صفحات مختارة

الاستشراق العربي تجاه إيران

خليل العناني *
نمط جديد من الاستشراق يمارسه بعض العرب تجاه إيران. فالتغطية التي يقوم بها بعض الفضائيات والصحف العربية للأزمة الإيرانية مع الغرب لا تختلف كثيراً عن تلك التي تقوم بها الصحف والدوائر البحثية الغربية، إن لم تكن أسوأ. ومن المحزن أن يسير بعض المثقفين العرب وراء الموجة الغربية التي تحاول تهيئة المناخ من أجل توجيه ضربة عسكرية لإيران، تماماً مثلما كانت الحال قبل غزو العراق عام 2003.
الاستشراق كما عرّفه الراحل إدوارد سعيد، هو نوع من التفكير المحمّل بأعباء التاريخ والصور النمطية تجاه «الآخر»، وهو يحجب جزءاً كبيراً من الحقيقة عن هذا «الآخر»، إما نتيجة انطباعات خاطئة وقلة معرفة، وإما بهدف التغطية على مصالح سياسية. وهذا ما حدث تماماً للفكر الغربي تجاه العرب والإسلام والمسلمين طيلة القرون الثلاثة الماضية.
وبنفس المنطق واللغة، يتم الآن استحضار الخطاب الاستشراقي الغربي تجاه إيران، وهو ما يمكن قراءته بسهولة من خلال تفكيك المقولات الصريحة والمضمَرة لهذا الخطاب، وأولها مقولة أن إيران تمثل خطراً داهماً على النموذج الغربي «الحداثي» وتجلياته فى المنطقة، وذلك كونها الدولة الوحيدة التي ترفض تطبيع علاقاتها مع الغرب منذ حوالى ثلاثة عقود أي منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وحتى الآن. وهنا يتكتل الغرب، شعوباً وحكومات، ضد ما يتم اعتباره المنافس الوحيد للمشروع الغربي القائم على الحداثة والمدنية (والاعتدال)، وهو ما جرت بلورته بوضوح في مقولة «الممانعين» والمقاومين التي صاغها المحافظون الجدد.
المقولة الثانية هي أن إيران تمتلك مشروعاً توسعياً (وربما إمبريالياً) في المنطقة مدعوماً بالقوة النووية، ويسعى لإحياء الأمجاد الغابرة للدولة الصفوية. وهو ما لا يختلف كثيراً عن تلك المقولة الاستشراقية الراسخة حول الإسلام والمسلمين الذين (يسعون الى استعادة أمجاد الخلافة الإسلامية تمهيداً لإعلان الحرب على الغرب وهزيمته).
وهي مقولة متهافتة لسببين أولهما أنها تجتزئ التاريخ كي تبني عليه نماذج معرفية تمكنها من حصار «الآخر» ومعاقبته سياسياً تحت غطاء ثقافي وحضاري. ثانيهما، أنها تنقض نفسها بنفسها من خلال القيام بدور الجلاّد والحَكَم فى آن واحد. فمعاقبة الغرب، ومعه بعض العرب، لإيران لا تستند الى مخالفة هذه الأخيرة أو انتهاكها الصريح لقواعد القانون الدولي، على الأقل مقارنة بما تفعله إسرائيل وكوريا الشمالية، أو ما قامت به أميركا في حربيها على أفغانستان والعراق، وإنما على فرضية خروجها عن المجتمع الدولي الذي هو هنا مرادف للأحادية السياسية الجديدة التي يتم رفعها في وجه المخالفين للنموذج الحداثي الغربي شكلاً ومضموناً.
وتبدو المفارقة بوضوح عندما تتم مقارنة السلوك العربي تجاه إيران بنظيره تجاه تركيا. فعودة هذه الأخيرة الى المنطقة بهذا الزخم والقوة لم تدفع أحداً كي يجترّ تلك المقولة الكلاسيكية حول (إحياء أمجاد الخلافة العثمانية) أو أن يتهِّم أردوغان ورفاقه بمحاولة بسط هيمنتهم على المنطقة. بل على العكس فإن هناك ترحيباً رسمياً وشعبياً بهذه العودة، وثمة دعوات لزيادتها وتكريسها من خلال روابط وعلاقات تجارية واقتصادية. صحيح أن تركيا ليست لديها «نوايا» نووية مثل طهران، ولكنها حتماً لديها نيات ومصالح استراتيجية وسياسية تجاه المنطقة. ونحن هنا لا نقارن بين أحقية أي من طهران أو أنقرة فى استباحة المجال الحيوي العربي، بقدر ما نحاول فهم وتفكيك ما هو مُضمَر فى الخطاب العربي، المتماهي مع نظيره الغربي، في التعاطي مع كلا البلدين.
أما المقولة الثالثة فهي أن إيران تسعى لاختراق المحيط السني في العالم العربي، ليس فقط من أجل نشر مذهب «التشيّع» في المجتمعات العربية، وإنما أيضاً من أجل تشكيل «طلائع سياسية» تسعى لتفكيك البلدان العربية من الداخل، ويتم هنا استحضار أمثلة «حزب الله» في لبنان و»حماس» و»الجهاد الإسلامي» في فلسطين، والحوثيين فى اليمن .. إلخ. ومن دون إغفال طبيعة العلاقة الاستراتيجية لإيران بهذه القوى والحركات، وهي هنا لا تختلف عن علاقات بعض التيارات العربية بقوى ودوائر سياسية غربية، فالذي يُلام هنا ليس إيران وإنما تلك البلدان التي أتاحت الفرصة لهذه الحركات وأعطتها المبرر، سياسياً وإيديولوجياً، للالتحاق بما يُسمّى بالمشروع الإيراني في المنطقة.
هذا النمط الاستشراقي Orientalist Narrative تجاه إيران، تم استخدامه وتوظيفه من قبل تجاه دول عربية وإسلامية أخرى كما حدث في مصر إبان حقبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي اتُهم بمعاداة الرابطة الإسلامية لحساب نظيرتها القومية، ومثلما حدث مع الرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق الذي اتهم بمحاباة الإسلاميين رغم علاقته الوثيقة بالغرب، ومثلما حدث مع الزعيم التركي نجم الدين أربكان الذي أدار ظهره للغرب وسعى لتجديد فكرة الجامعة الإسلامية.
ولعل القاسم المشترك بين هذه الحالات هو رفضها أو امتعاضها من السير خلف النموذج الغربي سياسة وفكراً. ونحن هنا لا ننطلق من دوغمائية مؤامراتية، بقدر ما نحاول تأطير الحوادث السياسية في إطار معرفي أوسع كي تتضح الصورة. فلا يبدو غريباً أن يتم استحضار النموذج الاستشراقي بلغته ومقولاته التقليدية في كل مرة ينشأ فيها خلاف بين الغرب وأية دولة عربية أو إسلامية.
وأزعم أن مخاطر الاستشراق العربي (والإسلامي) هي أعظم وأخطر من تلك التي يحملها نظيره الغربي، ليس فقط بسبب الغطاء السياسي والأخلاقي الذي يوفره للغرب وسياساته على طريقة (وشهد شاهد من أهله)، وإنما أيضاً بسبب تكريسه لنظرية «الصراع داخل الحضارة» Inter-civilizational conflict التي يرّوج لها المستشرقون الجدد حالياً. وهي فكرة تعرضنا لها في مقال على هذه الصفحة قبل عامين بعنوان «صراعاتنا الداخلية أسوأ من صراعنا مع الغرب» نشر في 27 آب / أغسطس 2008) ومؤداها أن الأزمة التي يواجهها العالم الإسلامي لا تكمن في المواجهة الحضارية مع الغرب، وفقاً لنظرية صراع الحضارات لصاحبها صموئيل هنتنغتون، أيا كانت مبرراتها وأشكالها، وإنما بسبب الصراعات الدامية التي تضرب المجتمعات الإسلامية شرقاً وغرباً. وهي حقيقة يستوي التغافل عنها وتفكيكها مع الرغبة فى تكريسها وإبقائها.
ولو سايرنا نفس المنطق الاستشراقي تجاه إيران لوصلنا إلى نفس النتيجة الكارثية. فأي ضربة عسكرية لطهران ستفجّر المنطقة دينياً وإثنياً وعرقياً وسياسياَ، وهي حقيقة ثابتة يحاول الغرب مداراتها وإخفاء أحجيتها. فالمنطقة تعوم فوق بحيرة من الاختلافات المذهبية (سنة وشيعة، سنة معتدلين ومتشددين، وأقباط ومسيحيين ودروز وموارنة) والإثنية (عرب، أكراد، أمازيغ، وأفارقة) والسياسية (معتدلين ومحافظين، مقاومين وممانعين)، ناهيك عن الاختلافات داخل كل طائفة وشريحة وقبيلة (العراق ولبنان نموذجاً).
بمعنى أخر إن «فيروس» الاستشراق ينشط عندما تتآكل الروابط الأفقية للولاء والهوية، وتحل محلها العصبيات الطائفية. حينئذ يتم «تلبيس» الصراع السياسي والاستراتيجي بعداً حضارياً وثقافياً كي يتم تبرير أية أفعال وجرائم سياسية محرّمة، وهنا يصل الاستشراق الى قمّته. فالمبرر الذي ساقته إسرائيل، وابتلعته الدوائر الغربية، حول جريمتها ضد «أسطول الحرية»، حمل مقولة (الدفاع عن النفس ضد نشطاء مرتبطين بتنظيم «القاعدة»)، وهي تلك التي ساقها المحافظون الجدد قبل غزوهم العراق وابتلعها العرب.
وإذا كانت ثمة مراجعة غربية آنية، على الأقل أكاديميا، لمقولات الاستشراق ومضامينها، فإن ثمة حاجة عربية ماسة للقيام بالشيء ذاته وذلك حتى لا تجدد مصائبنا ومآسينا.
* أكاديمي مصري – جامعة دورهام، بريطانيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى