“الهجرات الثلاث” إلى الإنسان
د. طيب تيزيني
إلى أين يهاجر سكان الوطن العربي، الذي يعيش معظمه تحت قبضة نُظم أمنية وضعت نصب أعينها استراتيجية فريدة باتجاه استباحة الزرع والضرع في بلدانها؟ ذلك سؤال قد يكون أهم المداخل إلى تلك الأخيرة. وحقاً، كان هنالك إجماع أو ما يقترب منه من قِبل مجموعة كبرى من الباحثين والدارسين والمفكرين، خصوصاً، الذين كان لي لقاء بديع معهم في قاعة المحاضرات بالمكتبة الوطنية الجزائرية العريقة، يوم الأحد الموافق 25 مايو المنصرم. جاء ذلك تلبية لدعوة تلقيتها من مديرها الأستاذ الأديب الناقد والروائي الدكتور أمين الزاوي. أما العنوان الذي حملته المحاضرة، فقد أتى في صيغة من التساؤل حول المصائر التاريخية للنهضة العربية الحديثة منذ أواخر القرن الثامن عشر وعلى امتداد خمسة عقود من القرن التاسع عشر: أَماَ زال المشروع العربي في النهضة والتنوير راهناً؟ وقد عنيْنا بـ “المصائر التاريخية” تلك التي بدأت الطلائع العربية الراهنة (منذ بدايات توضُّع النظام العالمي الجديد) تطرحها في سياق اجتياح هذا النظام للعالم، ومن ضمنه الحقل العربي الراهن.
وفي سبيل تعقُّب ذلك، اخترنا الدخول عليه من موقع محدد راح يفرض نفسه، بصيغ متسارعة ومؤرقة، على الأجيال العربية الشابة والفتية، بكيفية خاصة، نعني الهجرة من الوطن العربي إلى حيث يجدون ما يجعل من الإنسان إنساناً. وقد لوحظ، عبر دراسات علمية ميدانية قامت بها مجموعات متخصصة من الدارسين، أن ما يجعل الإنسان كذلك، أي إنسان، إنما هو ثلاثي مقدس لا يسير أحد أطرافه إلا بوصفه متضايقاً متكاملاً مع الطرفين الآخرين. وتتضح مصداقية هذا الثلاثي، حين نضع يدنا على أطرافه الثلاثة، وهي الكفاية المادية والحرية والكرامة، ومن ثم، حين يفتقد الإنسان تلك العناصر مفردة ومجتمعة، فإنه يتحول إلى كائن ناقص، بالتعريف المنطقي، والآن، إذا وضعنا في الاعتبار أن جلّ المجتمعات العربية دخلت في دائرة “مجتمعات الثمانين والعشرين” – مع ملاحظة أن هذه النسبة تخضع باطراد لإعادة التبْنين لصالح تزايد الثمانين وتناقص العشرين- فإننا نضع يدنا على حركة مفتوحة باتجاه مَنْ يملك ومن لا يملك: مَنْ يملك الثروة والسلطة والإعلام (صناعة الرأي العام تحديداً) والحقيقة، ومَنْ يُقصى عن هذا قسراً أو إفساداً.
في تلك الوضعية المركبة، ومع التأكيد على أن المعنيين بإبقاء الحال على ما هو عليه، فإن المجتمعات المعنية تقف معدومة التعبير عن ذواتها، ومعه ربما كذلك الفعل، ذلك لأن الطبيعة، كما المجتمع، لا يتقبل الفراغ، ها هنا، تكون الشروط الضرورية لتأسيس فكرة الخروج من المجتمعات العربية أو الإنزياح عنها أو التصميم على تدميرها، إذا اتضح أن هذه المجتمعات تفتقد القوى الحية للتغيير باتجاه الثلاثي المذكور سابقاً. أما اتجاه “الخروج”، فهو الذي ينمو ويتفاعل في النفوس، التي تبحث عن “خلاصها” بأقل الأثمان. وهكذا، تتبلور “الأوتوبيات الثلاث الكبرى” في ضمائر وعواطف الفقراء والمفقرين والمذليّن والمهمشين (وغالباً ما يكون هؤلاء في نسب عالية منهم الكُتل المثقفة وذوو الخبرة والدربة والمفعمون اندفاعاً وتأثراً بما يخترق الوطن العربي من ويلات من داخله ومن خارجه، إنها أوتوبيات الهجرة إلى “المكان” الذي يلوذون فيه وبه. وهنا، تتكرر أحلام “السعادة الضائعة” بكيفيات وأنماط متعددة، ربما بدءاً من محاولة جلجامش البابلي العربي اكتشاف “ثمرة الحياة الأبدية”، ومروراً بما لا يُحصى من محاولات اكتشاف الملاذ مخرباً (جمهورية أفلاطون وأوتوبيا توماس مور.. الخ. وشرقاً (المدينة الفاضلة للفارابي وشرح جمهورية أفلاطون لابن رشد.. الخ).
بيد أن الواقع العربي الراهن بخصوصياته السوسيو اقتصادية والسياسية خصوصاً إضافة إلى النفسية والأخلاقية القيمية، أنتج الهجرات الثلاث المشار إليها سابقاً بخصوصية بالغة التعقيد والتشنج واحتمال الانفجارات. أما هذه فهي الهجرات إلى السفارات الأجنبية طلباً لإذن الدخول في “عالم الخلاص الغربي”، والى السماء بحثاً عن “الفردوس المفقود” الذي يتمنع على الاستجابة لطالبيه إلا إذا كانوا بمستوى استعادته وليس إعادته زيفاً، وإلى “الذات” التي تعيش شقاء يضعها أمام مصائر أهونها مرٌّ مجسداً، خصوصاً، بوهم الخروج من التاريخ ونسْج عالم داخلي مستباح.
كان جمهور المحاضرة قد وقف طويلاً أمام تفكيك تلك الهجرات الثلاث، لكن مع إدراك ضرورة التيقظ حيال إمكانية “هجرة رابعة” ربما هي الموت.
جريدة الاتحاد