الموقف الماركسي من -الظاهرة- الدينية
غياث نعيسة
” الدين هو صرخة الكائن المضطهد و قلب عالم بلا قلب و روح ظروف بلا روح….”
كارل ماركس
يعود ، منذ وهلة، في أوساط اليسار الراديكالي عموما و الماركسي خصوصا وعلى الصعيد العالمي اهتمام و حوار حول دور الدين ، أو العامل الديني ، في الصراعات الاجتماعية الداخلية أو على صعيد الصراعات الدولية و الإقليمية ، وتحديد الموقف منه.
لقد أدخلت الإدارة الأمريكية العالم منذ بدايات القرن الحادي والعشرين في عصر أطلقت عليه مصطلح “الحرب على الإرهاب” و هو ما عني بشكل شبه حصري حرب على كل القوى و الدول المعادية للمشاريع الامبريالية بدءا من أفغانستان إلى العراق و لبنان و فلسطين و غيرها من البلدان. ولم يكن غريبا أن تترافق هذه الحرب الامبريالية المتوحشة والفعلية مع حرب نفسية و إيديولوجية جعلت من “الإسلام” – كدين شعبي و ليس كدين رسمي لأنظمة موالية أو عميلة للامبريالية- عدو يجب تطويعه و إدانته وخلق شعور بالعار أو بالخوف لمجرد الانتماء له.
و ما حصل من تأثيرات لهذه السياسة الامبريالية العنيفة لم يكن إلا تحصيل حاصل : حروب مدمرة ، وكره للإسلام في الدول الغربية ليس له مثيل في القرن العشرين ، و إعلان مواقف حكومية لمنع النقاب في فرنسا و غيرها أو ما سمي قبل عامين بمنع المظاهر الدينية في المدارس بشكل خاص و التي لم تكن تعني إلا مظاهر الانتماء الإسلامي التقليدي في اللبس.
لقد ارتبك بعض اليسار الماركسي نفسه في تقدير الموقف من “الوعي الديني” باعتباره يمكن أن يشكل عند “المؤمنين”نوع من أنواع الهوية المركبة لكل مواطن. فقد وقف قسم من اليسار النضالي –كالعصبة الشيوعية الثورية في فرنسا- مع القانون المحرم للمظاهر الدينية الذي أصدرته حكومة يمينية. كما تعالت أصوات أخرى تعلن مدى تخلف “الإسلام” في تعامله مع المرأة ، و صدحت أصوات أخرى تعلن الميل العضوي للإسلام كدين يقوم على الإكراه و العنف وبالتالي على الإرهاب و ساهمت في إشاعة ظاهرة معاداة الإسلام في الغرب أو الاسلاموفوبيا… و أخيرا أثار قرار الحزب الجديد المعادي للرأسمالية في فرنسا في ترشيح إحدى عضواته “مسلمة” و تغطي شعرها في الانتخابات الإقليمية القادمة في آذار/مارس إلى ضجة كبيرة داخل الحزب و خارجه و حركة احتجاج لقطاع من أوساطه.
هذه المواقف الملتبسة و المرتبكة لليسار الأوربي تجد شبيها لها في بلداننا، فيصدح البعض بالقول بتماثل “القوى الإسلامية” مع الفاشية ويضع مواجهتها على قائمة أوليات برامجه . ويتخذ مواقف تقوم على إدانة رجعية “القوى” الإسلامية بغض النظر عن موقفها المعادي للامبريالية.
يضاف إلى هذا اليسار العقائدي و المناهض للوعي “الديني” باعتباره “رجعيا بالمطلق” بعض الكتاب الناقدين والمعادين للدين الإسلامي أو القوى الإسلامية باسم ضرورة الانتقال إلى “الحداثة” و “التنوير” في بلادنا.
الماركسية و الدين
في الواقع ، أن الفهم الماركسي لدور الدين – في كتابات ماركس و انجلز- كما الوعي الديني نفسه في مجتمع محدد يتسمان كلاهما بطابع مزدوج .
فإذا كان شائعا أن تعريف ماركس للدين بأنه “أفيون الشعوب” وهو تعريف يتشبث به بعض “الماركسيين” و المعادين للماركسية بنفس الوقت. لكن موقف ماركس و انجلز من الدين لا يمكن اختزاله في هذه الجملة المبتسرة من سياقها وحدها ، و لا في التفسير الشائع لها.
