تركيا ونحن وإدمان الأبطال

رستم محمود
من طرف يكتب (ب. س) في موقع إسلام أونلاين، معلقاً على إحدى المقالات التي تناولت زيارة رئيس الوزراء التركي لإيران: الحمد لله الذي أعزنا كلنا، وعادت تركيا إلى موقعها الطبيعي بين أخوتها في الدين والدنيا، وتركت كل المشاريع المشوهة بالرغبة في الدخول للإتحاد الأوربي… الخ. ومن طرف آخر، نرى على الشاشة الرئيس التركي عبد الله غول في بروكسل، متابعاً ملف بلاده لاستضافة كأس الأمم الأوروبية عام 2016، حيث خسرت تركيا ذلك الشرف أمام نظيرتها فرنسا، بفارق صوت واحد من أصوات لجنة التحكيم. فالمتابع ( ب .س) لم يكن يرى زيارة أردوغان لإيران كممارسة فعل محض سياسي، يهدف إلى تقوية موقع ودور الدولة التركية في اللعبة الإقليمية، وتشكيل مساحات للمناورة السياسية مع القوى الكبرى، بل كان المتابع العزيز يرى في تلك الزيارة نزعة في الهوية الإسلامية الإقليمية، وميلاً منها عن مسارها السياسي العمومي. ومقابل ذلك لم يكن يرى كل المعاني الثقافية والسياسية والهوياتية، التي كانت تشكلها الرغبة الجامحة للدولة التركية لإستضافة كأس الأمم الأوربية، أو ربما لم يتابع المعلق ذلك الحدث بالأساس.
من طرف تخرج المسيرات الشعبية الصاخبة في الكثير من شوارع بلداننا، التي تزدان بالأعلام التركية، وتنفجر براكين رغباتنا باستعادة ماض عثماني مفتقد، حيث تعود تركيا بمظهر المنقذ من الضلال، ومن طرف آخر فإن التعاون العسكري الإسرائيلي التركي ما يزال بوتيرته التي كانت، حيث لم تلغ صفقة تعاون عسكري واحدة بينهما بالرغم من كل التصعيد الإعلامي القائم بين البلدين، ومنها التعاون في مجال الطيران، حيث أن تركيا تمنح سهوبها للجيش الإسرائيلي ليمارس تدريباته على مساحاتها الشاسعة، ومن ثم يستفيد من خبرته تلك، في قصف وتدمير المناطق التي قال عنها أردوغان في خطابه الأخير أنه لا فرق بينها وبين أنقرة واسطنبول !! .
من طرف نريد أن نرى تركيا كدولة وكتلة بشرية متصالحة ومنسجمة مع نفسها، يقف شعبها بكل أطيافه الثقافية والسياسية خلف قيادته الحكيمة في خياراتها الداخلية وفي سياستها الخارجية، ولذا يمكننا اتخاذها كنموذج وقدوة حسنة لتطوير بلادنا وكنموذج لنضالنا ضد الآخرين، ومن طرف آخر تبدو الدولة التركية شقية في حدة تناقضاتها البينية الداخلية السياسية والهوياتية، حيث ملاين العلويين لا يتمتعون بالحد الأدنى للمساواة بنظرائهم السنة من حيث الاستحواذ على الرعاية الرمزية والمادية لهويتهم الدينية من قبل الدولة ومن حيث ممارسة مؤسساتهم الدينية لحرية التحرك وسلاسة الحضور في الشأن العام التركي. والشيء الذي ينطبق على العلويين ينطبق على نظرائهم الأكراد الذي يعادلونهم عدداً، ويفوقونهم من حيث تلقيهم لغبن الدولة من حيث التخطيط المركزي لمحو هويتهم السياسية الخاصة . وغيرهم ثمة الأرمن وكل المسيحيين الذين يعيشون في تركيا، والذين بين الفينة والأخرى يتعرضون لمهانة الدولة ومركزيتها، وكان آخرها تهديد أردوغان بطرد مئة ألف منهم، “فقط إذ أقر الكونغرس الأميركي موضوع الإبادة الأرمنية!!”. ومن حيث التناقضات السياسية، فإن تركيا تعاني شقاقاً حقيقياً بين يمين إسلامي حاكم هابط، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى انخفاض شعبيته بسبب تعثر مشاريعه الإصلاحية السياسية، وبسبب تراكم عثراته الاقتصادية، وبين يسار وسط صاعد بقيادة ورؤية جديدة، يرى أن المشكلة مع الحزب الحاكم ليست قضية الاختلاف في السياسة الاقتصادية أو الخارجية للدولة، وإنما الخلاف هو على هوية الدولة التركية ومعناها. وحيث إن هذا التناقض بالضبط ربما يكون منبع الرغبة الجامحة للتيار الحاكم بتبني الشعارات التي نرغب بها.
