مأزق ظاهره أفغاني
ميشيل كيلو
منذ بدأ حامد قرضاي، رئيس أفغانستان المؤيد أمريكياً، في التنصل من السياسة الأمريكية، وأخذ يمارس النقد العلني لنتائجها المأساوية على بلاده وشعبها، اكتملت دائرة الأزمة الأمريكية هناك، والتقى موقف رجل واشنطن مع مواقف خصومها وأعدائها، وانكشف الغطاء عن الحرب التي تشنها لتحقيق هدف مستحيل يجسده شعار تضليلي على قدر ما هو ساذج، يقول ب “القضاء على القاعدة والتفاهم مع طالبان” .
لم تحتل أمريكا أفغانستان عام 2001 كي تتفاهم مع طالبان، ولم ترسل ب “قوات التحالف” إلى هناك من أجل إجراء مصالحة وطنية بين الأطراف الأفغانية المتصارعة / المتحاربة، وإنما غزت تلك المنطقة النائية من العالم واحتلتها لأهداف استراتيجية كبرى تتصل بسيطرتها على طرق ومناطق الوصل والفصل بين روسيا والصين، والهند وروسيا، وباكستان والهند، وإيران والصين، التي كانت قد مهدت لاحتلالها بدخولها العسكري المباشر والكثيف إلى البلقان، ثم جمهوريات جنوب روسيا، وتوّجتها باحتلال العراق، ناشرة عسكرها في مناطق لم يسبق لهم أن وجد فيها، كان وجودها السياسي والاستراتيجي ضعيفاً فيها . في ما بعد، تبين أن لسيطرتها العسكرية خلفيات اقتصادية، فمن المعروف أن هذه المنطقة الشاسعة تضم أغنى احتياط نفطي في العالم، وفيها، حسب إعلان أمريكي صدر مؤخراً، أحد أكبر خزانات العالم من المواد الأولية والثروات الطبيعية، قدر الخبراء قيمته في إعلانهم بألف مليار دولار، ثم رفعوها إلى ثلاثة آلاف مليار من الدولارات، فهو خزان عظيم الأهمية لأمريكا وللعالم الذي يعيش أزمة نضوب كثير من موارده الطبيعية، بينما تمس حاجة دوله جميعها إلى الموارد وتتنافس الاقتصادات الكبرى على الانفراد بامتلاكها، ويغطي الصراع عليها أكثر فأكثر علاقات دول ومناطق الكون، لما يمثله التفرد في استثمارها من مزايا على بقية الاقتصادات . هنا، في المجال الاقتصادي تدور حرب شرسة تشارك فيها الدول المتقدمة والصاعدة، تتبدى في هجوم الصين على النفط ومصادره، وفي محاولات أمريكا ودول الغرب الأخرى منعها من أخذ حصة مستقلة منه، ومن التمركز في مناطق المواد الأولية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، على رغم تدفق استثمارات صينية هائلة عليها وإقامة مصانع كبرى على أرضها، وفتح وتوسيع الأسواق المحلية والإقليمية بالتعاون معها .