مثلما لم يحظ الوعي الديني و دوره في الصراعات الاجتماعية بدراسات ماركسية جدية أو جديدة، بل اجتر عدد من الماركسيين مواقفهم السياسية من الدين من التفسير(أو بالأحرى سوء التفسير) الشائع لبعض نصوص ماركس أو انجلز. و خصوصا في كتابه” نقد فلسفة الحق لهيغل” حيث اعتبر ماركس أن نقد الدين في ألمانيا قد أنجز ” وان على نقد الدين أن يتحول إلى نقد السياسة ، ونقد الجنة أن يتحول إلى نقد الأرض ” .
تنحصر معظم كتابات ماركس حول الدين في مرحلة شبابه ، و لاسيما مقاله حول” نقاشات حول حرية الصحافة والنشر..” و كتابه “مساهمة في نقد فلسفة الحق لهيغل” و خاصة المدخل المنفصل عنها ، و “اطروحات حول فيورباخ” . كما نجد في أعماله الأخرى وخاصة رأس المال ملاحظات وتعليقات و هوامش حول الدين.
في حين أن انجلز كتب عدد من الأعمال الفكرية الأساسية حول الدين مثل “رسائل من ويبرتال” و ” حرب الفلاحين في ألمانيا ” و “برونو باور والمسيحية الأولى” و ” كتاب الوحي” و في نهاية حياته كتابه “حول تاريخ المسيحية الأولى” . إضافة إلى عدد من المراسلات والقصائد. هذا دون أن ننسى عملين مشتركين بين ماركس و انجلز هما “العائلة المقدسة” و “الايديولوجيا الألمانية”.
وماركسية اليوم ؟
ربما ، يمكن القول أن عدد من الكتابات الماركسية الحديثة حول الحركات الدينية الحديثة و خصوصا الإسلامية، على قلتها ، تشكل مساهمة جادة في الإجابة على تحديات الوقائع الجديدة و تطوير هذا الجانب الفكري و العملي للماركسية في تعاملها مع الدين و الوعي الديني .. خصوصا في منطقنا.
لقد كان لمقال المفكر الماركسي جيلبير الأشقر المعنون “11 أطروحة حول الانبعاث الراهن للسلفية الإسلامية” المنشور عام 1981 أهمية في قراءة الوقائع الجديدة لنهوض الحركات السياسية الإسلامية- التي وصفها كلها بالسلفية- في منطقتنا و محاولة تقديم تحليل ماركسي لهذه الظاهرة و الموقف منها ، و إن اتسم مقاله بالارتكاز على فكرة أساسية لا لبس فيها هي أن القوى “السلفية” في إيديولوجيتها وفي برنامجها رجعيان في جوهرهما . واعتبر أن كل أمثلته تقدم الدليل على أن كل هذه الحركات السلفية هي “قوة إعانة للبرجوازية الرجعية”. و عانت هذه المقالة من علة الموقف “الماركسي” التقليدي و الأوربي-المركزي باستناده على علمانية راديكالية و معاداة للدين بشكل عام. و قد طور جيلبير أشقر اطروحاته هذه و خلصها نسبيا من علتها المذكورة في مقاله ” الماركسية و الدين ، البارحة واليوم”، الصادر عام 2004 .
