أموات يحكمون الأحياء
د.خالد الحروب
كأن جحافل من العلماء والفقهاء الموتى, ممن كان لهم نصيبهم من الحضور والفاعلية في عهود مضت ويرقدون الآن في سلام منذ قرون خلت, لا يزالون أحياء وفاعلين بيننا. في كثير من الأحايين نراهم يشاركوننا النقاش والسجال, جاهزين لمساعدة فريق من المتناظرين ضد الفريق الآخر. نراهم وقد أصبحوا جزءاً من “آليات” الجدل والسجال و”الإفحام” الدارجة في أيامنا هذه، حيث الإحالة الدائمة واللانهائية إلى نصوص تراثية عتيقة, لا علاقة لها بالكتاب والسنة, لكنها منقولة على ألسنة تابعين أو شخصيات مشهورة أو رواة أو مفسرين أو أئمة كانوا كباراً في زمانهم ومكانهم. الاقتباسات النصية والتشبث بالنقل معناه الفوري والمباشر تحييد العقل وإقصاؤه. وتُحاط تلك الاقتباسات وقائلوها بهالة من القداسة والتبجيل المفتعل ويتم الارتقاء بها عن النقد والنقاش, بشكل لم يحلم به ولم يطلبه أصحابها الأصليون أنفسهم. فكلنا نعلم بعض التقاليد العميقة والرصينة عن كثير من الأوائل الذين أعتبروا ما قالوه وكتبوه رأياً من آراء قد يحتمل الخطأ قدر احتماله الصواب. كانت أدبياتهم موضع نقاش ونقد وأخذ ورد, وأحياناً استسخاف من قبل الأنداد والمتنافسين.
بيد أن كثيراً من الجدل الإسلاموي المعاصر يستند إلى تلك النصوص ويسعى بجدية إلى شل أي استخدام لتقص عقلاني, أي استخدام العقل الذي كان ذات مرة مركز التفكير والتحليل والإبداع في تراثنا وحضارتنا. وما يبعث على الإحباط المتواصل في راهننا اليوم رؤية القسم الأهم من الجدل والسجال حول الحاضر والمستقبل مشلولاً بالعودة “الإلزامية” إلى التاريخ للملمة حطام الموروث الذي تتم ترقيته إلى درجة قريبة من القداسة. ما الذي يمكن أن تفعله تلك النصوص العتيقة الموغلة في ظرفها التاريخي والزماني والمكاني إزاء تحديات الحياة المعاصرة اليوم؟ ماذا بوسع عالم أو فقيه مهما بلغ علمه وعظُم شأنه عاش في القرن الثامن أو التاسع الميلادي أن يقدم لمسلمي القرن الحادي والعشرين؟ ماذا يمكن أن يُقدم ذلك الفقيه وقد عاش في عالم محصور في بعده الجغرافي والديموغرافي والتجربة الإنسانية العامة التي كان يقف عليها, للمسلم المعاصر الذي تنفتح حياته على عوالم بلا حدود, وآفاق بلا نهاية, ويواجه قضايا بالغة التعقيد واحدتها تحبط جمهرة من فقهاء الماضي معاً.
لكن وطأة ثقافة الاقتباس منهم والإحالة عليهم, ورغم الصلة الواهنة لأولئك الفقهاء بحياتنا الراهنة, تجعلهم هم الذين يقودوننا ويوجهون على نحو كبير وخطير تفكيرنا وممارستنا. وهكذا تسيطر ثقافة علماء الأمس البعيد على ممارسة ومعاش أحياء اليوم. ويصير الأحياء مُتحكما فيهم وفي حاضرهم ومصائرهم من قبل الأموات بطريقة سوريالية حزينة. لكن الإطار المؤطر الأخطر لكل آليات الاقتباس والإحالة الماضوية تلك يكمن في خلع ونزع الشرعية عن الأفكار والممارسات والتوافقات الراهنة اعتماداً واستناداً الى تلك الماضوية, بما يحيل الحاضر والمستقبل معاً نتوءات زائدة على الأصل المُحافظ عليه -الماضي. أي فكرة أو ممارسة, خاصة إن كانت حديثة, في السياسة أو الثقافة أو الاجتماع أو الفن, عليها أن تبحث عن شرعيتها أولاً في تلك الماضوية, ثم تحصل على تصريح دخول الحياة عندنا. لا ينفع إن كانت قد أقنعت كثيراً أو قليلاً من الناس ورأوا فيها نفعاً هنا أو هناك, فإن أرادت أن تعيش في الحاضر أو تطمح لأن تروح إلى المستقبل فإن عليها أن تكتسب الشرعية من الماضي.
يتولد عن ذلك بشكل شبه آلي تنمية وإنعاش منطق الحلال والحرام بأضيق مفاهيمه وحشر الحياة برحابتها وتعقيدها ورماديتها رغماً عنها في هذا المنطق. وهنا ولأن العلماء الموتى كانت تجربتهم محدودة بما تيسر لهم من أفق الحياة الإنسانية آنذاك, وهم مع ذلك أصحاب يد طولى في تصريف شؤون أحياء اليوم, وباستخدام عصا الحلال والحرام التي تفرز ما يجوز وما لا يجوز في الحياة المعاصرة, فإن الخلاصة النهائية هي مزيد من التضييق على بشر اليوم. كأنه لا يكفيهم, هؤلاء البشر, خاصة في مناطق الفقر الطاحن, والمجاعات, والحروب, والأمراض, والاحتلالات, وغالبها مناطق مسلمين, كل ذلك الخناق المضروب عليهم حتى تأتي فتاوى مزيد من التضييق لتزيد “تمتعهم” بحياة الضنك التي يعيشونها!
لا مناص, والحال تلك, أن يصغر العقل الجمعي المسلم ويتردى إلى مرحلة طفولية وتصبح اهتماماته وملاحقاته لزواريب الحلال والحرام مدهشة, حيث تقوده إلى عوالم لا تخطر ببال عاقل. أليس من المُدهش مثلاً أن تصدر فتوى مسنودة بأقوال “جمهرة من علماء السلف الصالح” تحرم تصفح المرأة المسلمة للإنترنت من دون وجود “محرم” معها؟ ثم يأتي التسويغ على قاعدة أن المرأة في طبعها الشر والانحلال فإن تُركت لوحدها أمام “إغواء الإنترنت” فإنها ستنزلق فوراً إلى مهاوي الانحلال. أما الرجل, نموذج الخير والتقى, فهو بطبيعة الحال يصمد أمام فتنة الإنترنت ويظل محافظاً على نفسه من مخاطر الضلال والانحلال المنشورة على الإنترنت! أليس من المدهش أن يتزاحم “المُفتون” صغاراً وكباراً وهم يحملون أسفار الاقتباسات القديمة من كل نوع ليشاركوا في سجال عقيم ولا معنى له حول جواز أم عدم جواز الترحم على آمنة أم الرسول وفيما إن كانت مؤمنة أم مشركة! إن ما يحدث يعكس تردي عقل الأحياء, وسيطرة عقل الموتى!
في الثمانينيات نشر الصديق برهان غليون كتاباً بعنوان “اغتيال العقل”, ينعى فيه غياب العقل في مجتمعات العرب, لكن في نفس الوقت يقدم صرخة علها تُسهم في الدفاع عن ما تبقى من عقل عربي وإسلامي في العصر الحاضر. بيد أن الذي ظل يحدث من ذلك الحين وحتى الآن هو العكس تماماً: الانهيار المتتالي للعقل العربي والإسلامي. كما أن الهجوم عليه في أوطاننا العربية قد تفاقم, وتقوم على أطلاله الآن ثقافة مخجلة تعج بشعارات وعبارات سطحية وهستيرية. وبعض الدرس الذي ما زال يعسر علينا هضمه هو أن التخلف إذا أطبق على منطقة أو ثقافة أو حضارة أو عصر ما فإنه لن يترك مجالاً من مجالات الحياة إلا ويشله, سواء أكان اجتماعياً أم ثقافياً أم سياسياً: يترك وطأته وبصمته على الواقع البشري المعين برمته. ومن سوء حظنا أن هذا هو ما يحدث لنا الآن. ذاك أن أول رد فعل من جانب العقلية الطفولية يتمثل في رفض الإقرار بالتخلف. وهذا ينطبق على حالنا كثيراً. فعوضا عن الشروع بمساءلة الأسباب التي تقف وراء إعاقتنا التاريخية, نجد كثيرين منا يعيدون من دون كلل أو ملل تدوير المقولات الجوفاء عن الماضي التليد, والمستقبل الذي ينتظرنا بفارغ الصبر.