منذ عام الغزو في ،2001 واجهت أمريكا مصاعب جدية في أفغانستان، عبّرت عن نفسها في كثرة الاستراتيجيات العسكرية والسياسية التي اعتمدتها، وفي سرعة تخليها عنها . هذه الاستراتيجيات وصل عددها إلى ثلاث في السنوات التسع الماضية كان مصير اثنتين منها الفشل الصريح، وتشير قرائن متنوعة إلى أن ثالثتها، تلك التي طورتها إدارة أوباما، لن تكون أفضل حالاً، فهي تعاني بدورها مشكلات لا تعرف كيف تتخطاها، دفعت الجنرال ماكريستال، الرجل الذي وضع تصورها الأولي وتفاصيلها وجعل البيت الأبيض يعتمدها رسمياً، إلى التنصل منها، ومن الدوائر والجهات السياسية الأمريكية المشرفة على توجيهها وتطبيقها . ومع أن فكرة فصل السكان عن طالبان، وهي جوهر ومضمون هذه الاستراتيجية، ليست جديدة، بل اعتمدتها جميع استراتيجيات الحرب ضد مقاتلي الحروب الشعبية المعروفة باسم “حروب العصابات”، فإن أمريكا أثارت ضجة كبيرة حولها، بعد أن ربطتها باستراتيجية أخرى تقوم على شق صفوف الثوار ودفعهم إلى محاربة بعضهم بعضاً، تطبيقاً لاستراتيجية قديمة جربها الأمريكيون في فيتنام، عندما حاولوا دفع الفيتناميين إلى محاربة بعضهم بعضاً، وعملوا على تصعيد القتال بينهم وتحويله إلى حرب أهلية يتحكم جيشهم بمجرياتها، ويتكفل بإيصالها إلى حيث يريد: إخضاع البلاد من خلال تدميرها بواسطة حرب داخلية عالية الشدة تستنزف طاقات جميع أطرافها، وتجبرها على قبول الاحتلال الأمريكي . وليس سراً أن خطة أفغنة الحرب بدت واعدة نظرياً بعد نجاح عرقنة الصراع بفضل ما عرف ب “الصحوات” التي قاتلت تنظيم القاعدة إلى جانب الجيش الأمريكي، وتمكنت من تسديد ضربات قوية إليه قيدت نشاطه . ومن يتابع ما يجري في أفغانستان، سيجد نموذج “الصحوات” في أصل التخطيط الأمريكي هناك، وسيفهم لماذا رفع قرضاي شعار المصالحة الوطنية، ودعا ماكريستال إلى الرفق بالشعب والتشدد مع “طالبان”، ولماذا تم إطلاق سراح بعض المقاتلين الأسرى، وعقد مؤتمر “اللويا جيركا” في كابول، ولقاء قندهار بين قرضاي ورؤساء عشائر وقبائل المنطقة، وأثيرت أخيراً تلك الدعاية القوية حول قرب الوصول إلى الهدف: عزل “طالبان” وإنزال الهزيمة بقواتها، بعد هجمات ولاية هلمند التي قيل إنها ستنتزع تلك المنطقة الاستراتيجية من “طالبان”، والهجوم الجاري منذ أسابيع على قندهار، الذي اعتبره ماكريستال حاسماً بالنسبة إلى مجرى الحرب بأسرها .
جاء إعلان أمريكا عن اكتشاف الثروات في أفغانستان في سياق تعاظم متاعب جيشها هناك، وظهور قرائن على فشل استراتيجية الإدارة التي قامت في أحد جوانبها على تحديد موعد لبدء الانسحاب الأمريكي وتسليم الأمن للقوات الأفغانية بدءاً من منتصف العام المقبل . في سياق هذه المصاعب، وقع أيضاً إعلان ماكريستال فشل السياسة الأمريكية ودعوته إلى بديل يقوم على الوقائع وليس على الخطط . هذان العاملان: ضرورة وجود أمريكا قرب الثروة الواعدة بمدلولاتها الاقتصادية الهائلة الأهمية بالنسبة إلى الصراع مع بقية مراكز ومفاصل الاقتصاد العالمي، وصعوبات الاستمرار في الحرب ضد “طالبان”، يفسران تخبطها وتناقض ما يقترحه قادتها من حلول لمشكلاتها الأفغانية . فهل سنسمع قريباً باستراتيجية أمريكية رابعة، أم أننا سنكون أمام توجهات لعقد صفقة مع “طالبان” تقر بسيطرتهم على البلاد مقابل السماح لواشنطن باستغلال ثروات أفغانستان الطبيعية من مواد أولية ونفط وغاز؟ أم أن البيت الأبيض سيواصل سعيه الحالي لبعض الوقت، بانتظار تحسن ما تحققه قواته، يتيح له فرصاً أفضل للتحكم بالوضع والتراجع عن وعده بالانسحاب، وينطلق من أسس تتخطى جهوده الراهنة تتضمن خلطة جديدة من الحلول تعزز نهجه حول فصل الشعب عن المقاتلين، وفصل هؤلاء بعضهم عن بعض، وبلورة علاقات قوى بالاتفاق مع القبائل التي اجتمعت في كابول وقندهار؟ إن تعيين الجنرال باتريوس، الرجل الذي وقف وراء تجربة صحوات العراق، بعد طرد الجنرال ماكريستال، يشير إلى إمكانية التركيز على الاحتمال الأخير الذي يتابع نهج الفصل بين الشعب والمقاتلين، والوقيعة بين الأفغان .
هذه كلها احتمالات غير مؤكدة، لكن أهميتها تكمن في تأكيدها حاجة أمريكا إلى سياسة بديلة أو مختلفة في أفغانستان، تأخذ بعين الاعتبار عجزها عن السيطرة على الأوضاع بسياساتها الراهنة ووسائلها العسكرية المعتمدة، وتفرض عليها الانتقال إلى نهج مختلف، تتفادى بواسطته هزيمة مهينة تلوح علاماتها في الأفق، ويضع يدها، في الوقت نفسه، على ثروات هي بأمس الحاجة إليها تعوضها عن خسارة موقع البلاد الاستراتيجي ومكانها في الخطط الأمريكية الكونية، إن هي انسحبت فعلاً من هناك .
يقاس فشل أية حرب بعلامتين: احتجاز عسكري ميداني يتظاهر في العجز عن قهر العدو، ثم في العجز المتزايد عن حماية الذات، ووقوع خلاف على مستوى القيادات حول الاستراتيجيات الواجبة الاتباع يفضي إلى تخبط في رؤاها وخططها ويجعلها تتخلى اليوم عن الاستراتيجيات التي اعتمدتها وروجت لها البارحة .
يشير عدد قتلى “قوات التحالف” الشهر الماضي (قرابة مائة قتيل من أصل حوالي 330 خلال الفترة المنصرمة من هذا العام)، إلى أن نقلة وقعت في ميدان القتال، يجسدها فشل جيش أمريكا في ضرب العدو، ودخول جنودها في مرحلة العجز عن حماية أنفسهم، بينما يؤكد تغيير الاستراتيجيات، وموقف ماكريستال وما ترتب عليه من رد فعل رسمي انتهى بإقالته، أن عسكر واشنطن يعيش حالة من البلبلة تشبه تلك التي عاشها في فيتنام وانتهت بهزيمتهم .
هذا هو الوضع الأمريكي المعقد الذي يحاولون حجب حقائقه، عبر تحويل قضية ماكريستال من قضية تكشف أبعاد هذا الوضع التحولي، إلى مسألة تتصل بالانضباط العسكري وخضوع الجنرالات للقيادة المدنية والسياسية في البيت الأبيض . إنها أزمة مركبة تمس مجمل الوضع الأمريكي في المنطقة الواقعة بين البلقان والصين، وإن تجلت بصورة ملموسة في أفغانستان، حيث يظهر المدى الذي بلغه إفلاس سياساتها تجاه الصغار، وكذلك في الأزمة المالية الدولية التي بينت من جانبها كم تراجعت مكانتها تجاه الكبار، وإلا كيف نفهم صدور تصريحات رسمية أمريكية على أعلى مستوى يدعو أصحابها إلى التخلي عن سياسات القطب الأوحد، والعودة إلى تعدد مراكز القرار في العالم، عسى أن يوقف هذا النهج الواقعي تدهور مكانة أمريكا الدولية، ويحمل الدول الأخرى بعض تكاليف انفراد قلة من الدول والشعوب الغنية بالقسم الأعظم من خيرات البشرية وعوائد عملها، وبالسيطرة على مصائرها .
الخليج