لكن الدراسة الماركسية المتميزة حول الموضوع كانت لكريس هرمان المفكر الماركسي البريطاني الذي توفي نهاية العام الماضي في القاهرة ، و المعنونة ” النبي و البروليتاريا” الصادرة عام 1994 . إذ انه لا يقوم فقط على عرض تاريخي للموقف الماركسي من الدين ، بل انه يحلل الوقائع الملموسة في عدد من البلدان “الإسلامية” و الحركات الدينية السياسية والإيديولوجية فيها ويرصد تناقضاتها على ضوء الصراعات الاجتماعية من وجهة نظر ماركسية ليستخلص إلى” أن الاشتراكيين قد اخطئوا في النظر إلى الحركات الإسلامية على أنها اتوماتيكيا “رجعية” و “فاشية” أو أنها اتوماتيكيا “معادية للامبريالية” و “تقدمية” . إن الحركة الإسلامية الراديكالية ، بمشروعها في إعادة تشكيل المجتمع على النموذج الذي أقامه محمد في القرن السابع في الجزيرة العربية ، في الواقع هي “طوبى” نابعة من قطاع بائس من الطبقة الوسطى الجديدة . و كما في أي “طوبى برجوازية صغيرة” ، فان مؤيديها في الممارسة يواجهون الاختيار بين محاولات بطولية عبثية لفرضها في مواجهة أولئك الذين يديرون المجتمع الحالي ، أو المساومة معهم، بتوفير طابع إيديولوجي زائف لاستمرار القمع و الاستغلال . و هذا هو حتما ما يؤدي إلى الانشقاقات بين الجناح الراديكالي الإرهابي من الحركة الإسلامية من جانب ، و الجناح الإصلاحي من الجانب الآخر. و هذا هو أيضا ما يدفع بعض الراديكاليين إلى التحول عن استخدام السلاح في محاولة إلى تأسيس مجتمع بدون”طغاة” إلى استخدامه لفرض أشكال السلوك “الإسلامي على الأفراد”. ويتوصل هرمان إلى الاستنتاج العملي التالي ” سوف نجد أنفسنا في بعض القضايا في نفس الجانب مع الإسلاميين ضد الدولة و الامبريالية .كان ذلك مثلا في عدد من البلاد أثناء حرب الخليج الثانية . ويجب أن يكون صحيحا في بلاد مثل فرنسا و بريطانيا في مواجهة التمييز العنصري. و عندما يكون الإسلاميون في المعارضة، فان شعارنا يجب أن يكون “مع الإسلاميين أحيانا/ ودائما ضد الدولة” ولكن حتى في ذلك الوقت تستمر معارضتنا للإسلاميين حول قضايا أساسية. فنحن مع الحق في نقد الدين كما أننا مع الحق في ممارسته…. والاهمذلك،لك ، نحن ضد أي إجراء يضع قطاعا منالدولة،ين و المستغلين في مواجهة قطاع آخر على أساس أصولهم الدينية أو العرقية . و يعني ذلك أننا كما ندافع عن الإسلاميين ضد الدولة ، فإننا سوف ندافع ضد اضطهاد بعض الإسلاميين للنساء و …عندما نجد أنفسنا في نفس الجانب مع الإسلاميين ، فان جزء من مهمتنا هو الجدال الشديد معهم وتحدبهم ليس فقط في موقف منظماتهم من المرأة و الأقليات و لكن أيضا المسألة الجوهرية ما إذا كان المطلوب التصدق من الأغنياء أو الإطاحة بالعلاقات الطبقية القائمة”.
شكلت مقالة هرمان منعطفا هاما و رؤية جديدة- وان لم تجب على كل التحديات التي طرحتها ظاهرة النهوض الإسلامي – في طريقة تحليل و تعامل اليسار الماركسي مع ظاهرة اجتماعية و سياسية جديدة هي نمو الحركات الإسلامية وتزايد نفوذها الجماهيري بشكليها الإصلاحي أو المتشدد في معظم البلدان الإسلامية. وان شكلت ، في الوقت نفسه ،صدمة و اعتراض لدى بعض الماركسيين الحاملين للتفسير الشائع و القديم بان الماركسية تعني حتما عداءا للدين والمتدينين فحسب.
“يسار” ديني !
و هنا تندرج مقالة الفيلسوف الماركسي ميشيل لووي – فرنسي من اصل أرجنتيني- عام 2005 بعنوان ” أفيون الشعوب؟ الماركسية النقدية والدين” ، لتشكل ، في سياق اهتمامه المعروف بلاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية ، خطوة هامة في إجلاء التطور التاريخي للموقف الماركسي من التدين والدين وفتح أفاق فكرية جديدة له ، وقد تميزت مقالته بطابع انطولوجي ممتع بفضل تأثره العميق بالهيغلية، و ركزت بنتائجها على ظاهرة لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية ، متجاهلة ظاهرة هامة جدا في الصراعات الاجتماعية والدولية هي الظاهرة ” الإسلامية”.
وينطلق لووي من قناعة بان كلا من أتباع و معادي الماركسية يتفقان على نقطة واحدة أساسية هي ” أن الجملة الشهيرة لماركس : الدين أفيون الشعوب، إنما تمثل زبدة الفهم الماركسي للظاهرة الدينية، بينما الحقيقة هي أن هذه الصيغة لم تكن حصرا أو خصوصية للماركسية”.
