سلام الكواكبيصفحات العالم

العرب بين السلطـان عبد الحميد وصدام حسـين

سلام الكواكبي
من السهل لدى بعض النخب التقليدية العربية التواصل مع التاريخ والبكاء على الأطلال والإضاءة المتكررة لمنجزات العرب فى العلوم إبان عصور غابرة، وهذا يعتبر مبدئيا طريقة للتعويض عن إحباطات متراكمة ومتجذرة فى الثقافة العربية منذ القرون الوسطى.
بالمقابل، فمن الملاحظ أن هذا التواصل مع التاريخ البكائى بدأ يأخذ منحى مختلفا بميله إلى إبراز سفاحى التاريخ ليس العربى فقط بل الإسلامى أيضا والبكاء على أيامهم واعتبارهم رموزا إما وطنية وإما دينية حسب الطلب. وضمن هذا السياق، لم تتوقف الكتابات عن الرئيس العراقى الراحل صدام حسين باعتباره زعيما قوميا إسلاميا دافع عن شرف الأمة ومات شهيدا فى سبيل عزّتها.
الأقلام التى كانت تمنحه هذه الأوصاف إبان حياته كانت تقتات على بقايا موائده، وهذا يعتبر مفهوما من الناحية الاقتصادية على الأقل، أما أن تستعيد أمجاده بعد قتله غير الشرعى بالفعل من قبل قوى محتلة، فهو دلالة على فقر ذهنى فى فهم معانٍ أساسية تتعلق بشرف الأمة الحقيقى وعزّتها الفعلية.
وليس بوارد هنا استعادة «أمجاد» هذا الراحل الذى كان مرضيا عنه فى مرحلة زمنية معينة من الغرب مما أتاح له أن يمارس سيادته السياسية من دون الشعور بأى قلق مرتبط بنظرة مجتمع دولى انتقائى فى مواقفه، ولن نميّز بين حقيقة أنه كان ديكتاتورا قتل وعذّب واعتقل من أبناء شعبه أرقاما لا يشرّف التذكير بها أولئك الممجدين وإن كانوا يدّعون أو يعتقدون بالفعل أنه «شبّه لهم» وأن ما حصل فى العراق إبان عسفه لم يكن سوى إشاعات مغرضة
ولن نكرر بأن كل ما قام به نظامه لا يبرر البتة احتلال العراق من قبل قوى كانت راضية عنه كما ذكرنا فى قمة انتهاكاته. فالموضوع قد أشبع معالجة من جميع الأطراف.
المثير للانتباه الآن، وفى حقبة البروز الدبلوماسى التركى فى المنطقة العربية المحبطة من قادتها ومن نخبها، أن هناك «صدّاما» آخر يعود إلى الشاشة البكائية والاسترجاعية وهو السلطان العثمانى عبدالحميد، وتنهمر الكتابات التى تبرز موقفه من إنشاء دولة إسرائيل مستندة إلى وثائق تاريخية مجتزئة تدّعى أنه رفض عرضا مجزيا من هرتزل فى هذا الشأن. وبالتالى، فلقد قرر بعض المؤرخين بأن هذا الموقف «الإسلامى الشريف» قد كلّف السلطان عرشه وأطاح به عن طريق جمعية الاتحاد والترقى وجاء بنظام علمانى دمّر أمجاد الدولة العثمانية الإسلامية.
وماذا بعد؟ هل علينا الآن، واستنادا إلى سياسة تركية إيجابية وفعّالة تجاه قضايانا التى تخلينا عنها إلا فى الخطابات، أن نزوّر أو نعيد تزوير جزء مهم من تاريخنا الحديث؟
هل علينا أن نرمى بكل إنجازات الرجل المريض العثمانى فى مجالات الحريات والاستبداد واستنزاف الثروات وتدمير البنى المجتمعية؟ هل علينا أيضا أن نحرّف تاريخا موثقا يقول بأن محادثات هرتزل وعبدالحميد تعثرت بسبب الاختلاف على قيمة العرض؟ هل علينا أن نعيد النظر فى تاريخنا النضالى وفى تاريخ أبطال من شعوبنا لفظوا أنفاسهم فى غياهب سجون هذا المترحّم على إنجازاته؟ من قرأ منا التاريخ من دون إيديولوجيا؟
إن كانت المواقف التركية عموما وسياسة أردوغان خصوصا تثير الإعجاب لدى أمة محبطة لم يعد لديها سوى اجترار الحنين إلى رموز تاريخية لا تستحق بمجملها التمجيد والاستعادة، فليس من المنطقى أو من المفهوم أن يدفعنا هذا الأمر إلى إعادة الاعتبار إلى رموز أقل ما يقال عنها أنها مستبدة وظالمة. هل من الإيجابى والبنّاء أن تخترع تاريخا مشوها بحثا عن إرضاءٍ منشود للأتراك عوضا عن أن نتوقف أمام تجربتهم السياسية الحديثة والتى أوصلت بلدهم إلى هذه المرتبة إقليميا ودوليا؟
أليس من الأجدى أن نراجع التجربة الديمقراطية التركية التى تدعم موقف حكومتها فى جميع المحافل؟ وهل خطر ببال البكّائين والمتمجدين أن يتعمقوا فى فهم ديناميكية المجتمع المدنى التركى بعلمانييه وبإسلامييه والتى أسست لبنية اجتماعية وسياسية فاعلة دعمت ومازالت سياسة بلدها الخارجية لأنها شعرت بأنها ناجمة عن نقاش داخلى مفتوح؟ بالطبع، لا يعفى هذا الإعجاب السياسيين الأتراك من الانتقاد خصوصا فيما يتعلق بحقوق الأقليات والمسألة الكردية، ولكنه يسمح بمعرفة آلية صنع القرار وتحمل مسؤوليات تبعاته.