من طرف تبدو تركيا كقائدة لدول محيطها التاريخي، وكحضن لهم وجار متناغم معهم، ومن طرف آخر تمارس نوعاً من السادية السياسية تجاه الإقليم الكردي في العراق. فمرة تهدد بقطع العلاقات التجارية معه ومرة أخرى تهدد باجتياح مناطقه وفي مرات كثيرة تقصف أراضيه بأعذار كثيرة، وغير الإقليم الكردي، ثمة المشكلة الأرمنية التي ترفض تركيا من خلالها الاتساق مع ذاتها وتاريخها من خلال الاعتراف بها كحدث تاريخي قاس، وأن خير واجب للتصالح يكمن في إعادة الاعتبار للضحايا عبر الاعتراف والاعتذار منهم. وثمة الجار السوري، الذي، بالرغم من تحسن العلاقات السياسية معه، إلا أن قضايا مياه الفرات والحدود المزروعة بالقنابل وأراضي الإسكندرون تبقى ملفات تخلخل تلك العلاقة بين الجارين. وثمة قضية الوجود العسكري في قبرص ودعمها للقوى الأصولية في الشيشان .. وثمة الكثير من تلك القضايا التي تنزع عن تركيا تلك الصورة المتمثلة بثوب الأخ النبيل .
من طرف تبدو تركيا كالدولة المتخلية عن كل مصالحها وسياساتها وخططها ومراميها الخاصة، تبدو بالأحرى تلك الدولة التي نذرت نفسها للدفاع عن قضايانا وهمومنا. ومن طرف آخر تبدو الكثير من السياسات الخارجية التركية جزءا من مخططات عامة وكبرى تخدم مصالحها وسياساتها الخاصة أولاً. فثمة حديث جدي في الآونة الأخيرة يرى التحرك التركي كنوع من الضغط الأميركي على حكومة نتنياهو اليمينية بعد مواقفها الرافضة لطلبات القيادة الأميركية، وذلك لثنيها عن السلوك الرافض الذي تمارسه. وأيضا ثمة تحليلات أكثر جدية ترى أن الانخراط التركي الفعال في شؤون المنطقة كفعل لا يخرج عن شاكلة مزاحمة للنفوذ الإيراني من طرف، وذلك بتوافق دولي، ومن طرف آخر ككسب لأوراق مساومة في لعبتها الكبرى مع القوى الأوروبية والآسيوية. أما الرؤية الأكثر جدية للدور التركي، فهي تلك التي تراها كرديف ومؤسس لمصالحها الاقتصادية والسياسية في محيطها الإقليمي الطبيعي. تلك المصالح التي تظهر في أرقام أعداد السائحين وكميات الاستثمار وكتلة البضائع المصدرة لهذا الإقليم البشري المحيط .
من طرف تبدو تركيا التي نريدها، كجامع للصراخ الذي سمعه جيلنا من تراث الناصرية، وروح التضامن الخفي التي كانت تجمعنا مع الحليف السوفيتي والديماغوجيا التي كانت تربطنا بالرفيق الكوري الشمالي والعمق الروحي الذي كان وما يزال يخندقنا مع الأخ الإيراني. وفي المحصلة سنكتشف أن هذه هي تركيا التي نرغبها، لا التي هي بالضبط، وربما من هناك ستكون صدمتنا بها، كما صدمنا بسالفي الذكر كلهم.
فهذه، كما تبدو، هي سنة مدمني الأبطال من الشعوب التي تشبهنا.
المستقبل