سلامة كيلةصفحات مختارة

مطالب الأقليات القومية واضحة، وأيضاً مطالب العرب … هل تنجز «الدولة الوطنية» هوية في عالمنا العربي؟

null

سلامة كيلة

ما كان يسمى «الدولة القطرية» في الخمسينات والستينات والسبعينات حتى الثمانينات، بات يسمى اليوم «الدولة الوطنية». والتي بات يُشتق منها مفهوم الأمة، أو باتت تحمّل هذا المفهوم

وهي عودة لمرحلة أولى جرت هذه المحاولة فيها دون جدوى.

لقد تبلور هذا الميل في السنوات الأخيرة (وربما في سورية والعراق خصوصاً) على ضوء الرفض الذي نشأ ضد نظم «قومية»، نظم تحكمها أحزاب قومية، مارست الاستبداد والإلغاء، وحوّلت الأفراد/المواطنين إلى رعايا. هنا ترابط رفض الاستبداد ونزع المواطنة برفض «الفكر القومي» الذي كان يتحدث عن «الوحدة العربية»، ويرفض «الدولة القطرية». وإذا كان رفض تحوّل الأفراد إلى رعايا يستلزم التأكيد على مبدأ المواطنة، أي العمل على تحويل مبدأ المواطنة إلى ناظم مؤسس للتكوين السياسي، وللدولة، فقد أصبح مجال اشتقاق مفهوم الوطن، عكس ما جرى في التطور الحديث. بمعنى أن تبرير طرح مفهوم المواطنة فرض استجلاب مفهوم الوطن، وبالتالي «الدولة الوطنية». وإذا كان تأسيس مفهوم المواطن ينطلق من حدود الدولة القائمة، لأنه مواطن فيها، وفي إطار السلطة التي تنزع عن الفرد هذا المفهوم لمصلحة مفهوم «قطيعي» هو مفهوم الرعية، فقد عاد هذا المفهوم ليصيغ الوطن في الحدود التي تقوم عليها السلطة هذه التي يرفضها.

هنا سنلمس بأن الدولة هي التي تحدد الوطن عبر مفهوم المواطن. ولهذا التحديد معنى محدد في صيرورة الفكر. حيث يبدو أن الفكر هو الذي يصيغ الواقع. وما من شك في أن الدولة هذه التي تشكلت منذ بداية القرن العشرين تقريباً (رغم أن بعضها تشكل قبل ذلك)، باتت تحدد حدود الوطن، وبالتالي تحدد «الهوية» بمعنى ما.

في المقابل، كان «اكتشاف» التنوع في «الوطن»، التنوع الديني والإثني الذي بدا أنه يهدد وحدة الدولة، يقود إلى التفكير بما هو جامع. فقد أظهرت السنوات السابقة نشوء الحركات الأصولية التي فرضت طرح مشكلة الأقليات الدينية. كما أن محاولات السلطة إلغاء الأقليات القومية وتهميشها، جعل نشوء الميول القومية قوية، وأحياناً حادة. وبالتالي بدا أن هذا الوطن على شفى التفكك، الأمر الذي فرض ذاك الميل للتأكيد على ما هو جامع، وليس غير الدولة القائمة من جامع بين إثنيات وأديان وطوائف، خصوصاً بين إثنيات (أو بين قوميات). وبهذا أصبح مهماً تعريف المواطن بـ «هذا الوطن»، عبر «شطب» كل هذا التنوع من خلال مفهوم المواطنة، حيث أن كل هؤلاء هم مواطنون، هنا في هذا الوطن.

وبالتالي فإن مفهوم المواطنة الذي هو مفهوم سياسي، ويتعلق بتحديد العلاقة بين «السكان» القاطنين في الدولة في المجال السياسي. إنهم متساوون أمام القانون بشكل عام والقانون الذي ينظم الحياة السياسية بشكل خاص، هو الذي يحدد الوطن. نعود لنلمس بأن الفكرة هي التي تحدد الوطن هنا. لأصل إلى أن كل هذه التحديدات، وكل هذه الأسباب التي فرضت القول بأن هذه الدولة هي وطن، أو دولة وطنية (بهذا المعنى وليس بمعنى الوطني في مواجهة قوى الغزو والاحتلال)، لم تلحظ بأن المطلوب هو الإجابة على سؤال: هل في مقدور هذه الدولة أن تشكل «وطنية»، أو «قومية»، أو «أمة»؟

وبالتالي أن نسأل: ما هي الهوية؟

سنلحظ بأن رفض الشعارات القومية (العربية بالتحديد)، وبالتالي تكريس الدولة القطرية تضمن الإقرار بتكوين مجتمعي يحتوي تنوعاً إثنياً ودينياً، كما أن معالجة هذا التنوع كانت عبر التأكيد على مبدأ المواطنة/الوطن. بمعنى أن المطروح هو حل سياسي لمسألة تتعلق بالهوية (بتحديد الذات)، حل يتعلق بنشاط الأفراد في المستوى السياسي، لكنه لا يلغي أو يبدل هوية، وبالتالي يستمر هذا التنوع. ومن ثم ما هو حل وضع الهوية ذاتها؟ الهوية الدينية/الطائفية، والهوية القومية؟ إن الدولة «الوطنية» هنا لا تلغي، ولا تستطيع أن تلغي الانتماءات الأخرى. وهي بالتالي لا تستطيع تشكيل هوية بديلة، أو على الأقل هذا ما يبدو واضحاً إلى الآن.

