضد الجميع، بما في ذلك تركيا، التي تؤكد المجزرة أننا قررنا التعامل معها كما نتعامل مع إيران، وأننا لن نراعي في موقفنا منها أي اعتبار، ونريد عن سابق عمد وتصميم دفعها إلى الطرف الآخر، المقابل لنا، حتى لا يبقى أي مسوغ لدورها كوسيط بيننا وبين سوريا، ولا تدخل إلى فلسطين وتلعب دوراً مؤثراً فيها، وتدفن عملية السلام والتسوية من أساسها، ويوضع جميع من في المنطقة العربية والإقليم الشرق أوسطي أمام الحقيقة، وهي أننا لسنا ذاهبين إلى تسوية مع أحد، ولسنا مستعدين للحوار مع أحد، أو لقبول دور أحد، وأن الخلافات داخل الطبقة السياسية الإسرائيلية حول الطريقة الأمثل لإخراج إيران من الحدود الشمالية، ولفك علاقات سوريا معها، قد حسمت وانتهى أمرها بالنسبة إلينا، فنحن لن نفك علاقات سوريا مع إيران عبر انسحابنا من الجولان، ولن نبعد إيران عن حدودنا الشمالية، وإنما نريدها أن تحشد أكبر قدر من السلاح والرجال هناك، قبل ضربها بآلة القتل بلا تمييز، التي ذبحت شيوخاً ونساءً في أسطول الحرية كنا نعلم تمام العلم أنهم عزّل، وأن بوسع وحداتنا الخاصة التغلب عليهم بسهولة ومن دون استعمال أسلحة نارية، لكننا أردنا من قتلهم ضرب هذه العصافير الكثيرة بحجر واحد، وسترون في مقبلات الأيام أننا نجحنا. صحيح أننا دفعنا ثمناً من سمعتنا، السيئة أصلاً، لكننا سددنا بالمقابل منافذ كانت تأتينا منها الريح، وقضينا على خيارات وتخلصنا من بدائل كانت تحرجنا، في المنطقة والعالم، ووضعنا حداً لتخمينات وتقديرات وجهود أرادت الضغط علينا من خلال فتح أبواب للتسوية تخرجنا من الجولان وجنوب لبنان، وفتحنا الباب واسعاً أمام حسم ملف غزة، التي سيستمر حصارها من دون رحمة، وستجد نفسها في مواجهة حرب ستؤسس لنا موقعاً في نظام إقليمي هو اليوم قيد النشوء، سيخلصنا من العرب وسيمكننا ـ نحن أو أميركا ـ من التفاهم مع القوتين الإقليميتين: إيران وتركيا، ليس على التسوية والسلام، وإنما على الأدوار والتكوينات، التي يجب أن تقوم عند أطراف العالم العربي الخارجية، بين أعماق أفريقيا وجبال زاغروس، بينما تبقى الأرض لنا، ويتوطد سلام الأمر القائم غير التعاقدي، الذي أثبت رسوخه، ولن نمنع أحداً من اعتباره التسوية المنشودة.
ليس ما حدث لأسطول الحرية رد فعل على سكين هنا أو عصا هناك، استعملا ضد جنود الوحدات الخاصة الإسرائيلية. إنه رسالة محملة بدلالات خطيرة، أرسلها العدو في لحظة فائقة الحساسية إلى أطراف كثيرة، ليرسم من خلالها حدود ما يريده وما هو عازم على تحقيقه: بقوة آلة القتل بلا تمييز، التي يطلق عليها اسماً ساخراً هو «جيش الدفاع الإسرائيلي».
من مقتلة أسطول الحرية فصاعداً، لن يبقى شيء على حاله في علاقات إسرائيل مع جوارها ، ليس لأن العرب قرروا ـ لا سمح الله ـ تغيير الأحوال، بل لأن العدو قال لهم برصاصه وبدم شيوخ ونساء أسطول الحرية: إن حالهم لن يدوم، وإن «جيش الدفاع» سيكون وسيلة إسرائيل في التخاطب معهم، وأنهم سيجدون أنه إما في الطريق إليهم، أو تحت نوافذهم وأمام أبوابهم، أو داخل غرف نومهم!
السفير