فى الداخل التركي، عدا بعض الاستثناءات، ينحصر خطاب الحنين للحقبة العثمانية بما كانت تعنيه من توسع ونفوذ فى مراحلها الأولى وما لا علاقة له بالعمق السياسى أو لشعاراتها أو لقيمها. فالمجتمع السياسى التركى تخلّص من استبداد السلاطين ومن جبروتهم وأخضعه إلى جبروت المؤسسات وسيطرة دولة القانون.
ولم يتأت هذا الوضع من فراغ أو من حنين مزعوم أو من اجترار لمنجزات سلاطين تجاوزهم التاريخ، بل نتج عن نضال سياسى شاركت فيه مختلف أطياف المجتمع التركى بعلمانييه وبإسلامييه، وأثبتت أنها قادرة على القيام بعمليات مراجعة ذاتية نقدية بهدف إعادة صياغة العقد الاجتماعى للمضى نحو مستقبل أكثر ازدهارا من الناحية الاقتصادية بالإضافة إلى تطوير لآليات الرقابة الشعبية على السياسات العامة وبصياغة أرضية صلبة تدعم صانع القرار فى مواقفه الإقليمية والدولية.
إن تجربة أسطول الحرية الذى سعى إلى فك الحصار عن غزة والمشاركة التركية الفاعلة فيه ودفعها الثمن الأكبر من الشهداء هو دليلٌ إضافى على صحوة المجتمع التركى ولممارسته حقوقه التعبيرية المحجوبة على أبناء مجمل البلدان العربية. إن قادة هذا البلد ليسوا بمخلدين على العروش، بل هم منتخبون، وخاضعون لسلطة صندوق الاقتراع، فعليهم إذا أن يتبعوا ميول الجماعة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مع قدرتهم على التأثير بها نسبيا من خلال السياسات العامة والإعلام، ولكنهم وفى أحسن الأحوال، سيغادرون مناصبهم بعد دورة أو دورتين انتخابيتين ويعودون لممارسة العمل العام من خلال الأحزاب أو منظمات المجتمع المدنى.
أليس من الأجدى أن تحرضنا هذه التجربة على مراجعة الذات والاعتراف بالتخلف السياسى الذى يصيب أمتنا عوضا عن محاولة إعادة اختراع الدولاب وتزوير التاريخ وخيانة عصر النهضة العربية إرضاء لعثمنة متلعثمة فى التفكير وفى الأداء؟ لقد أجهضت النهضة العربية فى القرن التاسع عشر من قبل السلاطين العثمانيين، فلماذا نستعيدهم بكتابات وبمسلسلات تلفزيونية تساهم بتزوير التاريخ وبغسل دماغ شعوب ثقافتها ترتكز أكثر ما ترتكز على إعادة قراءة التاريخ، وتشويهه، من قبل صنّاع المسلسلات؟
لقد تجاوزت تركيا هذه الحقبة دون أن تنكرها أو تدينها لأنها، وبالفعل، حفلت بالكثير من الإنجازات فى بداياتها التى ساهمت فى بناء الأمة التركية الحديثة. ولكنها لا تنتظر من العرب أن يحولوا عرفانهم بجميل سياساتها إقليميا اليوم إلى استعادة مشوهة لتاريخ السلاطين، وخصوصا عبد الحميد. إن وصول تركيا إلى ما هى عليه داخليا وإقليميا ودوليا مرتبط بشكل أساسى بتخلصها تدريجيا من الإرث العثمانى الذى يعيد بعضنا اليوم اكتشافه. هل حقا أننا أمة لا تقرأ؟ ربما.
الشروق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى