هل ينتقل العرب من غضب اللحظة إلى فاعليّة السياسة
محمد الحاج صالح
لم تكفّ إسرائيل يوماً عن ارتكاب جرائم مماثلة لما ارتكبته ضدّ سفن “قافلة الحرية”. فهي لم تحترم شرعةَ حقوق الإنسان، ولا القوانين الدولية، لا أثناء الحروب مع العرب، ولا عندما قامت استخباراتُها بالاغتيالات في غير دولة من أوغندا إلى إيطاليا، مروراً ببيروت وعمان ودبي. ومنذ نشأتها كانت هي الطفل المدلّل المُراعى من قبل أغلبية الدول الغربية وإعلامها الفعّال وحتى أكثرية منظماتها المدنية. وعبر السنين تراكم لدى الإسرائيليين إحساسٌ بأنهم فوق القانون الدولي. وقد مارسوا فعلاً أعمالاً تخرق وبوضوح القوانين والأعراف الدولية، لا بل وحتى الأخلاق الإنسانية المتعارف عليها. وعلى الرغم من ذلك لم يحدث أن أُدينت إدانة رادعة، ولم يحدث أن اتخذ مجلس الأمن قراراً يضع إسرائيل بوضوح أمام مسؤولية ما تقترفه أو يجبرها على الانصياع.
لقد كانت صياغات القرارات الدولية وكذلك مواقف أغلب الدول الغربية وعلى الدوام مائعةً، وفي حقيقتها هي نوع من الدفاع عن إسرائيل. الأمر الذي أدى إلى أن يطّور التفكير الإسرائيلي نوعاً من تقديس الذات.
وما كان لهذا التقديس للذات والثقة العمياء ليظهر لو أنها عوقبت مرة واحدة.
جزء مهم من قوة إسرائيل وعنجهيتها مردّها اتقانها، مدعومة بأوساط يهودية وغربية فاعلة، صناعة الهولوكوست. تلك الصناعة التي روجت لمنتجها الوحيد، وهو موضوع اضطهاد اليهود وتعرضهم للمحرقة، ترويجاً غير مسبوق، حتى ان البعض يعتبر صناعة الهولوكست أهم حدث ثقافي وسياسي بعد الحرب العالمية الثانية. تكفي نظرة سريعة إلى السينما وملايين المقالات والكتب والروايات لدعم هذا الرأي. ولأن الغرب وأميركا شكلا القاطرة الأساسية في النهضة العلمية والتكنولوجية المعاصرة، ولارتباط اليهود وإسرائيل بسياسات الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الاستفادة الإسرائيلية من هذا الوضع كانت في الحد الأقصى. على الأخص إذا ما تذكرنا أن العرب لم ينجحوا في بناء دولهم، ولا في تسويق قضاياهم. والأمر ليس شطارة من إسرائيل والأوساط المساندة لها في إيذاء العرب فقط، وإنما لأن العرب لم يدخلوا العصر. فبناهم المجتمعية مُفوّتة، وأنظمتهم قامعة، ووضع حقوق الإنسان والمرأة ما كانت ولم تصبح في صلب اهتماماتهم، فكيف لهم أن يكسبوا رأياً عاماً، أو يحدّوا على الأقل من الدعم الأعمى لإسرائيل.
ليس مستحيلاً ولكنه صعب للغاية أن يتمكن العرب من كسب معركة الرأي العام. يكفي للتدليل على ذلك أنهم أعجز من أن يؤثروا على نوايا الحكومة البريطانية في استثناء المسؤولين الإسرائيليين المعرضين للمثول أمام المحاكم البريطانية، والتي تنظر في العديد من القضايا ضدهم. منْ منَ الدول العربية لديه رصيد محترم في مجال حقوق الإنسان ليتمكن من أن يحتج احتجاجاً فاعلاً لدى الحكومة البريطانية؟ جلّ الدول العربية مدانة بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وهي تقمع شعوبها، وتسجن معارضيها، وتضطهد المرأة والأقليات.