في الواقع يمكننا أن نلحظ نوعين من «الهويات»، وفق المعنى المتداول لـ «الهوية»: ما يتعلق بالدين وما يتعلق بالقومية. وهما وعي الانتماء الأكثر تبلوراً ووضوحاً. حيث تشكلا عبر صيرورة تطور طويلة، وتنازعا ولازالا. وكما أشرنا فإن تداول مصطلح «الدولة الوطنية» يتحقق كتجاوز لهما معاً. كبديل لهما معاً. فهل يمكنه أن يقوم بهذه المهمة؟ هذه هي المسألة التي تحتاج إلى إجابة قبل الجري نحو «بناء الأمة» على أساس هذا المصطلح.

إذا تلمسنا مسألة الدين والطوائف، نقول بأن ما هو مطروح ليس الإلغاء، فهذا أمر غير مطروح أصلاً، بل تجاوز الطابع الديني للدولة وللسياسة، إخضاع السياسة والدولة لسلطة مقدسة. مع الاحتفاظ بكل الحق في ممارسة الشعائر والمعتقدات الدينية (أي حرية التدين). وهنا يجري الانتقال في تعريف الأفراد من كونهم رعايا لدين معين إلى كونهم مواطنين في دولة (هنا نشير إلى الدولة فقط، حيث أن ذلك أساسي في كل دولة حديثة). وبالتالي فإن «الهوية» الدينية أو الطائفية ليست خاضعة للنفي، فقط يكون ضرورياً فصلها عن السياسة. ومفهوم المواطنة يلعب هذا الدور، وهذه هي حدوده. بمعنى أنْ لا علاقة له بالطابع القومي (أو الوطني، كما يشار) لهذه الدولة. هو خارج هذا الموضوع.

لكن المسألة تختلف حين تناول «الهوية القومية». وإذا كان مفهوم المواطنة يتواشج مع الفكرة القومية كونهما نتاج الحداثة، وبأنهما تجاوز للتحديد «الديني» للفرد/ الإنسان (نحو المواطن، كما نحو الانتماء القومي)، فإن مفهوم المواطنة قد ارتبط بالميل لتأسيس الدولة/ الأمة (أي الدولة القومية). وبالتالي فإذا كان ممكناً لـ «الهويات الدينية والطائفية» أن تُستوعب في إطار «الدولة القطرية» تأسيساً على مفهوم المواطنة هذا، فهل يمكن لـ «الهوية القومية» أن تُستوعب فيها؟ أشرت للتوّ بأن «الهوية الدينية» تُستوعب في «الهوية القومية»، أي يحل التحديد القومي للفرد محل التحديد الديني له في المجال السياسي، إضافة إلى تحديده كمواطن في هذا المجال، لكن هل تستوعب الدولة القطرية (أو الوطنية كما يجري التداول) هذه الهوية؟

هنا يتحدد السؤال في مدى مقدرة «الدولة الوطنية» في أن تؤسس «قومية» بديلة. هل تستطيع ذلك؟ لقد أوضح التطور الحديث الذي نشأ مع بروز الرأسمالية بأن الدولة/ الأمة (الدولة القومية) هي الشكل الجديد للدول، وبأن المسألة القومية عصية على التجاوز دون حل، فهل يمكن أن تؤسس «الدولة الوطنية» قوميتها، أو ستخضع لما أنجزه التاريخ (أي نشوء الأمم)؟

رغم أن «الدولة الوطنية» لم تبلغ القرن بعد في المشرق، والقرنين في مصر والمغرب العربي، لكنها لم تلغ أيّاً من مظاهر الطابع القومي للمنطقة. بمعنى أنها لم تؤسس لغة بديلة، أو ثقافة خاصة، وبالتالي أي شكل من الأشكال التي يمكن أن تفضي إلى تبلور أمة. وهي لذلك ليس لها تاريخ، وحدودها مشكوك فيها. ولم تلغ الشعور القومي لا لدى العرب ولا لدى الأقليات القومية. لهذا سنلمس بأن مطالب الأقليات القومية واضحة، وأيضاً مطالب العرب. وإذا كان ممكناً للأقليات القومية أن تندمج في «الدولة الوطنية» من خلال حصولها على الحقوق الثقافية وحق المواطنة، فإنها ليست الحل للعرب الذين هم أغلبية في هذه الدول، حيث يطمحون وهم يسعون لتحقيق الحداثة لتأسيس الدولة/الأمة. ورغم التكيف مع الدولة القائمة فإن الشعور بالانتماء لما هو أوسع منها يسكن الوعي العام. والمشكلة تكمن فأن تحويل ذلك إلى مشروع سياسي حداثي هو ما جرى الشك فيه، وهو ما يفرض انتقاد ذاك المشروع وليس التشكيك في الأساس المتشكل عبر صيرورة طويلة.

سلامة كيلة

الحياة 14/6/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى