صراعاتنا الداخلية أسوأ من صراعنا مع الغرب
خليل العناني
جماعة سلفية لبنانية توقّع وثيقة للتفاهم مع «حزب الله»، وسورية تتناغم مع روسيا، وإيران تتحالف مع «حماس» و«حزب الله» (وربما قريباً مع كل القوى والتيارات المعادية للغرب سياسياً وحضارياً)، فى حين تتحزّب نخبتنا الثقافية والإعلامية لصالح روسيا فى حربها ضد جورجيا من دون سبب سوى نكاية بالغرب وأميركا.
صراعاتنا وتحالفاتنا ليست طائفية أو دينية، وكان أولى لها ذلك، ولكنها تبدو حضارية تصل إلى أعماق خياراتنا وبدائلنا، وهو ما قد يفسر ذلك التلاقي «العجيب» بين أقطاب متنافرة على غرار ما هو حادث حالياً. بل هو ما يجعل المسافة بين إيران وجيرانها العرب، أشبه بتلك الموجودة بين روسيا وجورجيا، متلامسَين جغرافياً ولكنهما متباعدان قيمياً وحضارياً.
ولكن كيف يمكن تفسير اقتراب الأضداد (سلفيين وشيعة)، وابتعاد النظراء («حماس» وتكتل «المستقبل»)؟ وكيف يمكن فهم «التحالف» التركي – الإسرائيلي مقابل «التوتر» العربي – الإيراني؟ وكيف يمكن «هضم» التقارب «القاعدي» – الأفغاني، مقابل «العداء» الأفغاني – الباكستاني؟ باختصار كيف يمكن تفسير هذا «الموازييك» الغريب فى العالم الإسلامي؟
تقارب «المصلحة» وحده قد لا يكفي لتفسير هذه التناقضات، وفهم تشابكاتها، فهو بطبيعته تقارب «موقت» لا يمكن البناء عليه لفهم ديمومة تفاعلات التعاون والصراع بين الأضداد، كما أنه تقارب «متغير» لتقلّب المصلحة ذاتها وتغيّرها من فترة الى أخرى. كما أن التقارب «الطائفي – الديني» يبدو عاجزاً تماماً عن تفسير هذا الموزاييك، بل على العكس تصبح التفاعلات «التعاونية» دليل عدميته وفشله كأداة للفهم والتحليل.
جوهر هذا «الموزاييك» إذاً هو أبعد من مجرد مصلحة آنية، أو صراع طائفي معتاد، وإنما يمتد إلى ما هو أعمق، إلى التكوين القيمي والفلسفي لهذه العلاقات المتبدِّلة، وبالأحرى إلى المكوّن «الحضاري» الضابِط لتفاعلات التعاون والصراع في العالم العربي والإسلامي، وإلى طبيعة التفاوت بين وحدات هذا التفاعل (دول وحركات وتنظيمات وتيارات) في فهم هذا المكوّن وكيفية التعاطي معه. وبتكبير الصورة، فإن صراعاتنا وتحالفاتنا الراهنة تبدو كما لو انها دخلت مرحلة من «التدافع الحضاري»، أو بالأحرى (الصراع داخل الحضارة) بين أضداد ونظائر، باتت تعرّف نفسها كذوات «حضارية» منفصلة تسعى لتحقيق أهدافها بشكل متعصِّب.
فثمة صراع كامن يشهده العالم العربي والإسلامي على الإرث الحضاري، ليس فقط من أجل مواجهة الغرب في إطار «المعركة الكبرى» بين الحضارات كتلك التي بشّر بها صموئيل هنتنغتون قبل عقد ونصف عقد، وإنما في مواجهة «الأنداد» داخل الحضارة الإسلامية ذاتها.
وهو صراع يمكن في خلفيته قراءة رغبة إيران في العودة الى مجدها الفارسي «الغابر»، ورغبة تنظيم «القاعدة»، وذيوله من اصوليين ومتعاطفين معهم، في إقامة «دار الإسلام» ومواجهة «دار الحرب»، ورغبة تركيا فى الإمساك بـ «خاصرة» المنطقة العربية.