من سوء الحظ وشقاء الوعي أن تستمر نخبٌ عربية سياسية وثقافية فاعلةٌ بالاستهتار بالرأي العام الغربي، ولا تعي أنه يمكن أن يكون سلاحاً ضاغطاً وفعالاً على حكوماته. وتستهين بالقوانين الدولية ولا ترى إمكانية الاستفادة منها. يعزز وجهة النظر هذه السلوك الرسمي للدول الغربية المحابي لإسرائيل. لتنشأ دائرة مَعِيبة وشيطانية، المستفيد الوحيد منها هو إسرائيل. فهي تجيد لِبْس جلد الحمل أمام الإعلام والرأي العام الغربي.
الاستهتار بالرأي العام الغربي، ومهما كانت الذرائع، لا يخدم إلا مصلحة إسرائيل. فلإسرائيل حبلٌ سريٌ يمتد عميقاً في أوروبا وأميركا، ويكفي أن تُسدّ بعض عروقه ليشعر الجسدُ الإسرائيلي بالوهن.
رغم الأسى على ضحايا “قافلة الحرية”، فإن الحدث يشكل فرصة ثمينة لتحرك عربي سياسي مجدٍ وفعال إن راعى أموراً، منها:
ـ الإدراك أن شيئاً يتحول في أوروبا وأميركا على الصعيدين الشعبي والرسمي ليس في صالح إسرائيل. فالصحافة الاسكندنافية مثلاً ومعها قطاع واسع من الرأي العام بات يستخدم لغةً ما كانت لتخطر على بال الجمهور هنا. وشيئاً فشيئاً يتعمق التحول هنا ويصل إلى الثقافة، إذْ كثيراً ما نرى روائيين ومخرجين وفنانين وفلاسفة ورجال دين كبار يفصحون عن إدانة لا لبس فيها للجرائم الإسرائيلية. هولاء لا يمكنهم غضّ النظر، والاكتفاء بإدانة إسرائيل من دون أن يمروا على الخطاب والفعل العنيف للأصولية الإسلامية والمتطرفين المسلمين. سيتسارع هذا التحول إن خدم العرب أنفسَهم بإصلاحات تطال السياسة والثقافة والدين، وبتحرك سياسي عقلاني ودؤوب.
ـ إن احترام القوانين الدولية ستزداد جدواه، على الرغم من إغراء الكلام السهل الذي لا يرى من القوانين الدولية وحقوق الإنسان والأعراف العالمية إلا ما تخرقه إسرائيل. فإذا كانت إسرائيل سارقاً أو مجرماً، ليس من الحكمة أن نجري وراءها ونقلدها. إسرائيل استخدمت القوة في مكان لا يحق لها فيه استخدام القوة، وعلى ناشطين سلميين، مانعة مساعدات إنسانية. جريمة موصوفة! فهل نلحق بها ونفجر ملهى ليلياً أو دار سينما.
ـ إن رفع الحصار عن غزة من الجانب المصري سيكتسي أهمية أكثر وأكثر إذا ما أُلحق بتحرك عربي موزون ومدروس. فالمشكلة ليست بالأفكار. الأفكار المجدية متوفرة والأمور واضحة. وإنما تقبع المشكلة في الميزة العربية في الانقسام وعدم مواصلة الجهد. فالكل يرى أن توضع قضية حصار غزة على طاولة مجلس الأمن، وأن تتعاون الجامعة العربية وتركيا في وضع القضية أمام المحكمة الدولية، وأن تفعّل وسائل الضغط على حلفاء إسرائيل. أما القفز إلى نسف المبادرة العربية من أساسها فهو لعبة مزايدة كثيراً ما أجادها العرب. إنها لعبة المغامرين المؤدية إلى الإفلاس.
ـ هجاء إسرائيل وشتمها سهلٌ لا يحتاج إلا حنجرةٌ وميكرفون وفضائية. أما عزل إسرائيل والتمهيد لمعارك سياسية واسعة وحتى “حربّية” معها، لا يحتاج إلى الصراخ الذي يملأ الفضاء العربي الآن. التحرك الهادئ المدروس الموزون أَهْيب، حتى في المعارك العسكرية. ومُظاهرةٌ منظمة، أفضل من الصخب والصياح. ومتكلّم صارم وإنما هادئ الصوت مقنعٌ أكثر من صارخٍ مع زَبَدٍ في زوايا الفم.
المستقبل