حالة الإصلاح في العالم العربي: كيف يمكن رصدها؟
تقديم للتقرير السنوي الاول[ لـ«مبادرة الاصلاح العربي»
هل يمكن توفير مؤشرات لقياس حالة الإصلاح في المنطقة العربية؟ هل بالإمكان توظيف أدوات التحليل المتنوعة لإسناد الرصد الضروري للتحولات الجارية فيها؟ ما هي مقاييس الحكم على التغيير؟… هذه وغيرها من الأسئلة المتعلقة بالمقاربة المنهجية لموضوع على هذا القدر من التعقيد، كانت هاجس مبادرة الإصلاح العربي حين تصدت لإنتاج تقريرها السنوي الأول عن «حالة الإصلاح في المنطقة العربية». وهو تقرير أثار عدا الفضول، الكثير من النقاش بسبب تجرئه على اقتراح موازين لقياس التحولات السياسية في المنطقة.
الفكرة هي التخلص قدر الإمكان من الأحكام المسبقة والانطباعية القائمة محل المعرفة الفعلية من قبل المواطنين لمجتمعاتهم هي ذاتها، ولمميزاتها المقارنة مع سائر مجتمعات العالم العربي. اعتمدنا على الخبرة العامة في اللجوء إلى المؤشرات الاجتماعية لقياس النمو الاقتصادي، والتي تقابل (وتوازن بمعنى التصحيح) إعلان نسب النمو في كل بلد، التي لولاها لبقيت هذه الأخيرة أرقاما مجردة بل تزييفية. وهكذا قررنا استنباط مؤشرات كمية للتغيير نحو الديموقراطية تعتمد على أربعة قيم أساسية هي: وجود مؤسسات عامة وقوية، احترام الحقوق والحريات، سيادة القانون، والمساواة والعدالة الاجتماعية. ولأننا ندرك انه لا يمكن قياس القيم مباشرة، قمنا ببلورة مؤشرات قابلة للقياس بالنسبة لكل واحدة منها. فمثلاً، تعتمد سيادة القانون على ثمانية مؤشرات رئيسية منها درجة استقلال القضاء حسب النصوص الدستورية والقانونية، ومدى وجود معايير مختلفة لمساءلة المواطنين كاستخدام أنظمة قضائية «بديلة» مثل محاكم أمن الدولة، وهما مؤشران يمكن بسهولة جمع معلومات رقمية دقيقة حولهما. وتوفر المعطيات الكمية القدرة على فهم التطورات المتعلقة بتلك القيمة. أسمينا هذا العمل «مقياس الديموقراطية العربي»، وجعلناه يركز في جمع بياناته على ثلاث آليات: الجانب الدستوري أو القانوني، وانطباعات وآراء الرأي العام، والممارسة الفعلية لأنظمة الحكم من خلال العمل الميداني والتقارير الموثقة لممارسات سلطات الحكم. يتم القياس إذاً من خلال مراقبة الأداء والممارسة، وليس فقط من خلال فحص النوايا والمحددات النظرية كالتشريعات والأنظمة، فالنوايا قد تكون حسنة لكن الأداء سيئ. إننا نركز بالتالي على وسائل وممارسات التحول الديموقراطي وعلى تقديرات الرأي العام لتلك الممارسات. ولكن تسجيل اللحظة لا يصبح ذا دلالة ما لم يكن نقطة علاّمة في مسار. ولذا نعتمد على ما ستفصح عنه المقارنة مع السنوات المقبلة، وما ستريه من تطور ايجابي (تسجيل تقدم باتجاه الاعتراف بالحقوق الديموقراطية للناس، ودولة القانون والمؤسسات)، والسلبي (الارتدادات المتنوعة عما اكتسب، أو الالتفاف على الإجراءات عبر إفراغها من مضمونها أو تحويرها، كتعميم الانتخابات ولكن تكبيلها ليس فحسب بالتزوير، بل بقرارات تحد من الحق في التقدم للترشح، أو بطريقة تقسيم الدوائر الخ…).
يتعلق البحث بنحت مقاربة وليس بتطبيق قواعد جاهزة. فتلك القواعد ليست مطلقة من ناحية، وهي من ناحية أخرى لا يمكن أن تفي بحاجات تقنين الواقع في منطقة تعاني من اضطراب عميق في كل بناها، ومن نقص فادح في المعطيات المتوفرة حول مختلف مناحي الحياة فيها، وهو غالبا نقص «وظيفي» يهدف إلى تضييع الحالة بحيث لا تستجيب لتقييم. وقد اعتبرت المبادرة أن أولى الخطوات في اتجاه التغلب على ذلك تتمثل في توفير الحق في الوصول إلى المعلومات واستخدامها: تنظيم ما هو متوافر منها ومبعثر، بحيث يصبح ناطقا، و«الخروج» لالتقاط الممكن عبر الاستقصاء.