أربعة عناصر تمثل بنية حاكِمة لهذا الصراع الحضاري «الداخلي»، أولها يتعلق بالدين. فثمة صراع هائل على احتكار «رأس المال» الديني فى العالم العربي والإسلامي، وذلك من خلال الخلاف حول تأويل النص وادعاء تمثيله سياسياً وحضارياً، وهنا تتصارع أربعة «نماذج» للإسلام هي (الإيراني، والباكستاني، والتركي، والعربي، وقد يضيف البعض نموذجاً خامساً هو النموذج الآسيوي)، ولا يجمع بين هذه النماذج سوية إلا جذع الشجرة (النص الديني)، في حين تفرقها تأويلاته وتطبيقاته من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وفضلاً عن الصراع بين هذه النماذج، وسعي ممثلي كل نموذج لفرض نموذجهم على الباقين، فإن ثمة صراعاً داخل كل نموذج على حدة حول احتكاره والتحدث باسمه. فعلى سبيل المثال ثمة صراع شيعي – شيعي حول مسائل ولاية الفقيه والمهدي المنتظر ومقاصد الشريعة الإسلامية… إلخ. وفي باكستان ثمة خلاف حاد بين الإسلاميين المتشددين وغيرهم من الطوائف كـ «البرلوي» الصوفية والديبوندية السنية والشيعة… إلخ. وفي تركيا ثمة مسافة واضحة بين حزب «العدالة والتنمية» وغيره من التنظيمات الدينية الأخرى التي لا تراه معبّراً عن نموذجها «الطوباوي»، سواء كانت من بقايا «الرفاه» و «الفضيلة»، أو التنظيمات الصوفية «العنكبوتية» كالنورسية (النورانية) والنقشبندية.. إلخ. في حين تبدو الهوّة سحيقة في العالم العربي بين «إسلام» السلفيين، بمختلف تنويعاتهم، و «الإخوان» المسلمين والتبليغيين والدعويين.. إلخ.
ثاني العناصر هو البنية الأقلّوية للمجتمعات العربية، وهي بنية متصدّعة منذ أمد، ليس فقط بسبب نعرات التعصب السياسي والديني، وإنما أيضا بسبب انعدام مناخ التسامح وفشل محاولات الدمج القسري التي تتبعها النظم العربية والإسلامية تجاه أقلياتها وأعراقها. وهذه البنية الأقلّوية هي بمثابة قنابل قابلة للاشتعال السريع عرقياً وطائفياً، وهي منتشرة من أقصى العالم الإسلامي إلى أدناه. وهي تتحرك عمودياً من خلال شرنقتها الذاتية، وتبدو عصّية على التسييس الأفقي الذي يضمن اندماجها وفق أسس المواطنة والمساواة. وبعض هذه الصراعات مشتعل بالفعل كما هي الحال في باكستان مع الأحمديين والمسيحيين والهندوس، وفي إيران مع العرب الأهواز والبلوش والتركمان والأكراد، وفي مصر مع الأقباط، وفي الجزائر مع البربر والطوارق. وفي تركيا مع الأكراد ويهود الدونمة والعلويين… إلخ. باختصار يبدو العالم العربي والإسلامي كما لو كان بحيرة ترقد على بركان أقلوّي قابل للانفجار فى أي وقت.
وثالثها، البنية الاستبدادية في العالم العربي والإسلامي، وهي بنية وصلت حداً من التجذّر والتمكّن بحيث انتقلت من الرأس إلى الجسد، أي من الأنظمة إلى المجتمعات، وهي تبدو مستفيدة من كلا العنصرين السابقين في تشييد نفسها.
ولوهلة يبدو «سائل» الاستبداد عنصراً كاشفاً لكثير من التفاعلات في العالم العربي، فهل ثمة مشترك «عميق» بين قوى الممانعة سوى «جذرها» الاستبدادي وانعدام مرونتها وتوافقيتها؟ وهل ثمة رابط بين قوى الاعتدال سوى جذرها «الشوفيني» والرغبة في احتكار السلطة إلى الأبد؟ فى حين يبدو كلاهما (الممانعين والمعتدلين) كما لو كانا ثورين متناطحين على «جيفة» راكدة هي المجتمعات العربية.
وعليه، يصبح التشيّع لروسيا (والصين مستقبلاً)، والتغافل عن سلطويتها وشوفينيتها في الحالة الجورجية أمراً مفهوماً، فالجذر واحد وهو السلطوّية، حبذا لو كانت مدعومة بـ «الشماتة» بالولايات المتحدة ونموذجها الحداثي، في حين يصبح انتقاد روسيا والوقوف ضدها في الحالة الصربية إحدى علامات النفاق السلطوّي الصريح (أليس هذا دليلاً على طبيعة علاقات التعاون والصراع المتأرجحة؟).
