فيلسوف العقل العربي الحديث
د. برهان غليون
في كتاب “الخطاب العربي المعاصر” الصادر عام 1981، انتقد الجابري كتابي “بيان من أجل الديمقراطية” (1977) قائلاً: “نعم، إن الحاجة إلى بيان من أجل الديمقراطية قائمة فعلاً… غير أنه لن يكون لهذا البيان أي مفعول تاريخي، ولن يكون هو نفسه في المستوى المطلوب، ما لم يسبقه، أو على الأقل يرافقه، بيان من أجل العقل… العقل العربي بالذات”. وقصده أن إصلاح العقل هو المبتدأ، فما لم نصلح أداة تفكيرنا لن نستطيع التقدم في معالجة أي قضية من القضايا التي تشغلنا. ومن هنا، نظر الجابري إلى مهمته التاريخية على أنها إعادة بناء العقل العربي. وتستدعي إعادة البناء هذه العمل على ثلاث محاور رئيسة، يشكل النجاح فيها شرطاً لإطلاق النهضة العربية المنشودة.
الأول التحرر من سيطرة النموذج السلف، مقابل التفكير المستقل وغير المملي من قبل سلطة مرجعية جاهزة، سواء أكانت سلطة السلف الماضي أو السلف الحاضر. وهذا التحرر لا يعني شيئاً آخر سوى تقديم النقد على المحاكاة، والتفكير الحر على منهج قياس الحاضر على الغائب، واعتماد القياس الفقهي، وتوظيف الأيديولوجي للتغطية على النقص المعرفي، والتعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية. ومن هنا، أطلق الجابري على منهجه الفكري “العقلانية النقدية”.
والمحور الثاني، توحيد السلطة المرجعية. فتوحيد المرجعية أو إيجاد سلطة معرفية واحدة، بدل السلطتين المرجعيتين المتنافستين، واللتين لا يمكن التوفيق بينهما، هو شرط قيام وحدة فكرية تتجاوز القطيعة نحو التواصل والتفاعل والحوار بين تيارات الرأي العربية الخاضعة لإملاء سلطات مرجعية متنافية، هي التي تؤسس لصراعات، الإسلامي والعلماني، الأصولي والليبرالي، القومي والماركسي. وتشكل هذه الوحدة كذلك ضرورة للخروج من الأيديولوجيا نحو العلم والعقل.
وأخيراً، يدور المحور الثالث حول “الاستقلال التاريخي التام”. وهذا الاستقلال الذي يستعير الجابري مفهومه من غرامشي، هو الغاية الرئيسة للتحرر من نموذج السلف وتحقيق السلطة المرجعية الواحدة. وليس هدف النقد والتوحيد والتجديد سوى تحقيق هذا الاستقلال. وهنا تظهر خصوصية فكر الجابري مقارنة مع الحداثوية الكونوية السائدة منذ عصر الأنوار. فالاستقلال التام ضرورة لاستقلال الفكر ولتطوره وتعقلنه. لكن كيف يتحقق الاستقلال التام للذات العربية؟ الجواب في الرد على سؤال آخر: “ما الذي أفقد ويفقد الذات العربية استقلالها التاريخي؟ إنه الـ(نحن) و(الآخر). أي النموذجان اللذان يتجاذبان الذات العربية منذ بدء يقظتها الحديثة: نموذج السلف العربي الإسلامي ونموذج السلف الأوروبي. وإذن فسبيل تحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية هو التحرر من نموذج السلف المزدوج، أعني التحرر من سلطته (ما) المرجعية”، أو بعبارة أخرى: سلطة التراث وسلطة الحداثة الكونية.
لا يعني التحرر من هاتين السلطتين إسقاط التراث والحداثة، وإنما التحرر من سلطتهما المعرفية ببناء سلطة معرفية جديدة.
والتحرر من الغرب يعني التعامل معه نقدياً لا رفضه، “أي الدخول مع ثقافته، التي تزداد عالمية، في حوار نقدي، وذلك بقراءتها في تاريخيتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها في نسبيتها، وأيضاً التعرف إلى أسس تقدمه والعمل على غرسها أو ما يماثلها داخل ثقافتنا وفكرنا”.
وكذلك شأن التحرر من التراث؛ فهو لا يعني الإلقاء به في المتاحف أو في سلة المهملات، وإنما امتلاكه ومن ثم تحقيقه وتجاوزه. و”هذا ما لا يتأتى لنا إلا إذا قمنا بإعادة بنائه عبر إعادة ترتيب العلاقة بين أجزائه من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى، بالشكل الذي يرد إليه في وعينا تاريخيته ويبرز نسبية مفاهيمه ومقولاته. وكما أبرزنا ذلك في فصول هذا الكتاب، فإنه ما من قضية من قضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، إلا وكان الماضي حاضراً فيها كطرف منافس. لذلك يستحيل علينا نحن العرب أن نجد طريق المستقبل ما لم نجد طريق الماضي. وبعبارة أخرى لا يمكن للعرب أن يحلوا مشاكل المستقبل إلا إذا حلوا مشاكل الماضي”.
من هنا أيضاً الحاجة إلى عصر تدوين جديد يتجاوز التدوين الذي شكل البناء الثقافي العربي العام كما شهدته الثقافة العربية ابتداءً من منتصف القرن الثاني للهجرة. ومنطلق العصر الجديد وأداته الرئيسة نقد سلاح التدوين، أي إعادة بناء العقل، من حيث هو بلورة الخيارات الأساسية في الثقافة والأيديولوجيا والمعرفة العربيتين. وهذا ما يلقي الضوء على الكثير من المفاهيم والإشكاليات التي تطرق لها الجابري، كإشكالية الفصل والتمييز بين المعرفي والأيديولوجي، ومفهوم السلطة المعرفية، والوحدة المعرفية، وانفصال الفكر عن الواقع، ومنهج قياس الحاضر على الغائب والانغماس في النصوص وعدم إعمال التفكير في الواقع الفعلي.
الآن، ماذا تعني النهضة بوصفها المطلب الأساسي لمشروع نقد العقل وإعادة بنائه عند الجابري؟
لا ينتقد الجابري الحداثة ولا يعيد النظر فيها. وعلى هذا المستوى يشكل فكره امتداداً لفكر الإصلاحيين الإسلاميين الذين شقوا طريق التفكير في النهضة منذ نهاية القرن التاسع عشر. لكن بعكس هؤلاء، لم يبحث الجابري عن التوفيق بين الفكر الإسلامي والفكر العلمي الحديث، ولا سعى إلى ترجمة المفاهيم والمصطلحات الحديثة ترجمة عربية حتى يسهل تمثلها. منذ البداية كان يعتبر أن هناك سلطتين معرفيتين لا يمكن التوفيق بينهما. ما سعى إليه الجابري هو ما يمكن تسميته تأصيل الحداثة أو إعادة اختراعها في الثقافة العربية الإسلامية بدل تقليدها أو نقلها أو رفضها. ومجمل فلسفته يصب في خطاب التأصيل: تأصيل الحداثة من خلال إعادة تشكيل بنية الثقافة العربية التاريخية ذاتها، أي إعادة بناء العقل العربي الذي يستوطن هذه الثقافة من حيث هو عقل حديث أو مساوق للحداثة.
ومن أجل ذلك، سعى الجابري إلى القيام بمسح شامل للتراث لتفكيكه وتحليله، كما سعى إلى خلخلة العقلية أو الثقافة العربية السائدة، المشجعة على الركود والانحطاط. وبعكس العديد من المجددين الذين سبقوه، لم يكتف الجابري بالفرز الآلي بين عناصر هذه الثقافة واختيار ما اعتبره إيجابياً فيها ورمي ما هو سلبي، ولا اعتبر نقد التراث تنقية له من الشوائب، أو نفض الغبار عما خفي من عناصر الجدة فيه، كما لو كانت عناصر النهضة موجودة مسبقاً ولا تنتظر إلا من ينفض الغبار عنها… بل طبق على هذه الثقافة منهجاً ديناميكياً حاول من خلاله إعادة تركيبها على توازنات جديدة تتيح لمنهج العقل أن يحتل المكانة الرئيسة فيها، في مقابل وإلى جوار المناهج الأخرى.
فالجابري من جيل نقاد الفكر العربي الذي افتتحه العروي بكتابه الأيدولوجيا العربية المعاصرة. لكن الجابري لم يقتصر أو يشأ أن يقتصر على نقد الأيديولوجيا، ولا على إعادة بناء المفاهيم الحديثة وضبط معانيها، وإنما أراد الذهاب بنقده إلى الأسس المعرفية للثقافة العربية، أي إلى بنياتها العميقة الموروثة والمستمرة في تأثيرها إلى اليوم. وهذا ما دفعه للعودة إلى عصر التدوين، والحديث عن عصر تدوين جديد. فكان نقد الجابري نقداً للتراث أولاً بهدف إصلاح العلاقة بين التفكير في الواقع والمرجعية المعرفية، كأساس النهضة، وبالتالي ولوج الحداثة والمعاصرة. ونقد التراث على ضوء العقل لم يكن في الواقع سوى إعادة بناء مفهوم العقل ذاته، أو تأسيس عقلانية جديدة لا تقطع مع التراث بقدر ما ترفض نسخه وتقديسه لتبقى ثقافة مفتوحة على المستقبل. إنه بحق فيلسوف العقل العربي الحديث.
الاتحاد