من المجتمع القومي إلى المجتمع الطائفي
د. فيصل دراج
اعتقد المثقفون القوميون العرب، في منتصف القرن الماضي، أنّ القومية العربية الصاعدة شفاء لأمراض المجتمع العربي جميعاً، وأن رحيل الاستعمار يضع العروبة المنشودة في طريق مزدهرة لا عثرات فيها. انطوى الاعتقاد على مبدأ البداهة، معتبراً أن القومية العربية حقيقة صلبة لا يماري فيها أحد، وأن تحقق المجتمع القومي قريب وشيك، على رغم صعوبات متناثرة سائرة إلى الهزيمة. صدر التفاؤل عن «روح العروبة»، التي استيقظت بعد رقاد، وعن «روح الحقيقة» التي تصنع، من دون أن تكترث بأحد، مجتمعاً عربياً موحّداً. مايز هؤلاء المثقفون، بعد ظهور الدولة العربية المستقلة، بين «الدولة القومية» السائرة إلى التحقق ، و«الدولة القطرية»، التي هي انحراف مؤقت يعالجه الزمن من دون تكاليف كثيرة. بدت «الدولة القومية» أفقاً ضرورياً لجميع الدول العربية، صغيرة أكانت أم كبيرة، مشرقية أكانت أم مغربية، ذلك أن «روح العروبة» تنصر الوحدة على التفرقة، وتتحالف مع الصحيح والسليم ضد المريض والشاذ. اعتبر هذا الاعتقاد المطمئن أن الشعوب العربية، في أقطارها المختلفة، متجانسة، موحدة لا تعرف الاختلاف، ولا تؤمن به، وأن مسألة «الأقليات»، أو ما يُدعى بذلك، زائفة مفتعلة، لأن الذي يتكلّم العربية عربي، وأن المعايشة الطويلة تجعل غير العرب عرباً، على مستوى الثقافة والتراث والطموح.
أفضى التفاؤل القومي إلى نتيجتين: أغفل أولاً خصوصيات «المجتمعات العربية» المختلفة، مفترضاً روحاً عربية تجمع بين أهل مصر والشام ، وثقافة عربية تليدة توحّد بين شمال السودان وجنوبه. وأغفل ثانياً العناصر الفعلية التي تشكّل معنى القومية في الأزمنة الحديثة. فإذا كانت القومية الحديثة تفترض عناصر الديمقراطية والمجتمع المدني، ودولة القانون وحقوق المواطنة، والحوار الاجتماعي، شروطاً لوجودها، فإن الاكتفاء بـ«روح العروبة» أقصى هذه العناصر جميعاً، مفترضاً أن ما يحتاجه غير العرب لا يحتاجه العرب، بسبب موروث قديم يساوي بين البداهة والعروبة. وبسبب ذلك لم يعرف الفكر القومي العربي، بعامة، مفهوم المجتمع المدني، مؤمناً بأن المجتمع القومي العربي المنشود يتمتع بالفضائل جميعاً، بدءاً بتطبيق القانون والاعتراف بحقوق المرأة، وصولاً إلى الاعتراف بالعلم الحديث، وقبول التصوّر العلمي وتطبيقاته.
اختزل التصوّر القومي المتفائل الظاهرة القومية، ذات الشروط المعقدة، إلى روح قومية لا وجود لها إلاّ في فكر رومانسي يعترف برغباته ولا يعترف بمعطيات الواقع المشخصة. ساعد ذلك، إلى جانب عناصر أخرى، على اختصار المجتمع العربي المشخص إلى الفكر القومي المتحدّث باسمه، وعلى اختصار الفكر إلى السلطة السياسية الحاكمة التي غدت، في حالات كثيرة، التعبير الوحيد عن «روح العروبة».
لم يكن الاختصار، في وجوهه المتعددة، إلاّ إقصاء للمجتمع ومشكلاته الحقيقية، بشكل يفصل بين دولة قومية مزعومة ومجتمع مقيّد لا يرى في الدولة تعبيراً عنه. أدى هذا الفصل إلى رفض الدولة وشعاراتها الرسمية، ودفع المجتمع المهمّش إلى التماس الأمان لدى مراجعه التقليدية، مثل العشيرة والطائفة والانتماء الجهوي. اكتسحت السلطة المجتمع، وهجس المجتمع المكتسح بـ«دولة أخرى»، لا تختصر المجتمع إلى «إرادتها القومية». والنتيجة المنتظرة تفكك المجتمع، واستمرار سلطات تدعم التفكيك، وتعيد إنتاجه بأشكال مختلفة.