ورابعها، الإدراك الحضاري للغرب، وهنا تبدو المسافة كبيرة بين أولئك الذين يرغبون في استمرار المواجهة «الحضارية» الكبرى مع الغرب، وهي بالنسبة الى بعضهم رأس مال يسير وتجارة رابحة تعظم مكاسبهم في صراعهم الداخلي مع نخبهم، وبالنسبة الى البعض الآخر نكاية بالغرب ورغبة في انكساره وانهياره، وبين أولئك الراغبين فى التواصل «المصلحي» مع الغرب من أجل الحفاظ على نفوذهم وبقائهم من دون دفع «الثمن» الحضاري والسياسي لذلك.
قطعاً هذه البنية الصراعيّة ليست طارئة، فهي موجودة منذ عقود، بيد أنها الآن تبدو متفاعلة ومتداخلة بشكل غير مسبوق، وتبدو إرهاصاتها كما لو كانت مقدمة لانفجار كبير على وشك الحدوث داخل العالم العربي والإسلامي. وما قد يعجّل بهذا الانفجار هو افتقاد الأطراف المتصارعة إلى الاتفاق على قواعد اللعبة، وسعي بعضها لإزالة التوازن مع بقية الأطراف.
فما تريده إيران ليس قطعاً هو العيش المتوازن مع جيرانها العرب، والاعتراف بأوزانهم في اللعبة، بل بالأحرى هو تغيير قواعد اللعبة وفرض القبول بشرعية هذا التغيير. وما تريده سورية ليس مجرد استعادة أرضها المحتلة، والاعتراف بدور إقليمي معتبر، وإنما أيضا مدّ يدها الى الفناء اللبناني، ومن خلفه الفلسطيني. وما يريده «حزب الله» ليس إبقاء التوازن داخل «الصندوق» اللبناني، وإنما تحديد مساحة الصندوق وبوصلته حسب مصالحها. وما تريده «حماس» ليس مجرد تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنما تحرير المنطقة بأسرها. وما يريده «الإخوان المسلمون»، ليس مجرد الاعتراف بهم كقوة سياسية شرعية، وإنما فرض رؤيتهم على الفضاء الديني العربي، كحال غيرهم من التنظيمات الدينية الدعوية والجهادية.
وما يريده إسلاميو باكستان ليس مجرد حكومة ديموقراطية غير فاسدة، وإنما حكومة إسلامية «نووية» من أجل تحرير الهند وكشمير من «دنَس» الهندوس. وما يريده «حزب التحرير الإسلامي» هو تخليص الأمة من رجس الملحدين والمتآمرين والتمهيد لإعلان الخلافة الإسلامية من فوق أسنة الرماح في إندونيسيا وطاجيكستان ولندن وبرلين، تماماً كالذي يريده «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي» الذي يحرق الأرض والنسل من أجل إقامة «إمارته» الإسلامية في المغرب العربي.
وإذا كانت الديموقراطيات لا تتقاتل، بحسب بعض الغربيين، فإن السلطوّيات تفعل، وهي الآن سلطوّيات تعتاش على التعصب الديني والحضاري، ويزيدها قوة عمق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين المشرق والمغرب، ناهيك عن طبيعة العلاقة مع الغرب، التي يراها البعض مبرراً كافياً لخوض الصراع مع أقرانه، باعتباره «جهاداً» ضد أذناب الكفر والعلمانية.
ويبدو الخلاص من هذه «الحرب الحضارية» الحتميّة، أشبه بإعادة اختراع العجلة من جديد. فالحروب الأهلية في أوروبا (أو بالأحرى الصدام الطائفي الداخلي) لم تنته إلا بعد قبول الجميع بحتمية الاختلاف المذهبي والطائفي والعرقي، والاتفاق على قواعد حضارية للتعايش المجتمعي وفق أسس التسامح والمساواة والمواطنة، في حين كانت الحرب الأهلية الأميركية سبباً كافياً لوضع دستور يحترم الفرد بغض النظر عن لونه ودينه وعرقه، وفي كلا الحالتين لم يسع أي طرف لتغيير قواعد اللعبة لصالحه على غرار ما تفعل جماعاتنا الآن.
الحياة