العزوف عن الإقرار الأولي بعمق التردي, والعزوف الموازي له عن الشروع في التفكير بأسبابه, وثيق الصلة بذهنية تسيطر عليها ثقافة استرجاعية تحوم حول “المركزية المطلقة للنص”, والتي تصل حد الهوس, فيما تتحق على حساب الاستدلال العقلي والفكر الحر. وأتعس ما في كل هذه الظاهرة هو أن هذه الثقافة الاسترجاعية واسترذالها للعقل والتفكير الحر متجذرة بعمق في النظام التعليمي في المدارس العربية والإسلامية. ولربما صار من الممل تكرار القول إن التغير في العقلية الإسلامية يبدأ من أحضان النظام التعليمي بكليته، أي إرساء نظام تعليمي يسمح بإعمال
جريدة الاتحاد
كل الأمم تفتخر بموروثها القديم وإن كان بمقدار حبة خردل أو قطرة مطر أو حبة رمل. لكن أبناء هذه الأمة تفننوا بالحط من قدر ماضيها وتسابقوا بل وتناحروا على التنكيل بتراثها وحضارتها, وكأنها للأسف (موضة) العصر والحديث وضريبة الحداثة. فهل من المعقول أن تقولب نتاجات عقول وأذهان جحافل علماء الأمة العظام الذين حملوا راية التنوير على مر العصور أقول هل من المعقول أن تقولب نتاجاتهم الفكرية وتختزل بمثل هذا العرض الذي قدمه الكاتب للقضية؟ والله إن هذا لظلم وإجحاف وتعدٍ لا يقبله المنصفين من أعدائنا فكيف بعقلاء الأمة. هل أصبح النتاج الفكري للفقهاء والعلماء سُبّة إلى هذا الحد وإلى هذه الدرجة, حتى أصبحنا نعيّر باتباعهم ويساء ويحط من حدة ذهنياتنا وذكائنا لأننا اتبعناهم , وهل إن رأينا بما من رأوا الصلاح والخير (ونحن أيضا أصحاب عقول ونستطيع أن نحكم) نكون قد عطلنا حواسنا وعقولنا؟ هذا والله إجحاف وتعدّ كبير. ألم يعلم الكاتب بأن أوروبا بإحيائها لهذا التراث الميّت (والذي قتلناه ودفناه نحن بأيدينا) دخلت عصر التنوير والنهضة المرفودة بكل فكر متبصر ثاقب؟
هل أخطأ الاوروبيون عندما استفادوا الاستفادة القصوى من علوم جحافل موتى علمائنا؟
أم أننا – وهذا أحد لوازم الحداثة التي نلهث خلفها- علينا أن ننبذ كل ما هو صحيح في ذاته وفي نفس الأمر وفي الواقع حتى نرضي غيرنا عنّا؟! أنا أرى أن الكاتب قد جانب الصواب في كثير مما طرح في هذا المقال, وتسرع في الحكم في مواضع كثيرة منه , وهو الذي من شأنه أن قدوة للآخرين لا مجرد مردد لكلام أقل ما يمكن أن يوصف به أنه ليس بموضوعي ولا أكاديمي ولم يراع أصول البحث التي درج عليها العلماء الأفاضل.