و يسرد لووي و يؤكد باستشهادات كيف أن هذه الجملة، أو ما يشابهها، نجدها في كتابات لمفكرين آخرين غير ماركس مثل “كانت و هيدر و فيورباخ و برونو باور و آخرين كثيرين”.
و يدعو لووي من اجل فهم أفضل للظاهرة الدينية إلى الاستعانة بحدس ارنست بلوخ ، لأن ” ارنست بلوخ يرى كما ماركس عام 1844 أن للظاهرة الدينية طابع مزدوج ، طابع قمعي وفي نفس الوقت كمون تمردي” . حيث أن بلوخ يرى في الصيغ التمردية و الاحتجاجية للدين ” احد أهم الأشكال للوعي الطوباوي ، و احد أغنى التعبيرات عن مبدأ الأمل و احد المتخيلات القوية(لما لم يقم بعد)”. بالرغم من أن ماركس و انجلز اعتقدا بان الدور التمردي للدين قد أصبح ظاهرة من الماضي ، و لم يعد له أهمية في عصر صراع الطبقات الحديث . و في حين تبين أن توقعهما ” كان صائبا لمدة قرن ” إلا من “بعض الاستثناءات الهامة وخصوصا في فرنسا ، التي شهدت الاشتراكيين المسيحيين في سنوات الثلاثينات والرهبان العمال في الأربعينات ويسار النقابات المسيحية في الخمسينات..الخ”.
و مع أن الطابع الاحتجاجي للدين قد برز مرة أخرى منذ أواخر القرن العشرين ، إلا أن الاستنتاج العملي الوحيد لمقالة لووي اقتصر على دعوته إلى انه ” من اجل فهم ما يجري منذ ثلاثين عاما في أمريكا اللاتينية – لاهوت التحرر و مسيحيين من اجل الاشتراكية- يجب أن نأخذ بعين الاعتبار حدس بلوخ حول الكمون الطوباوي لبعض التقاليد الدينية”. يقر لووي بشكل “خجول” بوجود “يسار” مسيحي ، و إن لم يتطرق في مقالته للظاهرة الإسلامية فلأن ميشيل لووي ، باعتقادنا ، لا يرى مثيلا له فيها.
أكثر من أفيون
بعد كشف الطابع المزدوج للظاهرة الدينية ، والتقاط الطابع الاحتجاجي لبعض تجلياتها في شروط تاريخية محددة ، تأتي مقالة المفكر الماركسي البريطاني جون مولينو بعنوان “أكثر من أفيون: الماركسية والدين” المنشورة عام 2008 ، كاستكمال و تعميق لدراسة كريس هرمان المذكورة أعلاه.
ينطلق مولينو من مقولة أساسية لفهم “الظاهرة”الإسلامية ، تنسف الادعاءات الإيديولوجية السائدة المعادية للإسلام و المسلمين ، حيث يوضح بأن ما يجعل الإسلام اليوم في قلب الأحداث العالمية ليس طبيعته الاستبدادية الخاصة به وحده أو طبيعة لاهوته أو عقائده بخلاف أي دين آخر، بل أن ما يضعه في هذا الموقع اليوم هو ” أولا، أن غالبية السكان التي تقطن فوق اكبر احتياطي البترول والغاز الطبيعي في العالم هي مسلمة. وثانيا، أن مقاومة هذه الشعوب للامبريالية ،منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 ، اكتست صبغة إسلامية”.
حيث انه لو كانت شعوب الشرق الأوسط بوذية لكنا وجدنا أنفسنا في مواجهة ظاهرة”البوذوفوبيا” (أي كره البوذية). و مؤكدا على أن الاسلاموفوبيا كمكون إيديولوجي للطبقة السائدة في الغرب إنما “تطورت على الصعيد الداخلي والعالمي باعتبارها مجرد غطاء إيديولوجي أساسي لتبرير الحروب الامبريالية”.
ويعيد مولينو قراءة الماركسية للدين و دوره ، انطلاقا من أن الوعي الديني كأي وعي آخر له أساسه المادي فليس وعي البشر هو من يحدد وجودهم ، بل على العكس، فان وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم(ماركس ، مدخل لمساهمة نقد الاقتصاد السياسي).