هناك دراسات ذات صلة بموضوعنا تصدرها جهات عالمية وتستخدم كماً هائلا من الأرقام المتوفرة، كتقرير التنمية البشرية الذي يصدره برنامج التنمية الدولي منذ عام ,1990 وما تصدره منظمة الشفافية الدولية منذ عام .1995 لكن هذين التقريرين لا يتطرقان مباشرة للأبعاد السياسية لعملية التحول الديموقراطي. أما التقرير الشامل الذي يصدره البنك الدولي أو تقرير مؤسسات كـ«فريدوم هاوس» الأميركية و«بيرتلزمان» الألمانية… فتقوم بذلك، إلا أن العديد من المؤشرات المستخدمة هنا مبني على آليات غير موضوعية، كانطباعات مجموعات أو أفراد، أو هي تكتفي بفحص قواعد العمليات السياسية الإجرائية أي مراجعة القوانين والدساتير. وفي المقابل، فإن مقياس الديموقراطية العربي يتجاوز هذه التقارير بطريقتين: فهو أولاً يجمع بين ما هو سائد من انطباعات وبين الممارسات الفعلية، ويقوم ثانياً بقياس أثر هذه الممارسات على الحياة اليومية للمواطنين. إنه مبني على مركزية مفهوم المواطنة بدلاً من مركزية مفهوم السلطة السياسية. وهو كذلك يخطو، وإن بشكل محدود، باتجاه رصد الآثار الاجتماعية والاقتصادية على حياة المواطنين لتغيرات النظام السياسي.
وقد انطلقنا هذا العام من هدف أساسي هو التوفق في قياس درجة انكفاء الاستبداد أكثر مما هو تقدم الدمقرطة بالمعنى الدقيق للكلمة، أي انشغلنا برصد انخفاض غموض وقلة شفافية الحكم وعمل المؤسسات الأمن ـ سياسية، وتراجع انتهاكات حقوق الإنسان، والرقابة، والحد من حرية التعبير، ورفع المحظورات.
ثم إن ما يحفّز «مبادرة الإصلاح العربي» بالأصل، هو مشروع قد يراه البعض حلما: أن يتم إنتاج دراسات وأبحاث في المنطقة العربية تمتاز أولا بالسوية العالمية لما يكتب في ميدان الاجتماع السياسي بكل تشعباته، وتتمكن ثانيا من التقاط الدينامية المحركة للواقع في مجمل المنطقة، بعناصرها المشتركة وتلك الخصوصية، لأن فهم الواقع هو مفتاح الفعل فيه وتغييره، وهو طموح تتبناه المبادرة. وقد جعلت من فكرة أن الإجابة على التحديات تتوقف كثيرا على الطرف الذي ينتج المعرفة ويصوغ المسائل، شعارا لها.
ونحن ندرك تماما أن المقياس الذي ابتدعناه لا يتيح مقاربة ظواهر معقدة، ولكنه رغم ذلك حاسم الأهمية في تحديد الواقع السياسي للبلدان العربية، حيث إن الدراسات النوعية هي الأخرى لا تسمح سوى بإضاءة جزئية له: فلنشر هنا مثلا إلى أهمية إجراء قياس «رقمي» للعلاقة العضوية بين أوساط الأعمال والسلطة السياسية أو العسكرية أو الأمنية، ولدور القطاع الخاص كأحد صنّاع الإصلاح، أو فلنذكر الحاجة إلى توفير معطيات كمية حول حجم نمو المؤسسات الأمنية في مختلف البلدان، وهو أمر وثيق الارتباط بتقدير آفاق إصلاحها… كما تهتم المبادرة باستطلاع طموحات النساء ورؤيتهن للإصلاح، وترصد تطور استراتيجيات الحركات السياسية المختلفة والحوارات أو التحالفات أو التفاهمات الناشئة بين الليبراليين والإسلاميين والقوميين والقوى اليسارية. تعمل مشاريع مبادرة الإصلاح العربي على هذه الموضوعات عبر فرق بحثية عربية مشتركة، تستند إلى المعرفة الأكاديمية وإلى خبرة الميدان، عبر التواصل مع الفاعلين على الأرض. وينعكس طموحها لاستخدام تفاعلي للمنهجيات الكمية والنوعية في التقرير السنوي هذا الذي يتضمن فصلا كاملا مؤلفا من ثلاث أوراق عناوينها: «يقظة المجتمعات كمحرك للإصلاح الفعلي»، و«المشرق العربي: لبرلة من دون تحول ديموقراطي»، و«الإصلاحات السياسية في العالم العربي من خلال المثال المغاربي».
لقد جمع هذا التقرير فريق عمل واسعا من المنطقة بأكملها، ونحن نأمل أن يغذي النقاش حول أوضاع العالم العربي، وحول الأسئلة ذات الأولوية التي تشغل مواطنيه.
النص الكامل على موقع المبادرة: www.arab-reform.or