لا غرابة أن لا يظهر اصطلاح «المجتمع المدني»، في الأدبيات السياسية العربية، إلاّ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والأنظمة التابعة له في بلدان أوروبا الشرقية. أراد الاصطلاح الجديد الوافد أن يؤكّد أمرين: إن الدولة الديكتاتورية تؤسس لانهيارها ولإضعاف المجتمع في آن، وأن الاعتراف بالحقوق السياسية للمجتمع شرط لإعادة بناء الدولة والمجتمع معاً. بيد أن أصداء الاصطلاح الجديد بقيت هامشية لأسباب متعددة: فلم يعرف العالم العربي انقلاباً سياسياً مثل ذلك الذي شهدته «أوروبا الشرقية»، ولم يتعرّف إلى البديل السياسي الذي أخذت به. فقد خاضت هذه البلاد معركتها مشدودة إلى الأنموذج الليبرالي الغربي، بينما ظهر اصطلاح المجتمع المدني، عربياً، في سياق فكري سيطرت فيه حركات سلفية وأصولية ودعوات إسلامية متعددة. أكثر من ذلك أن الاصطلاح العاثر الحظ، استيقظ على تمشْيُخ المجتمع والدولة معاً، بلغة بعض علماء الاجتماع، حيث المجتمع المقهور يستجير بالدين، وحيث السلطة الغابنة تتمشيخ كي تعثر على شرعية مفقودة. وإذا كانت الثورة الخمينية قد أسهمت، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، في توطيد صعود الحركات الدينية في العالم العربي، فإن الاحتلال الأميركي للعراق أسهم في الانتقال من الديني إلى الطائفي، أو في بعث المشاريع الطائفية بعثاً غير مسبوق. وواقع الأمر أن تضارب المصالح الأميركية – الإيرانية، في سياق إيراني صاعد، يحوّل الدين إلى أيديولوجيا قومية وجهادية في آن، أتاح للنظام الإيراني توسّعاً مريحاً في الشرق الأوسط، يساوي بين «التشيّع» والجهاد، وبين «الجهاد المتشيّع» وطموحات الدولة القومية. أفضى السياق الراهن، الذي أعقب سقوط النظام العراقي، إلى نتيجتين ملحوظتين: تحوّل الشرق الأوسط، الذي كان مركزاً للفكر القومي العربي في منتصف القرن الماضي، إلى مركز للصراع الطائفي، يلتبس فيها العروبي بالسني، والإيراني بالشيعي، ويلتبس فيه الأخير بالجهاد ضد «الإمبريالية وإسرائيل». وتتجلّى النتيجة الثانية في صعود «الطائفية السياسية» التي تتطلع إلى دولة جديدة تكون فيها الهوية الطائفية مقوّماً من مقوّماتها الأساسية. فقد كان النزوع الطائفي، قائماً بأشكال مختلفة، منذ عقود طويلة، لكنه لم يبحث عن صيغة قانونية له إلاّ في الطور الأخير، محاولاً تسويغ الطائفي وتبريره وتزويده بأسس مادية تعيد إنتاجه وتعطيه قواعد ثابتة.
ومع أن الانتماء الديني، في أشكاله المذهبية المختلفة، أمر مشروع لا غبار عليه، فإن توطيد الخيار الطائفي– السياسي، الذي يصعد ويطغى في ظروف التفكّك الاجتماعي، يؤدي إلى انهيار المجتمع وإعادة تفكيكه. فالوعي الطائفي لا يستقيم، نظرياً وعملياً، إلاّ بمواجهة وعي طائفي مغاير. فلا وجود لطائفة إلاّ في مواجهة طائفة أخرى، ولا تماسك لطائفة إلاّ في سعيها الدؤوب لمحاربة طائفة أخرى وهزيمتها. وفي الحالات جميعاً، فإن كل نظام سياسي يترك معارضة على صورته، فالبعض، مهما قمع وتعسّف، يترك حيزاً للمجتمع المدني، وبعض آخر مختلف يستأصل جذور المجتمع المدني، مخلّفاً وراءه طوائف متحاربة، تستبدل بفكرة المجتمع، وهي فكرة حديثة، فكرة «الجماعة المتعصّبة»، التي هي من بقايا أزمنة بائدة.
كاتب من فلسطين