و يصر مولينو على التأكيد على الطابع المزدوج للموقف الماركسي من الدين ، إذ انه ” من جهة، هو موقف مادي حازم ، يرفض الإيمان الديني بكل أشكاله، لأن الأفكار الدينية مثلها مثل كل الأفكار هي منتجات اجتماعية وتاريخية، أي أنتجها البشر” ولكن على الماركسية ” من جهة أخرى، أن تقدم تفسيرا ماديا للدين. فلا يكفي القول بأن الدين عموما أو دين محدد بشكل خاص هو مجرد أوهام تستولي على عقول الملايين من البشر ، لأنه “في هذه الحالة يخطئ الموقف الماركسي في مساواته بين عقائد دينية في دول امبريالية وبين عقائد دينية لشعوب مضطهدة”.
فالموقف الماركسي بحاجة إلى “تحليل الجذور الاجتماعية للدين بشكل عام و لعقائد دينية محددة…للتوصل إلى فهم الاحتياجات الإنسانية الحقيقية وللشروط الاجتماعية والنفسية والتاريخية التي تتطابق هذه العقائد معها”.
و يعيد مولينو الاعتبار لنص لماركس يعتبره هام جدا و”مقلوب” للعالم كاف، و لم يحظ ،برأيه، باهتمام أو انتشار جديرين به وهو مقتطف من “المدخل إلى نقد الاقتصاد السياسي لماركس” ، و علينا أن نقر سلفا انه نص مكثف جدا و صعب وليس سهلا ترجمته بأمانة إلى العربية.إذ يقول ماركس إن ” الدين هو بالفعل وعي ذاتي واعتبار ذاتي لإنسان لم يستعيد بعد اعتباره لذاته أو قد فقده من جديد. لكن الإنسان ليس كائنا مجردا يحيا خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان –أي- الدولة والمجتمع . وهذه الدولة وهذا المجتمع ينتجان الدين الذي هو وعي “مقلوب” للعالم. لأنهما-يقصد الدولة و المجتمع- مقلوبان. الدين هو نظرية عامة عن العالم ، وهو موسوعته وملخصه ، انه منطقه في صورته الشعبية ، وهو النقطة الروحية المضيئة له وهو حماسه وعقابه الأخلاقي و ملحقه الشعائري ومبدأه العام في عزاء النفس وتبريرها. إن الدين هو التحقق المذهلهو،وهر الإنساني من اللحظة التي لم يعد فيها الجوهر الإنساني يتطلب واقعا حقيقيا. لذلك فان الصراع ضد الدين هو ، بشكل غير مباشر، صراع ضد عالم نكهته الروحية هي الدين”.
ليس مهمة الماركسية النقاش المجرد للأفكار عموما أو الأفكار الدينية بشكل اخص إلا بالدرجة التي تعبر فيها الأخيرة عن مصالح اجتماعية فعلية. فالقراءة التاريخية للتيارات الدينية أينما كانت تظهر أنها كانت تعبيرا في كل مجتمع عن مصالح اجتماعية محددة فيه ، ومن هنا أهمية ما طرحه انجلز في “الاشتراكية الطوباوية والعلمية”(مدخل الطبعة الانجليزية لعام 1892 ) : ” خلف كل دعوة دينية كان يوجد، وفي كل مرة، مصالح مادية ملموسة”.
محاور الموقف الماركسي
يؤكد الاشتراكيون الماركسيون- في إطار عرضنا السابق وما اختتمه مولينو- أنهم ، بخلاف ما هو شائع، يعارضون فكرة منع الدين . وهذا موقف سبق أن أعلن عنه الدين،ام 1874 . وهم ليسوا فقط ضد فكرة منع الدين ، بل أن الماركسيين يعتبرون أن الدين يجب أن يكون شأنا شخصيا في ما يخص علاقته مع الدولة . و أن تصان الحرية الدينية كاملة في ظل الرأسمالية الآن و الاشتراكية في المستقبل. وهو موقف يتوافق مع ما عبر عنه لينين عام 1905 في “الاشتراكية و الدين” حيث شدد لينين على انه” لا يجب أن يكون للدين علاقة بالدولة، و لا يجب أن يكون للهيئات الدينية صلة بالسلطة الحكومية. ومن حق كل فرد أن يكون حرا في ممارسة الدين الذي يرغب به، أو أن لا يرغب بأي دين كائنا ما كان، أي أن يكون ملحدا، وهو حال كل اشتراكي كقاعدة عامة”.
إن الوسيلة الوحيدة التي يعتقد الماركسيون بزوال الدين من خلالها هي اندثاره التدريجي كنتيجة لزوال أسبابه الاجتماعية كالاستلاب و الاستغلال والاضطهاد..الخ . و ليس أبدا من خلال استخدام وسائل المنع أو القمع.
ينطلق الماركسيون في تحديد موقفهم من الحركاتأنصارها،ذات الطابع الديني، وهي عديدة و متنوعة، من تحليلهم لدورها السياسي والاجتماعي الذي يستند على القوى و المصالح الاجتماعية التي تعبر عنها. و ليس من ماهية معتقدات قادة هذه الحركات أو أنصارها ، ولا من تحليل الماركسيون لعقائد ولاهوت الدين المعني.
و لهذا فا ن الاشتراكيين الماركسيين يرفضون فكرة المفاضلة بين هذا الدين أو ذاك بحجة أن معتقدات هذا الدين أو ذاك تجعل منه دينا أكثر تقدمية أو رجعية من الآخر. ما هو حاسم بالنسبة لهم ليس المعتقد الديني نفسه بل قاعدته الاجتماعية في ظرف اجتماعي محدد.
من يقوم بالثورات و التغيير هم العمال و الجماهير بما فيهم المتدينين، و في البلدان التي تطغى فيها المشاعر الدينية فان الحزب العمالي الاشتراكي يعلم أن الغالبية العظمى من العمال والجماهير لن تتحرر من أوهامها الدينية بفضل السجالات الفكرية أو الكتب و الكراسات ، بل هي ستتحرر من أوهامها من خلال المشاركة في النضالات و التغيير ومن ثم من خلال بناء الاشتراكية.
في هكذا شروط ، أي في بلدان تطغى فيها المشاعر الدينيحقا،ن واجب الحزب العمالي الاشتراكي أن يعمل من اجل أن لا يؤدي التمييز بين العمال المتدينين و اللامتدينين إلى عرقلة وحدة نضال الطبقة العاملة والجماهير.
وفي حال أصبح الحزب العمالي الاشتراكي حزبا جماهيريا حقا ، يعمل في أوساط الطبقة العاملة والجماهير الشعبية في أماكن عملها وسكنها، فانه سيجد حتما في صفوفه شريحة من العمال التي بقيت متدينة أو شبه متدينة . إن رالحزب، هؤلاء العمال في صفوفه بسبب أوهامهم الدينية سيكون موقفا عصبويا و مثاليا. لأن الحزب ،في هذه الحالة ، يتعامل مع الوعي (وهنا نقصد الوعي الديني) باعتباره أعلى أهمية من الممارسة ، فهو إذن موقف مثالي ولا مادي.
في الوقت ذاته، لا يعني هذا ، بل و لا يجب، أن يتحول الحزب العمالي الجماهيري إلى حزب ديني ، أو حزب تقوم سياساته أو إستراتيجيته أو تكتيكاته على التأثر بالاعتبارات الدينية. فالنضال العمالي والجماهيري الشعبي لهكذا حزب توجهه نظرية تعبر عن المصالفيهم،مة والمشتركة لنضال الطبقة العاملة : هي الماركسية ، من وجهة نظرنا. لكن على الحزب العمالي أن ينمي تثقيف وتعليم أعضائه المتدينين و التأثير فيهم ، وليس العكس.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي سابقا و دول أوربا الشرقية تفكك و انهار اليسار الراديكالي عموما والماركسي خصوصا على الصعيد العالمي ، بيد أن نهوضا ملحوظا له بدأ منذ عام 1995 ، مما يستدعى طرح إستراتيجية جديدة لإعادة بنائه في بلادنا بالارتباط مع ضرورة بناء أحزاب يسارية واسعة ، و هذا يتطلب منا قراءة جديدة لسياسات التحالفات تعترف أولا بتعددية وتنوع أطياف اليسار. وهذا ما يستحق دراسة خاصة له انطلاقا من واقع بلادنا.
شباط/فبراير 2010
كاتب سوري مقيم في فرنسا
خاص – صفحات سورية –